قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } الآية . نزلت في عمرة ، ويقال في خولة بنت محمد بن مسلمة ، وفي زوجها سعد بن الربيع ، ويقال : رافع بن خديج ، تزوجها وهي شابة ، فلما علاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة ، وآثرها عليها ، وجفا ابنة محمد بن مسلمة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه ، فنزلت هذه الآية ، وقال سعيد بن جبير : كان رجل له امرأة قد كبرت ، وله منها أولاد ، فأراد أن يطلقها ويتزوج عليها غيرها ، فقالت : لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي ، واقسم لي من كل شهرين إن شئت ، وإن شئت فلا تقسم لي ، فقال : إن كان يصلح ذلك فهو أحب إلي ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأنزل الله تعالى : { وإن امرأة خافت } أي علمت { من بعلها } ، أي : من زوجها { نشوزا } أي : بغضا . قال الكلبي : يعني ترك مضاجعتها ، أو إعراضا بوجهه عنها ، وقلة مجالستها .
قوله تعالى : { فلا جناح عليهما } ، أي : على الزوج والمرأة .
قوله تعالى : { أن يصالحا } . أي : يتصالحا ، وقرأ أهل الكوفة ، أن يصلحا ، من الإصلاح .
قوله تعالى : { بينهما صلحاً } يعني : في القسمة والنفقة ، وهو أن يقول الزوج لها : إنك قد دخلت في السن ، وإني أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسمة ليلاً ونهاراً ، فإن رضيت بهذا فأقيمي ، وإن كرهت خليت سبيلك ، فإن رضيت كانت هي المحسنة ، ولا تجبر على ذلك ، وإن لم ترض بدون حقها كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم ، والنفقة ، أو يسرحها بإحسان ، فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهية فهو محسن ، وقال سليمان بن يسار في هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما : فإن صالحته عن بعض حقها من القسم والنفقة فذلك جائز ما رضيت ، فإن أنكرت بعد الصلح فذلك لها ولها حقها ، وقال مقاتل بن حبان فيه هذه الآية : هو أن الرجل يكون تحته المرأة الكبيرة ، فيتزوج عليها الشابة ، فيقول للكبيرة : أعطيتك من مالي نصيباً على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك ، فترضى بما اصطلحا عليه ، فإن أبت أن ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم . وعن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال : تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر ، فتكره فرقته ، فإنه أعطته من مالها فهو له حل ، وإن أعطته من أيامها فهو حل له .
قوله تعالى : { والصلح خير } يعني : إقامتها بعد تخييره إياها ، والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة ، كما يروى أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة كبيرة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ، فقالت : لا تطلقني ، وكفاني أن أبعث في نسائك ، وقد جعلت نوبتي لعائشة رضي الله عنها . فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقسم لعائشة يومين ، يومها ويوم سودة رضي الله عنهما .
قوله وتعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } ، يريد : شح كل واحد من الزوجين بنصيبه من الآخر ، والشح : أقبح البخل ، وحقيقته الحرص على منع الخير .
قوله تعالى : { وإن تحسنوا } ، أي : تصلحوا .
قوله تعالى : { وتتقوا } الجور ، وقيل : هذا خطاب مع الأزواج . أي : وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهية ، وتتقوا ظلمها .
قوله تعالى : { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ، فيجزيكم بأعمالكم .
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ }
أي : إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي : ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها ، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها ، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن ، أو القسم بأن تسقط حقها منه ، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها .
فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها ، لا عليها ولا على الزوج ، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال ، وهي خير من الفرقة ، ولهذا قال : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ }
ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه ، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح .
وهو جائز في جميع الأشياء إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، فإنه لا يكون صلحا وإنما يكون جورا .
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه ، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح ، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير ، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه ، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه .
وذكر المانع بقوله : { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ } أي : جبلت النفوس على الشح ، وهو : عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان ، والحرص على الحق الذي له ، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا ، أي : فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم ، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة ، وهو بذل الحق الذي عليك ؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك .
فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله ، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب . بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه ، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة ، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله ، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه ، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر .
ثم قال : { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ْ } أي : تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه ، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان ، من نفع بمال ، أو علم ، أو جاه ، أو غير ذلك . { وَتَتَّقُوا ْ } الله بفعل جميع المأمورات ، وترك جميع المحظورات . أو تحسنوا بفعل المأمور ، وتتقوا بترك المحظور { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ } قد أحاط به علما وخبرا ، بظاهره وباطنه ، فيحفظه لكم ، ويجازيكم عليه أتم الجزاء .
ثم نمضي خطوة أخرى مع التنظيم الاجتماعي - في محيط الأسرة - في هذا المجتمع الذي كان الإسلام ينشئه ، بمنهج الله المتنزل من الملأ الأعلى ، لا بعوامل التغير الأرضية في عالم المادة أو دنيا الإنتاج :
( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا . والصلح خير . وأحضرت الأنفس الشح . وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل ، فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . وكان الله واسعا حكيما ) .
لقد نظم المنهج - من قبل - حالة النشوز من ناحية الزوجة ؛ والإجراءات التي تتخذ للمحافظة على كيان الأسرة [ وذلك في أوائل هذا الجزء ] فالآن ينظم حالة النشوز والإعراض حين يخشى وقوعها من ناحية الزوج ، فتهدد أمن المرآة وكرامتها ، وأمن الأسرة كلها كذلك . إن القلوب تتقلب ، وإن المشاعر تتغير . والإسلام منهج حياة يعالج كل جزئية فيها ، ويتعرض لكل ما يعرض لها ؛ في نطاق مبادئه واتجاهاته ؛ وتصميم المجتمع الذي يرسمه وينشئه وفق هذا التصميم .
فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة ؛ وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله - أو إلى الإعراض ، الذي يتركها كالمعلقة . لا هي زوجة ولا هي مطلقة ، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها ، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية . كأن تترك له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه . أو أن تترك له قسمتها وليلتها ، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها ، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها . . هذا كله إذا رأت هي - بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها - أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها :
( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ) . . هو هذا الصلح الذي أشرنا إليه . .
ثم يعقب على الحكم بأن الصلح إطلاقا خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق :
فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف ، نسمة من الندى والإيناس ، والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية ، والرابطة العائلية .
إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله . فهو يحاول - بكل وسائله المؤثرة - أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها . . ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة ؛ ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها ؛ ولا يقول للناس : اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام ! سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه !
إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها ؛ ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل ، وتتمرغ في الطين - بحجة أن هذا واقع هذه النفس ! ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملأ الأعلى ، ويدعها تتأرجح في الهواء ؛ لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض . بحجة الرفعة والتسامي !
إنه الوسط . . إنه الفطرة . . إنه المثالية الواقعية . أو الواقعية المثالية . . إنه يتعامل مع الإنسان ، بما هو إنسان . والإنسان مخلوق عجيب . هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض ؛ وينطلق بروحه إلى السماء . في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده ؛ ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء !
وهو هنا - في هذا الحكم - يتعامل مع هذا الإنسان . وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال : ( وأحضرت الأنفس الشح ) .
أي أن الشح حاضر دائمًا في الأنفس . وهو دائما قائم فيها . الشح بأنواعه . الشح بالمال . والشح بالمشاعر . وقد تترسب في حياة الزوجين - أو تعرض - أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته . فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها - إرضاء لهذا الشح بالمال ، تستبقي معه عقدة النكاح ! وقد يكون تنازلها عن ليلتها - إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه - والأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر ، تستبقي معه عقدة النكاح ! والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها . . لا يلزمها المنهج الرباني بشيء ؛ ولكنه فقط يجيز لها التصرف ، ويمنحها حرية النظر والتدبر في أمرها وفق ما تراه .
وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه ، لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية . بل هو يهتف لها هتافا آخر ، ويعزف لها نغمة أخرى :
وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا .
فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية . ولن يضيع منهما شيء على صاحبة ، فإن الله خبير بما تعمله كل نفس ؛ خبير ببواعثه وكوامنه . . والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى ، والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل ، هتاف مؤثر ، ونداء مستجاب . . بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب .
يقول تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين : تارة في حال نفور الرجل عن المرأة ، وتارة في حال اتفاقه معها ، وتارة في حال{[8418]} فراقه لها .
فالحالة الأولى : ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها ، أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط حقها أو بعضه ، من نفقة أو كسوة ، أو مبيت ، أو غير ذلك من الحقوق عليه ، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح{[8419]} عليها في بذلها ذلك له ، ولا عليه في قبوله منها ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } ثُمَّ قَالَ { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } أي : من الفراق . وقوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ } أي الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق ؛ ولهذا لما كبرت سودة بنت زَمْعَة عزم{[8420]} رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها ، فصالحته على أن يمسكها ، وتترك يومها لعائشة ، فَقَبِل ذلك منها وأبقاها على ذلك .
