إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

{ مَا كَانَ لِنَبِي } وقرىء للنبي على العهد والأولُ أبلغُ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنةٌ مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي ما صح وما استقام لنبيَ من الأنبياء عليهم السلام { أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } وقرىء بتأنيث الفعلِ وأُسارى أيضاً { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } أي يُكثر القتلَ ويبالغَ فيه حتى يذِل الكفرُ ويقِلُ حزبُه ويعِزّ الإسلامُ ويستوليَ أهلُه ، من أثخنه المرَضُ والجُرحُ إذا أثقله وجعله بحيث لا حَراك به ولا براحَ ، وأصلُه الثخانةُ التي هي الغِلَظ والكثافة وقرىء بالتشديد للمبالغة { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } استئنافٌ مَسوقٌ للعتاب أي تريدون حُطامَها يأخذكم الفداءَ وقرىء يريدون بالياء { والله يُرِيدُ الآخرة } أي يريد لكم ثوابَ الآخرة الذي لا مقدار عنده للدنيا وما فيها أو يريد سببَ نيلِ الآخرة من إعزاز دينِه وقمعِ أعدائِه وقرىء بجر الآخرةِ على إضمار المضاف كما في قوله : [ المتقارب ]

أكلَّ امرىء تحسبين أمرا *** ونارٍ تَوقَّدُ بالليل ناراً{[330]}

{ والله عَزِيزٌ } يغلّب أولياءَه على أعدائه { حَكِيمٌ } يعلم ما يليق بكل حال ويخصصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوْكةُ للمشركين وخيّر بينه وبين المنِّ بقوله تعالى : { فَإِمَّا منا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } لما تحولت الحال وصارت الغلبةُ للمؤمنين . روي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسبعين أسيراً فيهم العباسُ وعقيل بنُ أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر : قومُك وأهلك استَبْقِهم لعل الله يتوب عليهم وخُذ منهم فديةً تقوِّي أصحابَك ، وقال عمر : اضرِبْ فلنضرِبْ أعناقَهم فإنهم أئمةُ الكفر والله أغناك من الفداء ، مكّنْ علياً من عقيلٍ وحمزةَ من العباس ، ومكني من فلان نسيبٍ له فلنضرِب أعناقَهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إن الله ليُلين قلوبَ رجالٍ حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوبَ رجالٍ حتى تكون أشدَّ من الحجارة وإن مثلَك يا أبا بكر مثلُ إبراهيم قال : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلُك يا عمرُ مثل نوحٍ قال : ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراًَ » فخيّر أصحابَه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمرُ رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسولَ الله أخبرني فإني إن وجدت بكاءً بكَيْتُ وإلا تباكيتُ فقال : «أبكي على أصحابك في أخذهم الفداءَ ولقد عُرِضَ على عذابهم أدنى هذه الشجرةِ » لشجرة قريبةِ منه وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لو نزل عذابٌ من السماء لما نجا غيرُ عمرَ وسعدُ بنُ معاذ » وكان هو أيضاً ممن أشار بالإثخان .


[330]:البيت لأبي دؤاد الإيادي (حارثة بن الحجاج) في ديوانه ص 353؛ والأصمعيات ص 191؛ وأمالي ابن الحاجب 1/134؛ وخزانة الأدب 9/592؛ والدرر 5/39؛ وشرح التصريح 2/56؛ وشرح شواهد المغني 2/700؛ وشرح المفصل 3/26؛ والكتاب 1/66؛ والمقاصد النحوية 3/445؛ ولعدي بن زيد في ملحق ديوانه ص 199، وبلا نسبة في الإنصاف 2/473؛ وأوضح المسالك 3/169؛ وهمع الهوامع 2/52.