قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ، قرأ أبو جعفر وأهل البصرة : ( تكون ) بالتاء والباقون بالياء ، وقرأ أبو جعفر : ( أسارى ) ، والآخرون ( أسرى ) . وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم ، واستأن بهم ، لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، ومكني من فلان -نسيب لعمر- فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم ناراً . فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من ا لحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 36 ] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ومثلك يا عبد الله بن رواحة مثل موسى قال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } [ يونس : 88 ] ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فأني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء ، قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاءً بكيت ، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، -لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه- وسلم ، وأنزل الله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } [ الأنفال : 67 – 69 ] فأحل الله الغنيمة لهم . بقوله : { له أسرى } جمع أسير مثل قتلى جمع قتيل .
قوله تعالى : { حتى يثخن في الأرض } ، أي : يبالغ في قتال المشركين وأسرهم . قوله تعالى : { تريدون } ، أيها المؤمنون { عرض الدنيا } بأخذكم الفداء .
قوله تعالى : { والله يريد الآخرة } ، يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ، ونصركم دين الله عز وجل .
قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } . وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية أربعون درهما ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى { فإما مناً بعد وإما فداءً } ، [ محمد : 4 ] فجعل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم .
{ 67 -69 ْ } { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ }
هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم { بدر ْ } إذ أسروا المشركين وأبقوهم لأجل الفداء ، . وكان رأي : أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في هذه الحال ، قتلهم واستئصالهم .
فقال تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ْ } أي : ما ينبغي ولا يليق به إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه ويسعوا لإخماد دينه ، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد اللّه ، أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لأجل الفداء الذي يحصل منهم ، وهو عرض قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم وإبطال شرهم ، . فما دام لهم شر وصولة ، فالأوفق أن لا يؤسروا . .
فإذا أثخنوا ، وبطل شرهم ، واضمحل أمرهم ، فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم وإبقائهم .
يقول تعالى : { تُرِيدُونَ ْ } بأخذكم الفداء وإبقائهم { عَرَضَ الدُّنْيَا ْ } أي : لا لمصلحة تعود إلى دينكم .
{ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ْ } بإعزاز دينه ، ونصر أوليائه ، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم ، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك .
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ } أي : كامل العزة ، ولو شاء أن ينتصر من الكفار من دون قتال لفعل ، لكنه حكيم ، يبتلي بعضكم ببعض .
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى - بمناسبة تصرف الرسول [ ص ] والمسلمين في أسرى بدر - وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة :
( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ، واتقوا الله ، إن الله غفور رحيم ) .
( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى : إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم ، والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ، والله عليم حكيم ) . .
قال ابن إسحاق - وهو يقص أخبار الغزوة - : " فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ، ورسول الله [ ص ] في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله [ ص ] متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله [ ص ] يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله [ ص ] فيما ذكر لي ، في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس .
فقال له رسول الله [ ص ] : " والله لكأنك يا سعد تكره مايصنع القوم ! " قال : أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ! "
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم - قال : لما كان يومئذ التقوا ، فهزم الله المشركين ، فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً ، واستشار رسول الله [ ص ] أبا بكر وعمر وعلياً . فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ؛ وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً . فقال رسول الله [ ص ] : " ما ترى يا ابن الخطاب ? " قال قلت : والله ما أرى رأي أبي بكر ، ولكني أرى أن تمكني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتمكن علياً من عقيل [ ابن أبي طالب ] فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ! . . فهوى رسول الله - [ ص ] - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء . . فلما كان من الغد - قال عمر - فغدوت إلى النبي [ ص ] وأبي بكر وهما يبكيان . فقلت : ما يبكيك أنت وصاحبك ? فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ! قال النبي [ ص ] : " للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء . لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة من النبي [ ص ] - وأنزل الله عز وجل : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض )إلى قوله : ( فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً )فأحل لهم الغنائم . . . ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن هاشم ، عن حميد ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : استشار النبي [ ص ] الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال : " إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] ، فقال : " يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] ، فقال للناس مثل ذلك . فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء . قال : فذهب عن وجه رسول الله [ ص ] ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء . قال : وأنزل الله عز وجل : ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) .
وقال الأعمش ، عن عمر بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " ما تقولون في الأسارى ? " فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم . . وقال عمر : يا رسول الله ، كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم . . وقال عبدالله بن رواحة : يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب . فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه ! فسكت رسول الله [ ص ] فلم يرد عليهم شيئاً . ثم قام فدخل . فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول عبدالله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله [ ص ] فقال : " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) . وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) . وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) . أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام ! فسكت رسول الله [ ص ] فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على ّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله [ ص ] " إلا سهيل بن بيضاء " . فأنزل الله عز وجل : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . . . )إلى آخر الآية . . . [ رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به ، والحاكم في مستدركه وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ] .
والإثخان المقصود : التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين ، وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر . فعاتب الله المسلمين فيه .
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين . وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة . وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين . وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء .
وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب . . ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول : " وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " .
لهذين السببين البارزين نحسب - والله أعلم - أن الله - سبحانه - كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال . ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص - وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف - قال الله تعالى :
( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) .
" ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى :
أي : فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم ؛ وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم !
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله ، فهو خير وأبقى . والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا !
قدر لكم النصر ، وأقدركم عليه ، لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين( ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) .
استئناف ابتدائي مناسب لما قبله سواء نزل بعقبه أم تأخّر نزوله عنه فكان موقعه هنا بسبب موالاة نزوله لنزول ما قبله أو كان وضع الآية هنا بتوقيف خاصّ .
والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد ، وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر . لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها .
وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخّره الله تعالى رفقاً بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراماً لهم على ذلك النصر المبين ، وسدّاً لخلّتهم التي كانوا فيها ، فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر . وذلك ما رواه مسلم عن ابن عبّاس ، والترمذي عن ابن مسعود ، ما مُختصره أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفاديهم بالمال وعَاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين " ما تَرون في هؤلاء الأسارى " ، قال أبو بكر : « يا نبي الله هم بنو العمّ والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكفّار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام » وقال عُمر : أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها فَهوي رسولُ الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } الآية .
ومعنى قوله : هَوِيَ رسولُ الله ما قال أبو بكر : أنّ رسول الله أحبّ واختار ذلك ؛ لأنّه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً . وروي أنّ ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين ، وهم في حاجة إلى المال . ولمّا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ مشُورته تعيّن أنّه لم يُوح الله إليه بشيء في ذلك ، وأنّ الله أوْكل ذلك إلى اجتهاد رسوله عليه الصلاة والسلام فرأى أنّ يستشير الناس ثم رجَّح أحد الرأيين باجتهاد ، وقد أصاب الاجتهادَ ، فإنّهم قد أسلم منهم ، حينئذ ، سُهيل بن بيضاء ، وأسلم من بعدُ العباسُ وغيره ، وقد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم شيء لم يعلمه إلاّ الله وهو إضمار بعضهم بعد الرجوع إلى قومهم أن يتأهّبوا لقتال المسلمين من بعد .
وربّما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يومَ أُحُد ، فلأجل هذا جاء قوله تعالى : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } .
قال ابن العربي في « العارضة » : روى عبيدة السلماني عن علي أنّ جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيّره بين أن يقرِّب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء ، ويُقتل منكم في العام المقبل بعدّتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا جبريل يخيّركم أن تقدّموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم " ، فقالوا : يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدوّنا ويقتل منّا في العام المقبل بعدّتهم ، ففعلوا .
والمعنى أنّ النبي إذا قاتل فقتاله متمحّض لغاية واحدة ، هي نصر الدين ودفع عدائه ، وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتْباع الدين في قلّة كان قتل الأسرى تقليلاً لعدد أعداء الدين حتّى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال ، وانتفاء خشية عود العدوّ إلى القوة . فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله : { ما كان لنبيء } .
والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء ، وليس موجّهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه ما فعل إلاّ ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] لا سيما على ما رواه الترمذي من أنّ جبريل بلّغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيّر أصحابه ويدلّ لذلك قوله : { تريدون عرض الدنيا } فإنّ الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء ، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حظّ .
فمعنى { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } نفي اتّخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون .
وجيء ب ( نبيء ) نكرِة إشارة إلى أنّ هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني إسرائيل ، وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية .
ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] . وقد يجيء بمعنى أنه لا يصْلح ، كما هُنا ، لأن هذا الكلام جاء تمهيداً للعتاب فتعيّن أن يكون مراداً منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة .
ومعنى هذا الكون المنفي بقوله : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } هو بقاؤهم في الأسر ، أي بقاؤهم أرقّاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء . وليس المراد أنّه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى ، لأنّ أخذ الأسرى من شؤون الحرب ، وهو من شؤون الغلَب ، إذا استسلم المقاتلون ، فلا يعقِل أحدٌ نفيه عن النبي ، فتعيّن أنّ المراد نفي أثره ، وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين : وهما المنّ عليهم بإطلاقهم ، أو قتلُهم ، ولا يصلح المنُّ هنا ، لأنّه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض ، فتعيّن أنّ المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده ، أي أنّ ذلك الأجدر به حين ضَعُف المؤمنين ، خضِداً لشوكة أهل العناد ، وقد صار حكم هذه الآية تشريعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيمن يأسرهم في غزواته .
والإثخان الشدة والغلظة في الأذى . يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه ، وقد شاع إطلاقه على شدّة الجراحة على الجريح . وقد حمله بعض المفسّرين في هذه الآية على معنى الشدّة والقوة . فالمعنى : حتى يتمكّن في الأرض ، أي يتمكّن سلطانه وأمره .
وقوله : { في الأرض } على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية ، أي يتمكّن في الدنيا . وَحَمَلَهُ في « الكشّاف » على معنى إثخان الجِراحة ، فيكون جرياً على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم المقاتل الذي يَجرَج قِرنَه جراحاً قوية تثخنه ، أي حتّى يُثخن أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع ، ويكون قوله : { في الأرض } قرينة التمثيلية .
والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميللِ إليه ، وغضّ النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين ، فإنّ في هلاكهم خضداً لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضَى السياسي العَرضي على المقتَضَى الذي بُني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] . وقد كان هذا المسلك السياسي خفيّاً حتّى كأنه ممّا استأثر الله به ، وفي الترمذي ، عن الأعمش : أنّهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحلّ لهم ، وهذا قول غريب فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم ، وهو في الصحيح .
وقرأ الجمهور { أن يكون له } بتحتية على أسلوب التذكير . وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو جعفر بمثناة فوقية على صيغة التأنيث ، لأنّ ضمير جمع التكسير يجوز تأنيثه بتأويل الجماعة .
والخطاب في قوله : { تريدون } للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام غيرُ معاتَب لأنّه إنّما أخذ برأي الجمهور وجملة : { تريدون } إلى آخرها واقعة موقع العلّة للنهي الذي تضمّنته آية { ما كان لنبيء } فلذلك فصلت ، لأنّ العلّة بمنزلة الجملة المبيِّنة .
و { عرض الدنيا } هو المال ، وإنّما سُمّي عرضاً لأنّ الانتفاع به قليل اللبث ، فأشبه الشيء العارض إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه لأنه يعرض للماشين بدون تهيّؤ . والمراد عرض الدنيا المحض وهو أخذ المال لمجرد التمتع به .
والإرادة هنا بمعنى المحبّة ، أي : تحبون منافع الدنيا والله يحبّ ثواب الآخرة ، ومعنى محبّة الله إيّاها محبّته ذلك للناس ، أي يحبّ لكم ثواب الآخرة ، فعلّق فعل الإرادة بذات الآخرة ، والمقصود نفعها بقرينة قوله : { تريدون عرض الدنيا } فهو حذف مضاف للإيجاز ، وممّا يحسنه أنّ الآخرة المرادة للمؤمن لا يخالط نفعها ضرّ ولا مشقّة ، بخلاف نفع الدنيا .
