معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ، قرأ أبو جعفر وأهل البصرة : ( تكون ) بالتاء والباقون بالياء ، وقرأ أبو جعفر : ( أسارى ) ، والآخرون ( أسرى ) . وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم ، واستأن بهم ، لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، ومكني من فلان -نسيب لعمر- فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم ناراً . فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من ا لحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : 36 ] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ومثلك يا عبد الله بن رواحة مثل موسى قال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } [ يونس : 88 ] ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فأني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء ، قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاءً بكيت ، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، -لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه- وسلم ، وأنزل الله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } [ الأنفال : 67 – 69 ] فأحل الله الغنيمة لهم . بقوله : { له أسرى } جمع أسير مثل قتلى جمع قتيل .

قوله تعالى : { حتى يثخن في الأرض } ، أي : يبالغ في قتال المشركين وأسرهم . قوله تعالى : { تريدون } ، أيها المؤمنون { عرض الدنيا } بأخذكم الفداء .

قوله تعالى : { والله يريد الآخرة } ، يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ، ونصركم دين الله عز وجل .

قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } . وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية أربعون درهما ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى { فإما مناً بعد وإما فداءً } ، [ محمد : 4 ] فجعل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم .