البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

أثخنته الجراحات أثبتته حتى تثقل عليه الحركة وأثخنه المرض أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والإثخان المبالغة في القتل والجراحات .

نزلت في أسرى بدر وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استشار أبا بكر وعمر وعليّاً فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل في حديث طويل يوقف عليه في صحيح مسلم ، وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفاً والمراد به في التنكير والتعريف الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً وتقدّم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ فحذف اختصاراً ولذلك جاء الجمع في قوله { تريدون عرض الدنيا } ولم يجيء التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب وقد طول المفسرون في قصّة هؤلاء الأسارى ، وذلك مذكور في السّير وحذفناه نحن لأن في بعضه ما لا يناسب ذكره بالنسبة إلى مناصب الرسل .

وقرأ أبو عمرو أن تكون على تأنيث لفظ الجمع وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى ، وقرأ الجمهور والسبعة { أسرى } على وزن فعلى وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفة كجريج وجرحى ، وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم أسارى وشبه فعيل بفعلان نحو كسلان وكسالى كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعاً كسلى قاله سيبويه وهما شاذّان ، وزعم الزجاج أن أسارى جمع أسرى فهو جمع جمع وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في فعلى أهو جمع أو اسم جمع وأنّ مذهب سيبويه أنه من أبنية الجموع ومدلول أسرى وأسارى واحد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثوقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون ربطاً ، وحكى أبو حاتم أنه سمع ذلك من العرب وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وقال العرب : لا تعرف هذا كلاهما عندهم سواء .

وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب { حتى يثخن } مشدّداً عدوه بالتضعيف والجمهور بالتخفيف وعدوّه بالهمزة إذ كان قبل التعدية ثخن ومعنى { عرض الدنيا } ما أخذتم في فداء الأساري وكان فداء كل رجل عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعون أوقية وعن ابن سيرين مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير ، وكانوا مالوا إلى الفداء ليقووا ما يصيبونه على الجهاد وإيثاراً للقرابة ورجاء الإسلام وكان الإثخان والقتل أهيب للكفار وأرفع لمنار الإسلام وكان ذلك إذ المسلمون قليل فلما اتسع نطاق الإسلام وعزّ أهله نزل فإما منا بعد وإما فداء ، وقرىء يريدون بالياء من تحت وسمى عرضاً لأنه حدث قليل اللبث ، وقرأ الجمهور { الآخرة } بالنصب ، وقرأ سليمان بن جمار المدنيّ بالجرّ واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف فمنهم من قدّره { عرض الآخرة } ، قال : وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه ، قال بعضهم : وقد حذف العرض في قراءة الجمهور وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب فنصب وممن قدّره عرض الآخرة الزمخشري قال على التقابل يعني ثوابها انتهى .

ونعني أنه لما أطلق على الفداء عرض الدنيا أطلق على ثواب الآخرة عرضاً على سبيل التقابل لا أن ثواب الآخرة زائل فإن كعرض الدنيا فسُمّي عرضاً على سبيل التقابل وإن كان لولا التقابل لم يسمَّ عرضاً وقدّره بعضهم عمل الآخرة أي المؤدّي إلى الثواب في الآخرة وكلهم جعله كقوله :

ونار توقد بالليل ناراً *** .

ويعنون في حذف المضاف فقط وإبقاء المضاف إليه على جرّه لأن جرّ مثل ونار جائز فصيح وذلك إذا لم يفصل بين المجرور وحرف العطف أو فصل بلا نحو ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك وتقدم المحذوف مثله لفظاً ومعنى وأما إذا فصل بينهما بغير لا كهذه القراءة فهو شاذّ قليل ، والله عزيز ينصر أولياءه ويجعل الغلبة لهم ويمكّنهم من أعدائهم قتلاً وأسراً حكيم يضع الأشياء مواضعها .

قال ابن عباس ومقاتل { لولا } أنّ الله كتب في أمّ الكتاب أنه سيحلّ لكم الغنائم { لمسّكم } فيما تعجّلتم منها ومن الفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك { عذاب عظيم } ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد : لو سبق أنه يعذبّ من أتى ذنباً على جهالة لعوقبتم ، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وابن إسحاق : { سبق } أن لا يعذّب إلا بعد النهي ولم يكن نهاهم ، وقال الحسن وابن جبير وابن زيد وابن أبي نجيح عن مجاهد لولا ما سبق لأهل بدر إنّ الله لا يعذبهم لعذّبهم ، وقال الماورديّ لولا أن القرآن اقتضى غفران الصغائر لعذبهم ، وقال قوم : الكتاب السابق عفوه عنهم في هذا الذنب معيناً ، وقيل : هو أن لا يعذبهم والرسول فيه ، وقيل : ما كتبه على نفسه من الرحمة .

وقيل : سبق أنه لا يضلّ قوماً بعد إذ هداهم ، وقيل : سبق أنه سيحلّ لهم الغنائم والفداء ، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن ، وقيل : سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر لعذّبكم بأخذ الغنائم ، واختاره النحاس .

وقال قوم : الكتاب السابق هو القرآن والمعنى لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدّقتم لمسّكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة ، وقال الزمخشري : لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح وهو أن لا يعاقب أحداً بخطأ وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم وأنّ فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عنهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهْيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم انتهى .

وروي لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر وفي حديث آخر وسعد بن معاذ وذلك أن رأيهما كان أن تقتل الأسارى .

والذي أقوله أنهم كانوا مأمورين أوّلاً بقتل الكفار في غير ما آية كقوله { واقتلوهم حيث وجدتموهم } { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } فلما كانت وقعة بدر وأسروا جماعة من المشركين اختلفوا في أخذ الفداء منهم وفي قتلهم فعوتب من رأى الفداء إذ كان قد تقدّم الأمر بالقتل حيث لم يستصحبوا امتثال الأمر ومالوا إلى الفداء وحرصوا على تحصيل المال ألا ترى إلى قول المقداد حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط قال : أسيري يا رسول الله ، وقول مصعب بن عمير لمن أسر أخاه : شدّ يدك عليه فإن له أما مؤسرة ، ثم بعد هذه المعاتبة أمر الرسول بقتل بعض والمنّ بالإطلاق في بعض والفداء في بعض فكان ذلك نسخاً لتحتّم القتل ،