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليمان بن معاذ ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خَشيت سَوْدَة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة . ففعل ، ونزلت{[8421]} هذه الآية : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } الآية ، قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .
ورواه الترمذي ، عن محمد بن المثنى ، عن أبي داود الطيالسي ، به . وقال : حسن غريب{[8422]}
وقال الشافعي أخبرنا مسلم ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة ، وكان يقسم لثمان{[8423]} .
وفي الصحيحين ، من حديث هشام بن عُرْوة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما كَبرْت سودةُ بنتُ زَمعة وهبَتْ يومها لعائشة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة{[8424]} .
وفي صحيح البخاري ، من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، نحوه .
وقال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن هشام ، عن أبيه عروة{[8425]} قال : أنزل{[8426]} الله تعالى في سودة{[8427]} وأشباهها : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } وذلك أن سودة كانت امرأة قد أَسَنَّتْ ، ففزعت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وضنَّت بمكانها منه ، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه ، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة ، فقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم{[8428]} .
قال البيهقي : وقد رواه أحمد بن يونس : عن ابن أبي الزِّناد{[8429]} موصولا . وهذه الطريق رواها الحاكم في مستدركه فقال :
حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن هشام بن{[8430]} عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها قالت له : يا ابن أختي ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا ، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا ، فيدنو من كل امرأة من غير مَسِيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ، ولقد قالت سودة بنت زَمْعة - حين أسنت وفَرِقت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، يومي هذا لعائشة . فَقَبِل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . قالت عائشة : ففي ذلك أنزل الله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا }
وكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[8431]} .
وقد رواه [ الحافظ أبو بكر ]{[8432]} بن مَرْدُويه من طريق أبي بلال الأشعري ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، به نحوه . ومن رواية عبد العزيز بن{[8433]} محمد الدَّرَاوَرْدي ، عن هشام بن عروة ، بنحوه مختصرا ، والله أعلم .
وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدَّغُولي في أول معجمه : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدَّسْتُوائي ، حدثنا القاسم بن أبي بَزّة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زَمْعة بطلاقها ، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة ، فلما رأته قالت له : أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه{[8434]} واصطفاك على خلقه لمَّا راجعتني ، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال ، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة . فراجعها فقالت : إني{[8435]} جعلت يومي وليلتي لِحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا غريب مرسل{[8436]} .
وقد قال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } قالت{[8437]} الرجل تكون عنده المرأة ، ليس بمستكثر منها ، يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حل . فنزلت هذه الآية .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا{[8438]} بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله ألا يكون يستكثر منها ، ولا يكون لها ولد ، ولها صحبة فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني .
حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حمَّاد بن سلمة ، عن هشام ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } قالت : هو الرجل يكون له المرأتان : إحداهما قد كبرت ، أو هي دَمِيمة{[8439]} وهو لا يستكثر منها فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني .
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة{[8440]} بنحو ما تقدم ، ولله الحمد والمنة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد وابنُ وكيع قالا حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن ابن سيرين قال : جاء رجل إلى عمر ، رضي الله عنه ، فسأله عن آية ، فكَرِه ذلك وضربه بالدرّة ، فسأله آخر عن هذه الآية : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } فقال : عن مثل هذا فسلوا . ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل ، قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجاني ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سِمَاك بن حرب ، عن خالد بن عَرْعَرَة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[8441]} فسأله عن قول الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } قال علي : يكون الرجل عنده المرأة ، فتنبو عيناه عنها من دمامتها ، أو كبرها ، أو سوء خلقها ، أو قذذها ، فتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج .
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص . ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سِمَاك ، به{[8442]} وكذا فسرها ابن عباس ، وعُبَيدة السَّلْمَاني ، ومجاهد بن جَبْر ، والشُّعَبِي ، وسعيد بن جبَيْر ، وعطاء ، وعطية العوْفي ومكحول ، والحكم بن عتبة ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والأئمة ، ولا أعلم [ في ذلك ]{[8443]} خلافا في أن المراد بهذه الآية هذا والله أعلم .
وقال الشافعي : أنبأنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن المسيَّب : أن ابنة محمد بن مَسْلَمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كِبَرًا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك . فأنزل الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } الآية .
وقد رواه الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق{[8444]} .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المُزَني ، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يَسَار : أن السُّنَّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } إلى تمام الآيتين ، أن المرء{[8445]} إذا نشز عن امرأته وآثر عليها ، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القَسْم من ماله ونفسه ، فإن استقرت عنده على ذلك ، وكرهت أن يطلقها ، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك ، فإن لم يعرض عليها الطلاق ، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القَسْم من ماله ونفسه ، صلح له ذلك ، وجاز صلحها عليه ، كذلك ذكر سعيد بن المسيَّب وسليمان الصُّلحَ الذي قال الله عز وجل { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْر } .
وقد ذكر لي أن رافع بن خُدَيْج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة ، وآثر عليها الشابة ، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحلّ راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة أخرى ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها ، فناشدنه الطلاق فقال لها : ما شئتِ ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة ، فإن شئتِ استقررتِ على ما تَريْن من الأثرة ، وإن شئت فارقتك ، فقالت : لا بل أستقر على الأثرة . فأمسكها على ذلك ، فكان ذلك صلحهما ، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت{[8446]} أن تستقر عنده على الأثرة فيما أثر به عليها .
وهذا رواه بتمامه عبد الرحمن بن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، فذكره بطوله ، والله أعلم{[8447]}
وقوله : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني التخيير ، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق ، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها .
والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج ، وقبول الزوج ذلك ، خير من المفارقة بالكلية ، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زَمْعة على أن تركت يومها لعائشة ، رضي الله عنها ، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه ، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام . ولما كان الوفاق أحب إلى الله [ عز وجل ]{[8448]} من الفراق قال : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }
بل الطلاق بغيض إليه ، سبحانه وتعالى ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعًا ، عن كثير بن عبيد ، عن محمد بن خالد ، عن مُعَرِّف بن واصل ، عن محارب بن دِثَار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله{[8449]} الطلاق " .
ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس ، عن مُعَرِّف ، بن محارب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكر معناه مرسلا{[8450]} .
وقوله : { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ أي ]{[8451]} وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن ، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن ، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء .
هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ودمامة ، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها ، فيذهب الزوج إلى طلاقها ، أو إلى إيثار شابة عليها ، ونحو هذا مما يقصد به صلاح نفسه ولا يضرها هي ضرراً يلزمه إياها ، بل يعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة ، فتريد هي بقاء العصمة ، فهذه التي أباح الله تعالى بينهما الصلح ، ورفع الجناح فيه ، إذ الجناح في كل صلح يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه ، وأباح الله تعالى الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض ، وهو مع وقوعها مباح أيضاً ، و «النشوز » : الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة ، و «الإعراض » : أخف من النشوز{[4310]} .
وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي ، أو تعطي هي على أن لا يؤثر الزوج ، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة ، أو يقع الصلح على الصبر على الأثرة ، فهذا كله مباح ، واختلف المفسرون في سبب الآية ، فقال ابن عباس وجماعة معه : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة ، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل فنزلت { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } الآية{[4311]} ، وفي المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول ، وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم : نزلت الآية بسبب رافع بن خديج{[4312]} وخولة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة ، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا ، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى ، فلما بقي من العدة يسير قال لها : إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك ، قالت : بل راجعني وأصبر ، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر ، فقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقري على ما ترين من الأثرة ، وإلا طلقتك ، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه { وإن امرأة خافت } الآية{[4313]} ، وقال مجاهد : نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته{[4314]} ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصَّالحا » بفتح الياء وشد الصاد وألف بعدها ، وأصلها يتصالحا ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «يُصْلحا » بضم الياء وسكون الصاد دون ألف ، وقرأ عبيدة السلماني «يُصالحا » بضم الياء من المفاعلة ، وقرأ الجحدري وعثمان البتي «يَصّلحا » بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا ، قال أبو الفتح : أبدل الطاء صاداً ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا » ، وقرأ الأعمش «إن اصالحا » ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود ، وقوله { صلحاً } ليس الصلح مصدراً على واحد من هذه الأفعال التي قرىء بها ، فالذي يحتمل أن يكون اسماً كالعطاء مع أعطيت والكرامة مع أكرمت ، فمن قرأ «يصلحا » كان تعديه إلى الصلح كتعدية إلى الأسماء ، كما تقول : أصلحت ثوباً ، ومن قرأ «يصالحا » من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا يتعدى ، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعدياً في نحو قول ذي الرمة :