وإنما ذكر مع { الدنيا } المضافُ ولم يحذف : لأنّ في ذكره إشعاراً بعروضه وسرعة زواله .
وإنّما أحبّ الله نفع الآخرة : لأنّه نفع خالد ، ولأنّه أثر الأعمال النافعة للدين الحقّ ، وصلاح الفرد والجماعة .
وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات ، هي أمارات أمره ونهيه ، فكلّ عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظّ من نفع الآخرة ، فهو غير محبوب لله تعالى ، وكلّ عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبّة من الله تعالى ، وهذا الفداء الذي أحبّوه لم يكن يَحفّ به من الأمارات ما يدلّ على أنّ الله لا يحبّه ، ولذلك تعيّن أنّ عتاب المسلمين على اختيارهم إيّاه حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنّما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش ، حين تخيّروا الفداء أي أنهم مَا راعوا فيه إلا محبّة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبّههم على أنّ حقيقاً عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم ، الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة ، فإنّ أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند الاستشارة « قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك » فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعلَّ هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش .
ويجوز عندي أن يكون قوله : { تريدون عرض الدنيا } مستعملاً في معنى الاستفهام الإنكاري ، والمعنى : لعلّكم تحبّون عرض الدنيا فإنّ الله يحبّ لكم الثواب وقوة الدين ، لأنّه لو كان المنظور إليه هو النفع الدنيوي ؛ لكان حفظ أنفس الناس مقدّماً على إسعافهم بالمال ، فلما وجب عليهم بذل نفوسهم في الجهاد . فالمعنى : يوشك أن تكون حالكم كحال من لا يحبّ إلاّ عرض الدنيا ، تحذيراً لهم من التوغل في إيثار الحظوظ العاجلة .
وجملة : { والله عزيز حكيم } عطف على جملة : { والله يريد الأخرة } عطفاً يؤذن بأنّ لهذين الوصفين أثراً في أنّه يريد الآخرة ، فيكون كالتعليل ، وهو يفيد أنّ حظ الآخرة هو الحظّ الحقّ ، ولذلك يريده العزيز الحكيم .
فوصف { العزيز } يدلّ على الاستغناء على الاحتياج ، وعلى الرفعة والمقدرة ، ولذلك لا يليق به إلاّ محبة الأمور النفيسة ، وهذا يومىء إلى أن أولياءه ينبغي لهم أن يكونوا أعزّاء كقوله في الآية الأخرى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] فلأجل ذلك كان اللائق بهم أن يربأوا بنفوسهم عن التعلّق بسفاسف الأمور وأن يجنحوا إلى معاليها .
ووصف الحكيم يقتضي أنّه العالم بالمنافع الحقّ على ما هي عليه ، لأنّ الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما كان لنبي} من قبلك يا محمد {أن يكون له أسرى حتى يثخن} عدوه {في الأرض} ويظهر عليهم، {تريدون عرض الدنيا}، يعني المال، وهو الفداء من المشركين، نزلت بعد قتال بدر، {والله يريد} لكم {الآخرة والله عزيز}، يعني منيع في ملكه، {حكيم} في أمره، وذلك أن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء ولا المؤمنين قبل محمد صلى الله عليه وسلم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما كان لنبيّ أن يحتبس كافرا قدر عليه وصار في يده من عَبَدَة الأوثان للفداء أو للمنّ. والأسر في كلام العرب: الحبس، يقال منه: مأسور، يراد به: محبوس... وإنما قال الله جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعرّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم.
وقوله:"حتى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ" يقول: حتى يبالغ في قتل المشركين فيها، ويقهرهم غلبة وقسرا، يقال منه: أثخن فلان في هذا الأمر إذا بالغ فيه، وحُكي أثخنته معرفة، بمعنى: قتلته معرفة. "تريدون": يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأسركم المشركين، وهو ما عرض للمرء منها من مال ومتاع، يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها. "وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ "يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة، وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض، يقول لهم: واطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها. "وَاللّهُ عَزِيرٌ" يقول: إن أنتم أردتم الآخرة لم يغلبكم عدوّ لكم، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب، وإنه "حَكِيمٌ" في تدبيره أمره خلقه...
عن ابن عباس، قوله: ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتدّ سلطانهم، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: "فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً" فجعل الله النبيّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادَوْهم...
حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تَقُولُونَ في هَؤُلاءِ الأسْرَى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستأن بهم، لعلّ الله أن يتوب عليهم وقال عمر: يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا قال: فقال له العباس: قطعت رَحِمَكَ. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل فقال ناسٌ: يأخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ، وَقالَ ناسٌ: يأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ، وَقالَ ناسٌ: يَأْخُذُ بقَوْلِ عبَدْ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن اللّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجالٍ حتى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللّبَنِ، وإن اللّهَ لَيُشَدّدَ قُلُوبَ رِجالِ حتى تَكُونَ أشَدّ مِنَ الحِجارَةِ، وَإنّ مَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ، قالَ: "مَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رُحِيمٌ" وَمَثَلَكَ يا أبا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى، قالَ: "إنْ تُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ..."، ومَثَلَكَ يا عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ قالَ: "رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا"، وَمَثَلُكَ يا ابْنَ رَوَاحَةَ كمَثَلِ مُوسَى، قالَ: "رَبّنا اطْمِسْ على أمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ"». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنْتُمُ اليَوْمَ عالَةٌ، فَلا ينْفَلِتَنّ أحَدٌ مِنْهُمْ إلاّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْبِ عُنُقٍ» قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلاّ سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ» قال: فأنزل الله: "ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ..." إلى آخر الثلاث الآيات.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا أبو زميل، قال: ثني عبد الله بن عباس، قال: لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيْنَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَر وعَليّ؟» قال: «ما ترون في الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوّة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تَرَى يا ابْنَ الخَطّابِ؟» فقال: لا والذي لا إله إلا هو ما أرى الذي رأى أبو بكر يا نبيّ الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فتمكن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. قال عمر: فلما كان من الغد جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبْكِي للّذِي عَرَضَ لأصَحابِي مِنْ أخْذِهِمُ الفِدَاءَ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَليّ عَذَابُكُمْ أدْنَى مِنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ» لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ "ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُثْخِنَ في الأرْضِ..." إلى قوله: "حَلالاً طَيّبا" وأحلّ الله الغنيمة لهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو بكر الكيساني: عاتب الله رسوله وأصحابه في أخذ الأسارى بقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) وبالغ في العتاب في أخذ الفداء من الأسارى بقوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ).
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وهذا نزل في أسرى بدر حين استقر رأي النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بعد مشاورة أصحابه على الفداء بالمال، كل أسير بأربعة آلاف درهم، فأنكر الله تعالى ذلك عليه وأنه ما كان له أن يفادي الأسرى. {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} فيه وجهان: أحدهما هو الغلبة والاستيلاء، قاله السدي. والثاني: هو كثرة القتل ليُعزَّ به المسلمون ويذل به المشركين. قاله مجاهد. {يُرِيدُونَ عَرَضَ الْدُّنْيَا} يعني المال، سماه عرضاً لقلة بقائه. {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرة} يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "والله يريد الآخرة "معناه: والله يريد عمل الآخرة من الطاعات التي تؤدي إلى الثواب، وإرادة الله لنا خير من إرادتنا لأنفسنا. وقوله "والله عزيز حكيم" معناه يريد عمل الآخرة، فإنه يعزكم ويرشدكم إلى إصلاحكم، لأنه عزيز حكيم، فلا تخافوا قهرا مع إعزازه إياكم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَاللهُ عَزِيزٌ}: بالانتقام من أعدائه "حكيمُ ": في جميع ما يصنع من التمليك والإملاك، والتيسير والتدبير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...ومعنى الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، يعني حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر، ثم الأسر بعد ذلك. ومعنى {مَا كَانَ}: ما صح له وما استقام، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: 4]... {عَرَضَ الدنيا} حطامها، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث، يريد الفداء {والله يُرِيدُ الأخرة} يعني ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل... يعني ثوابها.
{والله عَزِيزٌ} يُغلِّب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلاً وأسراً ويطلق لهم الفداء، ولكنه {حَكِيمٌ} يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم، والمعنى ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان، ولهم هو الإخبار ولذلك استمر الخطاب ب {تريدون}، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية مشيراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العتب حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش، وأنكره سعد بن معاذ ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر وظهور النصر فترك النهي عن الاستبقاء ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت هذه الآية...
واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلم {والله عزيز حكيم} والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب حكيم في تدبير مصالح العالم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ختم الله تعالى سياق القتال في هذه السورة بأحكام تتعلق بالأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال في الغالب كما وقع في غزوة بدر، وكما يقع في كل زمان. وفصله عما قبله لأنه بيان مستأنف لما شأنه أن يسأل عنه ولا سيما عارفي قصة غزوة بدر وأهلها...
ومعنى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء إلا بعد أن يثخن في الأرض أي حتى يعظم شأنه فيها ويغلظ ويكثف بأن تتم له القوة والغلب فلا يكون اتخاذه الأسرى سببا لضعفه أو قوة أعدائه، وهو في معنى قول ابن عباس رضي الله عنه حتى يظهر على الأرض، وقول البخاري حتى يغلب في الأرض. وفسره أكثر المفسرين بالمبالغة في القتل، وروي عن مجاهد وهو تفسير بالسبب لا بمدلول اللفظ، وفي التفسير الكبير للرازي: قال الواحدي الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوة المرض عليه وكذلك أثخنه الجراح، والثخانة الغلظة، فكل شيء غليظ فهو ثخين فقوله: {حتى يثخن في الأرض} معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر. ثم إن كثيرا من المفسرين قالوا: المراد منه حتى يبالغ في قتل أعدائه قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة وإنما تقوى وتشتد بالقتل... ولأن كثرة القتل توجب الرعب وشدة المهابة وذلك يمنع من الجرأة ومن الإقدام على مالا ينبغي فلهذا السبب أمر الله بذلك اه.
وأقول: إن من المجربات التي لا شك فيها أن الإثخان في قتل الأعداء في الحرب سبب من أسباب الإثخان في الأرض، أي التمكن والقوة وعظمة السلطان فيها، وقد يحصل هذا الإثخان بدون ذلك أيضا: يحصل بإعداد كل ما يستطاع من القوى الحربية ومرابطة الفرسان والاستعداد التام للقتال الذي يرهب الأعداء كما تقدم في تفسير {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} وما هو ببعيد. وقد يجتمع السببان، فيكمل بهما إثخان العزة والسلطان. كما أن الإسراف في القتل قد يكون سببا لجمع كلمة الأعداء واستبسالهم...
وجملة القول في تفسير الآيتين أن اتخاذ الأسرى إنما يحسن ويكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل: أما في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وأما في الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.
ثم قال تعالى بعد هذه القاعدة العامة التي تقرها ولا تنكرها علوم الحرب وفنونها في هذا العصر {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} وهو إنكار على عمل وقع من الجمهور على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة معا بقصد دنيوي وهو فداء الأسرى بالمال، ليس من شأن الأنبياء ولا مما ينبغي لهم مخالفتها ولو بإقرار مثل ذلك العمل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أسرى بدر الفداء برأي أكثر المؤمنين بعد استشارتهم فتوجه العتاب إليهم بعد بيان سنة النبيين في المسألة الدال بالإيماء على شمول الإنكار والعتاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وسنذكر حكمة ذلك وحكمة هذا الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم بعد بيان ما ورد في الواقعة.
والمعنى تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم والعرض في الأصل ما يعرض ولا يدوم ولا يثبت واستعاره علماء المعقول لما يقوم بغيره لا بنفسه كالصفات وهو يقابل الجوهر وهو عندهم ما يقوم بنفسه كالأجسام. والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما عملتم بها، ومنه الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة بقصد الإثخان في الأرض، والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل، فهو كقوله في رخصة ترك الصيام في السفر والمرض {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185] وليس المراد به إرادة الخلق والتكوين فإن هذا لا يظهر ههنا ولا هناك، ولذلك لجأ من لم يفطن من المفسرين لما ذكرنا في تفسير الإرادة إلى قول المعتزلة فقالوا أي يحبه ويرضاه لكم، بإعزاز الحق والإيمان، وإزالة قوة الشرك والطغيان.
{والله عزيز حكيم} فيحب للمؤمنين أن يكونوا أعزة غالبين، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8] كما يحب لهم أن يكونوا حكماء ربانيين، يضعون كل شيء في موضعه. وإنما يكون هذا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء أسرى المشركين وهم في عنفوان قوتهم وكثرتهم، وهذه القاعدة تعدها دول المدنية العسكرية من أسس السياسة الاستعمارية فإذا رأوا من البلاد التي يحتلونها أدنى بادرة من أعمال المقاومة بالقوة ينكلون بأهلها أشد تنكيل فيخربون البيوت ويقتلون الأبرياء مع المقاومين بل لا يتعففون عن قتل النساء والأطفال بما يمطرون البلاد من نيران المدافع وقذائف الطيارات، والإسلام لا يبيح شيئا من هذه القسوة، فإنه دين العدل والرحمة.
لأصحاب التفسير المأثور في هذه النازلة عدة روايات عن علماء الصحابة رضي الله عنهم نذكر أهمها وأكثرها فائدة: روى ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر جيء بالأسارى فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه انظروا واديا كثير الحطب فاضرمه عليهم نارا. فقال العباس رضي الله عنه وهو يسمع ما يقول: أقطعت رحمك. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه وقال أناس يأخذ برأي عمر رضي الله عنه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة. مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118] ومثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} [نوح: 26] ومثلك يا عبد الله كمثل موسى عليه السلام إذ قال: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس:88] أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق» فقال عبد الله رضي الله عنه: يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة منى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سهيل ابن بيضاء. فأنزل الله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى آخر الآيتين.
وروى أحمد ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه والتفصيل لأحمد قال لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم « ما ترى يا ابن الخطاب؟» فقال لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل (أي أخيه) فيضرب عنقه وتمكنني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه، ومكن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة) شجرة قريبة منه وأنزل الله عز وجل {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}.
وفي هذا الحديث أن الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر رضي الله عنه لأنه أول من أشار بذلك لأنه أول من استشارهم صلى الله عليه وسلم كما أنه أكبرهم مقاما. ويوضحه ما رواه ابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه قال في تفسير الآية: أراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. ومثله ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح من حديث علي كرم الله وجهه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: « خير أصحابك في الأسرى إن شاؤوا القتل وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلا وفي الترمذي قابل مثلهم» قالوا الفداء ويقتل منا. وقال الترمذي حديث حسن صحيح من حديث سفيان الثوري لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. ورواه أبو أسامة عن هشام عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه مرسلا.
أقول: ابن أبي زائدة هو يحيى بن زكريا روى عنه الجماعة ووثقه أساطين الجرح والتعديل، والمراد بقوله مثلهم إنهم إذا أخذوا الفداء يكون عقابهم أن يقتل منهم مثل عدد أولئك الأسرى وهو سبعون على المشهور في الروايات الصحيحة [منها] ما رواه البخاري في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثاني من أحاديث [باب غزوة أحد] فأصيب منا سبعون قتيلا. وقال الحافظ في شرحه بعد أن أورد خلاف الرواة في عدد هؤلاء القتلى [ص 271 ج 7] ومنه أن الفتح اليعمري سرد أسماءهم فبلغوا 96 من المهاجرين أحد عشر وسائرهم من الأنصار، وذكر أنهم بلغوا في بعض الروايات مائة ثم قال الحافظ: قال اليعمري وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها} [آل عمران: 165] أنها نزلت تسلية للمؤمنين عما أصيب منهم يوم أحد فإنهم أصابوا من المشركين يوم بدر سبعين قتيلا وسبعين أسيرا في عدد من قتل. قال اليعمري إن ثبتت فهذه الزيادة ناشئة عن الخلاف في التفصيل. قال الحافظ ابن حجر عن هذا (قلت) وكأن الخطاب بقوله: {أو لما أصابتكم} للأنصار خاصة يؤيده قول أنس: أصيب منا يوم أحد سبعون. وهو في الصحيح بمعناه اه هذا الحديث. وأقول إن ذكر ما ذكره لتصحيح رواية كون السبعين من الأنصار من جعل الخطاب لهم في قوله تعالى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا} الآية خلاف المتبادر الذي يقتضيه جعل الخطاب لجميع المؤمنين فيما قبلها وبعدها. وقد قال الحافظ نفسه في شرح حديث البراء بن عازب في أبواب غزوة بدر [239 ج7] واتفق أهل العلم بالتفسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحد وأن المراد بأصبتم مثليها يوم بدر، وعلى أن عدة من استشهد بأحد سبعون نفسا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: ما ينبغي ولا يليق به إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه ويسعوا لإخماد دينه، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد اللّه، أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لأجل الفداء الذي يحصل منهم، وهو عرض قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم وإبطال شرهم،. فما دام لهم شر وصولة، فالأوفق أن لا يؤسروا.فإذا أثخنوا، وبطل شرهم، واضمحل أمرهم، فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم وإبقائهم. {عَرَضَ الدُّنْيَا} أي: لا لمصلحة تعود إلى دينكم. {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} بإعزاز دينه، ونصر أوليائه، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى -بمناسبة تصرف الرسول [صلى الله عليه وسلم] والمسلمين في أسرى بدر- وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً، واتقوا الله، إن الله غفور رحيم).
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى: إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم، والله عليم حكيم)...
والإثخان المقصود: التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين، وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر. فعاتب الله المسلمين فيه.
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين. وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة. وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين. وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء.
وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب.. ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول: "وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين".
لهذين السببين البارزين نحسب -والله أعلم- أن الله -سبحانه- كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال. ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص -وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف- قال الله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض).
"ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى:
أي: فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم؛ وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم!
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله، فهو خير وأبقى. والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا!
قدر لكم النصر، وأقدركم عليه، لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ما كان لنبيء}. والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء، وليس موجّهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه ما فعل إلاّ ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] لا سيما على ما رواه الترمذي من أنّ جبريل بلّغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيّر أصحابه ويدلّ لذلك قوله: {تريدون عرض الدنيا} فإنّ الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حظّ. وجيء ب (نبيء) نكرِة إشارة إلى أنّ هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني إسرائيل ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات، هي أمارات أمره ونهيه، فكلّ عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظّ من نفع الآخرة، فهو غير محبوب لله تعالى، وكلّ عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبّة من الله تعالى، وهذا الفداء الذي أحبّوه لم يكن يَحفّ به من الأمارات ما يدلّ على أنّ الله لا يحبّه، ولذلك تعيّن أنّ عتاب المسلمين على اختيارهم إيّاه حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنّما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش، حين تخيّروا الفداء أي أنهم مَا راعوا فيه إلا محبّة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبّههم على أنّ حقيقاً عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم، الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة، فإنّ أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند الاستشارة « قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك» فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعلَّ هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الذي يزول بسرعة {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرةَ} فهي التي ينبغي لهم أن يستهدفوها في معاركهم، تحقيقاً لمرضاة الله بتحقيق غاياته التي أقام عليها حركة المعركة، فإن المؤمن يريد ما يريده الله، ويحب ما يحبه، ويتجرد عن النوازع الذاتية والمنافع الشخصية... {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلا يُغلب في ما يريده، ولا يعبث في ما يشرّعه من أحكام وما يبيِّنه من تعاليم...