معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } الآية . نزلت في عمرة ، ويقال في خولة بنت محمد بن مسلمة ، وفي زوجها سعد بن الربيع ، ويقال : رافع بن خديج ، تزوجها وهي شابة ، فلما علاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة ، وآثرها عليها ، وجفا ابنة محمد بن مسلمة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه ، فنزلت هذه الآية ، وقال سعيد بن جبير : كان رجل له امرأة قد كبرت ، وله منها أولاد ، فأراد أن يطلقها ويتزوج عليها غيرها ، فقالت : لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي ، واقسم لي من كل شهرين إن شئت ، وإن شئت فلا تقسم لي ، فقال : إن كان يصلح ذلك فهو أحب إلي ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأنزل الله تعالى : { وإن امرأة خافت } أي علمت { من بعلها } ، أي : من زوجها { نشوزا } أي : بغضا . قال الكلبي : يعني ترك مضاجعتها ، أو إعراضا بوجهه عنها ، وقلة مجالستها .

قوله تعالى : { فلا جناح عليهما } ، أي : على الزوج والمرأة .

قوله تعالى : { أن يصالحا } . أي : يتصالحا ، وقرأ أهل الكوفة ، أن يصلحا ، من الإصلاح .

قوله تعالى : { بينهما صلحاً } يعني : في القسمة والنفقة ، وهو أن يقول الزوج لها : إنك قد دخلت في السن ، وإني أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسمة ليلاً ونهاراً ، فإن رضيت بهذا فأقيمي ، وإن كرهت خليت سبيلك ، فإن رضيت كانت هي المحسنة ، ولا تجبر على ذلك ، وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم ، والنفقة ، أو يسرحها بإحسان ، فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهية فهو محسن ، وقال سليمان بن يسار في هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما : فإن صالحته عن بعض حقها من القسم والنفقة فذلك جائز ما رضيت ، فإن أنكرت بعد الصلح فذلك لها ولها حقها ، وقال مقاتل بن حبان فيه هذه الآية : هو أن الرجل يكون تحته المرأة الكبيرة ، فيتزوج عليها الشابة ، فيقول للكبيرة : أعطيتك من مالي نصيباً على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك ، فترضى بما اصطلحا عليه ، فإن أبت أن ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم . وعن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال : تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر ، فتكره فرقته ، فإنه أعطته من مالها فهو له حل ، وإن أعطته من أيامها فهو حل له .

قوله تعالى : { والصلح خير } يعني : إقامتها بعد تخييره إياها ، والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة ، كما يروى أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة كبيرة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ، فقالت : لا تطلقني ، وكفاني أن أبعث في نسائك ، وقد جعلت نوبتي لعائشة رضي الله عنها . فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقسم لعائشة يومين ، يومها ويوم سودة رضي الله عنهما .

قوله وتعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } ، يريد : شح كل واحد من الزوجين بنصيبه من الآخر ، والشح : أقبح البخل ، وحقيقته الحرص على منع الخير .

قوله تعالى : { وإن تحسنوا } ، أي : تصلحوا .

قوله تعالى : { وتتقوا } الجور ، وقيل : هذا خطاب مع الأزواج . أي : وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهية ، وتتقوا ظلمها .

قوله تعالى : { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ، فيجزيكم بأعمالكم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ }

أي : إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي : ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها ، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها ، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن ، أو القسم بأن تسقط حقها منه ، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها .

فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها ، لا عليها ولا على الزوج ، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال ، وهي خير من الفرقة ، ولهذا قال : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ }

ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه ، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح .

وهو جائز في جميع الأشياء إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، فإنه لا يكون صلحا وإنما يكون جورا .

واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه ، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح ، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير ، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه ، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه .

وذكر المانع بقوله : { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ } أي : جبلت النفوس على الشح ، وهو : عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان ، والحرص على الحق الذي له ، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا ، أي : فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم ، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة ، وهو بذل الحق الذي عليك ؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك .

فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله ، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب . بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه ، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة ، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله ، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه ، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر .

ثم قال : { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ْ } أي : تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه ، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان ، من نفع بمال ، أو علم ، أو جاه ، أو غير ذلك . { وَتَتَّقُوا ْ } الله بفعل جميع المأمورات ، وترك جميع المحظورات . أو تحسنوا بفعل المأمور ، وتتقوا بترك المحظور { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ } قد أحاط به علما وخبرا ، بظاهره وباطنه ، فيحفظه لكم ، ويجازيكم عليه أتم الجزاء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

ثم نمضي خطوة أخرى مع التنظيم الاجتماعي - في محيط الأسرة - في هذا المجتمع الذي كان الإسلام ينشئه ، بمنهج الله المتنزل من الملأ الأعلى ، لا بعوامل التغير الأرضية في عالم المادة أو دنيا الإنتاج :

( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا . والصلح خير . وأحضرت الأنفس الشح . وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل ، فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . وكان الله واسعا حكيما ) .

لقد نظم المنهج - من قبل - حالة النشوز من ناحية الزوجة ؛ والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة [ وذلك في أوائل هذا الجزء ] فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج ، فتهدد أمن المرآة وكرامتها ، وأمن الأسرة كلها كذلك . إن القلوب تتقلب ، وإن المشاعر تتغير . والإسلام منهج حياة يعالج كل جزئية فيها ، ويتعرض لكل ما يعرض لها ؛ في نطاق مبادئه واتجاهاته ؛ وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم .

فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة ؛ وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله - أو إلى الإعراض ، الذي يتركها كالمعلقة . لا هي زوجة ولا هي مطلقة ، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها ، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية . كأن تترك له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه . أو أن تترك له قسمتها وليلتها ، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها ، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها . . هذا كله إذا رأت هي - بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها - أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها :

( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ) . . هو هذا الصلح الذي أشرنا إليه . .

ثم يعقب على الحكم بأن الصلح إطلاقا خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق :

( والصلح خير ) . .

فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف ، نسمة من الندى والإيناس ، والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية ، والرابطة العائلية .

إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله . فهو يحاول - بكل وسائله المؤثرة - أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها . . ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة ؛ ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها ؛ ولا يقول للناس : اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام ! سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه !

إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها ؛ ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل ، وتتمرغ في الطين - بحجة أن هذا واقع هذه النفس ! ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملأ الأعلى ، ويدعها تتأرجح في الهواء ؛ لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض . بحجة الرفعة والتسامي !

إنه الوسط . . إنه الفطرة . . إنه المثالية الواقعية . أو الواقعية المثالية . . إنه يتعامل مع الإنسان ، بما هو إنسان . والإنسان مخلوق عجيب . هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض ؛ وينطلق بروحه إلى السماء . في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده ؛ ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء !

وهو هنا - في هذا الحكم - يتعامل مع هذا الإنسان . وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال : ( وأحضرت الأنفس الشح ) .

أي أن الشح حاضر دائمًا في الأنفس . وهو دائما قائم فيها . الشح بأنواعه . الشح بالمال . والشح بالمشاعر . وقد تترسب في حياة الزوجين - أو تعرض - أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته . فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها - إرضاء لهذا الشح بالمال ، تستبقي معه عقدة النكاح ! وقد يكون تنازلها عن ليلتها - إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه - والأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر ، تستبقي معه عقدة النكاح ! والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها . . لا يلزمها المنهج الرباني بشيء ؛ ولكنه فقط يجيز لها التصرف ، ويمنحها حرية النظر والتدبر في أمرها وفق ما تراه .

وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه ، لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية . بل هو يهتف لها هتافا آخر ، ويعزف لها نغمة أخرى :

وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا .

فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية . ولن يضيع منهما شيء على صاحبة ، فإن الله خبير بما تعمله كل نفس ؛ خبير ببواعثه وكوامنه . . والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى ، والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل ، هتاف مؤثر ، ونداء مستجاب . . بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

{ وإن امرأة خافت من بعلها } توقعت منه لما ظهر لها من المخايل ، وامرأة فاعل فعل يفسره الظاهر . { نشوزا } تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها كراهة لها ومنعا لحقوقها . { أو إعراضا } بأن يقل مجالستها ومحادثتها . { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا } أن يتصالحا بأن تحط له بعض المهر ، أو القسم ، أو تهب له شيئا تستميله به . وقرأ الكوفيون { أن يصلحا } من أصلح بين المتنازعين ، وعلى هذا جاز أن ينتصب صالحا على المفعول به ، وبينهما ظرف أو حال منه أو على المصدر كما في القراءة الأولى والمفعول بينهما أو هو محذوف . وقرئ { يصلحا } من أصلح بمعنى اصطلح . { والصلح خير } من الفرقة أو سوء العشرة أو من الخصومة . ولا يجوز أن يراد به التفضيل بل بيان أنه من الخيور كما أن الخصومة من الشرور ، وهو اعتراض وكذا قوله : { وأحضرت الأنفس الشح } ولذلك اغتفر عدم مجانستهما ، والأول للترغيب في المصالحة ، والثاني لتمهيد العذر في المماكسة . ومعنى إحضار الأنفس الشح جعلها حاضرة له مطبوعة عليه ، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقها ولا الرجل يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها . { وإن تحسنوا } في العشرة . { وتتقوا } النشوز والإعراض ونقص الحق . { فإن الله كان بما تعملون } من الإحسان والخصومة . { خبيرا } عليما به وبالغرض فيه فيجازيكم عليه ، أقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثابته إياهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة للسبب مقام المسبب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (128)

هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة ، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها ، فيذهب الزوج إلى طلاقها ، أو إلى إيثار شابة عليها ، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضرراً يلزمه إياها ، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة ، فتريد هي بقاء العصمة ، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح ، ورفع الجناح فيه ، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه ، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض ، وهو مع وقوعها مباح أيضاً ، و «النشوز » : الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة ، و «الإعراض » : أخف من النشوز{[4310]} .

وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي ، أو تعطي هي على أن لا يؤثر الزوج ، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة ، أو يقع الصلح على الصبر على الأثرة ، فهذا كله مباح ، واختلف المفسرون في سبب الآية ، فقال ابن عباس وجماعة معه : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة ، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل فنزلت { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } الآية{[4311]} ، وفي المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول ، وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم : نزلت الآية بسبب رافع بن خديج{[4312]} وخولة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة ، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا ، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى ، فلما بقي من العدة يسير قال لها : إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك ، قالت : بل راجعني وأصبر ، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر ، فقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقري على ما ترين من الأثرة ، وإلا طلقتك ، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه { وإن امرأة خافت } الآية{[4313]} ، وقال مجاهد : نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته{[4314]} ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصَّالحا » بفتح الياء وشد الصاد وألف بعدها ، وأصلها يتصالحا ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «يُصْلحا » بضم الياء وسكون الصاد دون ألف ، وقرأ عبيدة السلماني «يُصالحا » بضم الياء من المفاعلة ، وقرأ الجحدري وعثمان البتي «يَصّلحا » بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا ، قال أبو الفتح : أبدل الطاء صاداً ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا » ، وقرأ الأعمش «إن اصالحا » ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود ، وقوله { صلحاً } ليس الصلح مصدراً على واحد من هذه الأفعال التي قرىء بها ، فالذي يحتمل أن يكون اسماً كالعطاء مع أعطيت والكرامة مع أكرمت ، فمن قرأ «يصلحا » كان تعديه إلى الصلح كتعدية إلى الأسماء ، كما تقول : أصلحت ثوباً ، ومن قرأ «يصالحا » من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا يتعدى ، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعدياً في نحو قول ذي الرمة :

ومِنْ جَرْدَةٍ غَفَلٍ بساطٍ تَحَاسَنَتْ . . . بها الوشْيُ قَرَّاتُ الرياحِ وَخُورُها{[4315]}

ويجوز أن يكون الصلح مصدراً حذفت زوائده ، كما قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإن تهلك فذلك كان قدري {[4316]}

أي تقديري .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : هذا كلام أبي علي على أن القدر مصدر جار على أن قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد ، وقوله تعالى { والصلح خير } لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق ، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة . وقوله تعالى { وأحضرت الأنفس الشح } معذرة عن عبيده تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره ، وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير : هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها ، وقال ابن زيد : الشح هنا منه ومنها .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وهذا حسن ، و { الشح } : الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك ، فما ُأفرط منها ففيه بعض المذمة ، وهو الذي قال تعالى فيه { ومن يوق شح نفسه }{[4317]} وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل ، وهي رذيلة " {[4318]} ، لكنها قد تكون في المؤمن ، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال نعم{[4319]} » وأما { الشح } ففي كل أحد ، وينبغي أن يكون ، لكن لا ُيفرط إلا على الدين{[4320]} ، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } وقوله { شح نفسه } فقد أثبت أن لكل نفس شحاً ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أن تصدق وأنت صحيح شحيح{[4321]} » وهذا لم يرد به واحداً بعينه ، وليس يجمل أن يقال هنا : أن تصدق وأنت صحيح بخيل ، وقوله تعالى : { وإن تحسنوا } ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها . وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن { وتتقوا } معناه : تتقوا الله في وصيته بالنساء ، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله

«استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم »{[4322]} .


[4310]:- قال النحاس: "الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز: التباعد، والإعراض: ألا يكلمها ولا يأنس بها".
[4311]:- وأخرجه أيضا الطيالسي، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في سننه- عن ابن عباس. (الدر المنثور 2/232).
[4312]:- رافع بن خديج بن رافع- الأنصاري الأوسي الحارثي، كان عريف قومه بالمدينة، وشهد أحدا والخندق، وعرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره، لكنه أجازه يوم أحد، توفي بالمدينة من جراحة، له 78 حديثا. (الإصابة- وتهذيب التهذيب).
[4313]:- أخرجه مالك، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه- عن رافع بن خديج، وفيه: "أنه كانت تحته امرأة" ولم يذكر اسمها- وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي- عن سعيد بن المسيب أن "ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج...إلخ".
[4314]:- أخرجه ابن جرير عن مجاهد. (الدر المنثور 2/ 233)
[4315]:- هذا البيت من قصيدة مطلعها: تصابيت في أطلال ميّة بعدما نبا نبوة بالعين عنها دثورها وجرد جردا: خلا جسمه من الشعر، وجرد المكان: خلا من النبات. والغُفل ما لا علامة فيه ولا أثر من عمارة أو طرق أو نحوهما. والبساط من الأرض: الواسعة، وتحاسنت: أحسنت- وقرّات الرياح: الرياح الباردة. وأرض خوّارة: لينة سهلة، والجمع: خور- أما الوشي فهو: النقش، يقول: إن هذه الرياح الباردة جرت على الأرض الواسعة الجرداء فحسنت طرقها بما يشبه الوشي. وتفاعل التي يشير إليها ابن عطية في البيت هي: (تحاسن) فقد تعدا حين نصبت (الوشي).
[4316]:- القائل رجل من عبد القيس كان حليفا لبني شيبان، والبيت بتمامه كما رواه في "المفضليات": فإن يبرأ فلم أنفس عليه وإن يهلك فذلك كان قدري
[4317]:- من الآية (9) من سورة (الحشر).
[4318]:- نقل القرطبي ما بين علامتي التنصيص هنا عن ابن عطية، ولكن جاء فيه: "فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة" وهو أوضح مما في الأصول هنا.
[4319]:- روى مالك عن صفوان بن سليم قال: (قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا).
[4320]:- يقول: إن المبالغة في الشح مذمومة إلا على الدين فإنها محمودة، واستدل على ذلك بثلاثة أدلة: (أ) قوله تعالى هنا: [وأحضرت الأنفس الشح]، وقد شرح المفسرون الكلام فقالوا: إنه من باب المبالغة، جعل الشح كأنه شيء معد في مكان وأحضرت الأنفس وسيقت إليه، فلم يسق هو إليها، بل سيقت هي إليه، لكون الإنسان مجبولا على الشح، وكلام ابن عطية فيه هذا المعنى. (ب) قوله تعالى في سورة الحشر: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} لأن إضافة الشح إلى النفس يدل على أن لكل نفس شُحا، وأنه من طبيعة النفوس. (جـ) قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى القفر...الخ) فإنك حين تتصدق مع أنك مطبوع على الشح مهيأة لك أسباب الطمع في الحياة كالصحة والأمل في الغنى- أفضل من أن تتصدق وقد دنت ساعة موتك، ولهذا فلا يناسب في الحديث أن يقال: (وأنت صحيح بخيل) وبهذا وضح المؤلف الفرق بين الشح والبخل.
[4321]:- هذا الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأحمد في مسنده، وأبو داود، والنسائي- عن أبي هريرة، ولفظه: (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان).
[4322]:- رواه ابن ماجة، والترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: (استوصوا بالنساء خيرا..الخ)- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا). ومعنى عوان: أسرى أو كالأسرى.