ومِنْ جَرْدَةٍ غَفَلٍ بساطٍ تَحَاسَنَتْ . . . بها الوشْيُ قَرَّاتُ الرياحِ وَخُورُها{[4315]}
ويجوز أن يكون الصلح مصدراً حذفت زوائده ، كما قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإن تهلك فذلك كان قدري {[4316]}
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : هذا كلام أبي علي على أن القدر مصدر جار على أن قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد ، وقوله تعالى { والصلح خير } لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق ، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة . وقوله تعالى { وأحضرت الأنفس الشح } معذرة عن عبيده تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره ، وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير : هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها ، وقال ابن زيد : الشح هنا منه ومنها .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وهذا حسن ، و { الشح } : الضبط على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك ، فما ُأفرط منها ففيه بعض المذمة ، وهو الذي قال تعالى فيه { ومن يوق شح نفسه }{[4317]} وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل ، وهي رذيلة " {[4318]} ، لكنها قد تكون في المؤمن ، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال نعم{[4319]} » وأما { الشح } ففي كل أحد ، وينبغي أن يكون ، لكن لا ُيفرط إلا على الدين{[4320]} ، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح } وقوله { شح نفسه } فقد أثبت أن لكل نفس شحاً ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أن تصدق وأنت صحيح شحيح{[4321]} » وهذا لم يرد به واحداً بعينه ، وليس يجمل أن يقال هنا : أن تصدق وأنت صحيح بخيل ، وقوله تعالى : { وإن تحسنوا } ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة والصبر على ما يكره من حالها . وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث للزوج أن يشح فلا يحسن { وتتقوا } معناه : تتقوا الله في وصيته بالنساء ، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله
«استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم »{[4322]} .
عطف لبقية إفتاء الله تعالى . وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين ، وقد تقدّم بعضه في قوله : { واللاتي تخافون نشوزهنّ } [ النساء : 34 ] الآية ، في هذه السورة ، فذلك حكم فصْل القضاء بينهما ، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما ، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة ، وهنا ذكر نشوز البعْل . والبعل زوج المرأة . وقد تقدّم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله { وبعولتهنّ أحقّ بردهنّ في ذلك } في سورة البقرة ( 228 ) .
وصيغة { فلا جناح } من صيغ الإباحة ظاهراً ، فدلّ ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما . وقد علم أنّ الإباحة لا تذكر إلاّ حيث يظنّ المنع ، فالمقصود الإذن في صلح يكون بخلع : أي عوَض مالي تعطيه المرأة ، أو تنازل عن بعض حقوقها ، فيكون مفاد هذه الآية أعمّ من مفاد قوله تعالى : { ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهن شيئاً إلاّ أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] ، فسمّاه هناك افتداء ، وسمّاه هنا صلحاً . وقد شاع في الاستعمال إطلاق الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحقّ ، وهو الأظهر هنا . واصطلح الفقهاء من المالكية : على إطّلاق الافتداء على اختلاع المرأة من زوجها بمال تعطيه ، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه بقية الصداق ، أو النفقة لها ، أو لأولادها .
ويحتمل أن تكون صيغة { لا جناح } مستعملة في التحريض على الصلح ، أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة ، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية ؛ شبّه حال من ترك الصلح واستمرّ على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنّه أنّ في الصلح جناحاً . فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين ، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح . والمقصود الأمر بأسباب الصلح ، وهي : الإغضاء عن الهفوات ، ومقابلة الغلظة باللين ، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله : { وإن يتفرّقا يغن الله كلاّ من سعته } .
وللنشوز والإعراض أحوال كثيرة : تقوى وتضعف ، وتختلف عواقبها ، . باختلاف أحوال الأنفس ، ويجمعها قوله : { خافت من بِعَلها نشوزاً أو إعراضاً } . وللصلح أحوال كثيرة : منها المخالعة ، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار الدالّة على حوادث من هذا القبيل . ففي « صحيح البخاري » ، عن عائشة ، قالت في قوله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً } قالت : الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول له أجعلك من شأني في حلّ . فنزلت هذه الآية . وروى الترمذي ، بسند حسن عن ابن عباس ، أنّ سودة أمّ المؤمنين وهبت يومها لعائشة ، وفي أسباب النزول للواحدي : أنّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمراً ، أيّ كِبَراً فأراد طلاقها ، فقالت له : أمسكني واقْسِم لي ما بدَا لك .
وقرأ الجمهور : { أن يصّالحا } بتشديد الصاد وفتح اللام وأصله يتصالحا ، فأدغمت التاء في الصاد ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : « إن يُصْلِحَا » بضمّ التحتيّة وتخفيف الصاد وكسر اللام أي يُصلح كلّ واحد منهما شأَنهما بما يبدو من وجوه المصالحة .
والتعريف في قوله : { والصلح خير } تعريف الجنس وليس تعريف العهد ، لأنّ المقصود إثبات أنّ ماهية الصلح خير للناس ، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه ، وليس المقصود أنّ الصلح المذكورَ آنفاً ، وهو الخلع ، خير من النزاع بين الزوجين ، لأنّ هذا ، وإنّ صحّ معناه ، ألاّ أنّ فائدة الوجه الأوّل أوفر ، ولأنّ فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أنّ النزاع لا خير فيه أصلاً . ومن جعل الصلح الثاني عين الأوّل غرّته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة ، وهي : أنّ لفظ النكرة إذا أعيد معرّفاً باللام فهو عين الأولى . وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في « مغني اللبيب » في الباب السادس ، فقال : يقولون : « النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، وإذا أعيدت معرفة ، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى » ، ثم ذكر أنّ في القرآن آيات تَرُدّ هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفاً } [ الروم : 54 ] وقوله : { أن يصّالحا بينهما صلحاً والصلح خير } [ النساء : 128 ] { زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] والشيء لا يكون فوق نفسه { أن النَّفْس بالنفس } [ المائدة : 45 ] { يسألك أهل الكتاب أن تُنَزّل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] ، وأنّ في كلام العرب ما يردّ ذلك أيضاً . والحقّ أنّه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أنّ الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد ، كما هنا . وقد تقدّم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى : { وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة } في سورة البقرة ( 193 ) . ويأتي عند قوله تعالى : { وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه } في سورة الأنعام ( 37 ) .
وقوله { خير } ليس هو تفضيلاً ولكنّه صفة مشبّهة ، وزنه فَعْل ، كقولهم : سَمْح وسَهْل ، ويجمع على خيور . أو هو مصدر مقابل الشرّ ، فتكون إخباراً بالمصدر . وأمّا المراد به التفضيل فأصل وزنه أفْعَل ، فخفّف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه .
جمعه أخيار ، أي والصلح في ذاته خير عظيم . والحمل على كونه تفضيلاً يستدعي أن يكون المفضّل عليه هو النشوز والإعراض ، وليس فيه كبير معنى .
وقد دلّت الآية على شدّة الترغيب في هذا الصلح بمؤكّدات ثلاثة : وهي المصدر المؤكّد في قوله : { صلحاً } ، والإظهارُ في مقام الإضمار في قوله : { والصلح خير } ، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنّها تدلّ على فعللِ سَجية .
ومعنى { وأحضرت الأنفس الشحّ } ملازمة الشحّ للنفوس البشرية حتّى كأنّه حاضر لديها . ولكونه من أفعال الجبلّة بُني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كلّ فعل غير معلوممِ الفاعل للمجهول ، كقولهم : شُغف بفلانة ، واضطُرّ إلى كذا .
ف« الشحّ » منصوب على أنّه مفعول ثان ل« أحضرِت » لأنّه من باب أعطَى .
وأصل الشحّ في كلام العرب البخل بالمال ، وفي الحديث " أنْ تَصّدّقَ وأنت صحيح شحيح تخشَى الفقر وتأمل الغنى " وقال تعالى : { ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9 ] ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلّة التسامح فيها ، ومنه المشاحّة ، وعكسه السماحة في الأمرين .
فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال ، وهو الفدية . فالشحّ هو شحّ المال ، وتعقيب قوله : { والصلح خير } بقوله : { وأحضرت الأنفس } على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها : وما إخالك تفعل ، لقصد التحريض .
ويجوز أن يكون المراد من الشحّ ما جبلت عليه النفوس : من المشاحّة ، وعدم التساهل ، وصعوبة الشكائم ، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره ، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبّسين بهذه المشاحّة الحائلة دون المصالحة . وتقدّم الكلام على البخل عند قوله تعالى : { ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله } في سورة آل عمران ( 180 ) . وقد اشتهر عند العرب ذمّ الشحّ بالمال ، وذمّ من لا سماحة فيه ، فكان هذا التعقيب تنفيراً من العوارض المانعة من السماحة والصلح ، ولذلك ذيّل بقوله : { وإن تحسنوا وتتّقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى .