قوله تعالى : { وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم } ، أي : جزاء مكرهم ، { وإن كان مكرهم } ، قرأ علي وابن مسعود : { وإن كان مكرهم } بالدال ، وقرأ العامة بالنون . { لتزول منه الجبال } ، قرأ العامة لنزول بكسر اللام الأولى ونصب الثانية . معناه : وما كان مكرهم . قال الحسن : إن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال . وقيل : معناه إن مكرهم لا يزيل محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال . وقرأ ابن جريج و الكسائي : لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، معناه : إن مكرهم وإن عظم حتى بلغ محلا يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : معناه وإن كان شركهم لنزول منه الجبال وهو قوله تعالى : { وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا } [ مريم-19 ] . ويحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معنى الآية : أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه ، وذلك أنه قال : إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد السماء فأعلم ما فيها ، فعمد إلى أربعة أفرخ من النسور فرباها حتى شبت واتخذ تابوتا ، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل ، وقعد نمرود مع رجل في التابوت ، ونصب خشبات في أطراف التابوت ، وجعل على رؤوسها اللحم وربط ، التابوت بأرجل النسور ، فطرن وصعدن طمعا في اللحم ، حتى مضى يوم وأبعدن في الهواء ، فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربناها ، ففتح الباب ونظر فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال : افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ؟ ففعل ، فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان ، فطارت النسور يوما آخر ، وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال لصاحبه : افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟ قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل معه القوس والنشاب فرمي بسهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء - وقيل : طائر أصابه السهم - فقال : كفيت شغل إله السماء . قال : ثم أمر نمرود صاحبه أنه يصوب الخشبات وينكص اللحم ، ففعل ، فهبطت النسور بالتابوت ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أنه قد حدث حدث من السماء ، وأن الساعة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها ، فذلك قوله تعالى : { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } .
{ وَقَدْ مَكَرُوا } أي : المكذبون للرسل { مَكْرَهُمْ } الذي وصلت إرادتهم وقدر لهم عليه ، { وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ } أي : هو محيط به علما وقدرة فإنه عاد مكرهم عليهم { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }
{ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } أي : ولقد كان مكر الكفار المكذبين للرسل بالحق وبمن جاء به -من عظمه- لتزول الجبال الراسيات بسببه عن أماكنها ، أي : { مكروا مكرا كبارا } لا يقادر قدره ولكن الله رد كيدهم في نحورهم .
ويدخل في هذا كل من مكر من المخالفين للرسل لينصر باطلا ، أو يبطل حقا ، والقصد أن مكرهم لم يغن عنهم شيئا ، ولم يضروا الله شيئا وإنما ضروا أنفسهم .
ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك ، إلى واقعهم الحاضر ، وشدة مكرهم بالرسول والمؤمنين ، وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة . فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى ذلك المصير ، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير :
( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم . . وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) . .
إن الله محيط بهم وبمكرهم ، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ، أثقل شيء وأصلب شيء ، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال . فإن مكرهم هذا ليس مجهولا وليس خافيا وليس بعيدا عن متناول القدرة . بل إنه لحاضر ( عند الله )يفعل به كيفما يشاء .
وقد روى شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن [ بن دابيل ]{[15995]} أن عليا ، رضي الله عنه ، قال في هذه الآية : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين ، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا{[15996]} .
قال : فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال : - ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم - قال : فطارا [ قال ]{[15997]} وجعل يقول لصاحبه : انظر ، ما{[15998]} ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كلها كأنها ذباب . قال : فقال : صوب العصا ، فصوبها ، فهبطا . قال : فهو قول الله ، عز وجل : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " . قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " وإن كاد مكرهم " {[15999]} .
قلت : وكذا رُوي عن أبي بن كعب ، وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما ، أنهما قرآ : " وإن كاد " ، كما قرأ علي . وكذا رواه سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أذنان{[16000]} عن علي ، فذكر نحوه .
وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان : أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر ، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح ، فعجزا وضعفا . وهما أقل وأحقر ، وأصغر وأدحر .
وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر ، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها ، نودي أيها الطاغية : أين تريد ؟ فَفَرق ، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح ، فصَوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول من حس{[16001]} ذلك ، فذلك قوله : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }
ونقل ابن جُريج{[16002]} عن مجاهد أنه قرأها : " لَتَزُولُ منه الجبال " ، بفتح اللام الأولى ، وضم{[16003]} الثانية .
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وكذا قال الحسن البصري ، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به ، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم .
قلت : ويشبه هذا إذا قوله تعالى : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [ الإسراء : 37 ] .
والقول الثاني في تفسيرها : ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول شركهم ، كقوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } [ مريم : 90 - 91 ] ، وهكذا قال الضحاك وقتادة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } .
يقول تعالى ذكره : قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم ، مَكْرَهم . وكان مكرهم الذي مكروا ما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبان قال : سمعت عليّا يقرأ : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال : كان ملك فَرِه أخذ فروخ النسور ، فعلفها اللحم حتى شبّت واستعلجت واستغلظت ، فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور ، وعلقوا اللحم فوق التابوت ، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت ، فقال لصاحبه : ما ترى ؟ قال : أرى الجبال مثل الدخان ، قال : ما ترى ؟ قال : ما أرى شيئا ، قال : ويحك صوّب صوّب قال : فذلك قوله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن واصل ، عن عليّ بن أبي طالب ، مثل حديث يحيى بن سعيد ، وزاد فيه : وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن واصل أن عليّا قال في هذه الاَية : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال : أخذ ذلك الذي حاجّ إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرّباهما ، ثم استغلظا واستعلجا وشبّا قال : فأوثق رجل كلّ واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوّعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم ، قال : فطارا ، وجعل يقول لصاحبه : انظر ماذا ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كأنها ذباب ، فقال : صوّب العصا فصوّبها فهبطا . قال : فهو قول الله تعالى : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال أبو إسحاق : وكذلك في قراءة عبد الله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجبالُ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » مكر فارس . وزعم أن بختنصر خرج بنسور ، وجعل له تابوتا يدخله ، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها أراه قال : فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟ ففرِق ، ثم سمع الصوت فوقه ، فصوّب الرماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال من هدّتها ، وكادت الجبال أن تزول منه من حسّ ذلك ، فذلك قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ » كذا قرأها مجاهد : «كادَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ » وقال : إن بعض من مضى جوّع نسورا ، ثم جعل عليها تابوتا فدخله ، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم ، فجعلت ترى اللحم فتذهب ، حتى انتهى بصره ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد ؟ فصوّب الرّماح ، فتصوّبت النسور ، ففزعت الجبال ، وظنّت أن الساعة قد قامت ، فكادت أن تزول ، فذلك قوله تعالى : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .
قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن عمر بن الخطاب ، أنه كان يقرأ : وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْه الجِبالُ .
حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه كان يقرأ على نحو : «لَتَزُولُ » بفتح اللام الأولى ورفع الثانية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل قال : سمعت عليّا يقول : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل ، قال : سمعت عليّا يقول : «وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولَ مِنْهُ الحِبالُ » قال : ثم أنشأ عليّ يحدّث فقال : نزلت في جبّار من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء ، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدّت ، وذكر مثل حديث شعبة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود الحضرمي ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد أو جعفر ، عن سعيد بن جبير : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الحِبالُ » قال : نمرود صاحب النسور ، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلاً ، ثم أمر بالنسور فاحتمل ، فلما صعد قال لصاحبه : أيّ شيء ترى ؟ قال : أرى الماء وجزيرة يعني الدنيا ثم صعد فقال لصاحبه : أيّ شيء ترى ؟ قال : ما نزداد من السماء إلاّ بُعدا ، قال : اهبط وقال غيره : نودي أيها الطاغية أين تريد ؟ قال : فسمعت الجبال حفيف النسور ، فكانت ترى أنها أمر من السماء ، فكادت تزول ، فهو قوله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، أن أنسا كان يقرأ : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » .
وقال آخرون : كان مكرهم شركهم بالله وافتراءهم عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ يقول : شركهم ، كقوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » قال : هو كقوله : وَقالُوا اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إدّا تَكاد السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجبالُ هَدّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ ثم ذكر مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن كان يقول : كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال ، يصفهم بذلك . قال قتادة : وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «وإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » ، وكان قتادة يقول عند ذلك : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا : أي لكلامهم ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجبالُ » قال ذلك حين دعوا لله ولدا . وقال في آية أخرى : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا أنْ دَعَوْا للرّحْمَنِ وَلَدًا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ في حرف ابن مسعود : «وإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » هو مثل قوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجِبالُ هَدّا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وقرأه الكسائي : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرأ ذلك : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ » من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم ، بمعنى : اشتدّ مكرهم حتى زالت منه الجبال ، أو كادت تزول منه . وكان الكسائيّ يحدّث عن حمزة ، عن شبل عن مجاهد ، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته : «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولُ مِنْهُ الجبالُ » برفع تزول .
حدثني بذلك الحرث عن القاسم عنه .
والصواب من القراءة عندنا ، قراءة من قرأه : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرههم لتزول منه الجبال .
وإنما قلنا ذلك هو الصواب ، لأن اللام الأولى إذا فُتحت ، فمعنى الكلام : وقد كان مكرهم تزول منه الجبال ، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة ، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل . وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك ، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره .
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك ، فإن الأمر بخلاف ما ظنّ في ذلك ، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ » بالدال ، وهي إذا قرئت كذلك ، فالصحيح من القراءة مع : وَإنْ كادَ فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا ، وغير جائز عندنا القراءة كذلك ، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك ، وإنما خطّ مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال . وإذا كانت كذلك ، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين ، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلاّ ما عليه قرّاء الأمصار دون من شذّ بقراءته عنهم .
وبنحو الذي قلنا في معنى : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَدْ مَكَرُوا مَكرهُم وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس وعمرو ، عن الحسن : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ منْهُ الجِبالُ قالا : وكان الحسن يقول : وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال .
قال : قال هارون : وأخبرني يونس ، عن الحسن قال : أربع في القرآن : وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وقوله : لاتّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إنْ كُنّا فاعِلِينَ : ما كنا فاعلين . وقوله : إنْ كانَ للرّحْمَنِ وَلَدٌ فأنا أوّلُ العابِدِينَ : ما كان للرحمن ولد . وقوله : وَلَقَدْ مَكَنّاهُمْ فِيما إنْ مَكّنّاكُمْ : ما مكناكم فيه .
قال : هارون : وحدثني بهنّ عمرو بن أسباط ، عن الحسن ، وزاد فيهنّ واحدة : فإنْ كُنْتَ فِي شَكّ : ما كنت في شكّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ .
فالأولى من القول بالصواب في تأويل الاَية ، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بيّنا من الدلالة في قوله : وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه ، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه ، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها ، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال ، بل ما ضرّوا بذلك إلاّ أنفسهم ، ولا عادت بغية مكروهة إلاّ عليهم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، قال : حدثنا الأعمش ، عن شِمر ، عن عليّ ، قال : الغدر مكر ، والمكر كفر .
وقوله : { وعند الله مكرهم } هو على حذف مضاف تقديره : وعند الله عقاب مكرهم أو جزاء مكرهم ، ويحتمل قوله تعالى : { وقد مكروا مكرهم } أن يكون خطاباً لمحمد عليه السلام ، والضمير لمعاصريه ، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم .
وقرأ السبعة سوى الكسائي : «وإن كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال » بكسر اللام من { لتزول } وفتح الأخيرة ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وجماعة سكنوا وهذا على أن تكون «إن » نافية بمعنى ما ، ومعنى الآية : تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها ، هذا تأويل الحسن وجماعة من المفسرين ، وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم ، أي وإن كان شديداً إنما يفعل لتذهب به عظام الأمور .
وقرأ الكسائي : «وإن كان مكرهم لَتزولُ منه الجبال » بفتح اللام الأولى من { لتزول } وضم الأخيرة ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن وثاب ، وهذا على أن تكون «إن » مخففة من الثقيلة ، ومعنى الآية تعظيم مكرهم وشدته ، أي أنه مما يشقى به ويزيل الجبال عن مستقراتها لقوته ، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه ، وهذا أشد في العبرة .
وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي بن كعب «وإن كاد مكرهم » ، ويترتب مع هذه القراءة في { لتزول } ما تقدم{[7103]} . وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي بن كعب «ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال » . وحكى الطبري عن بعض المفسرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود إذ علق التابوت من الأنسر ، ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد ان أجاعها ودخل هو وحاجبه في التابوت ، فعلت بهما الأنسر حتى قال له نمرود : ماذا ترى ؟ قال : أرى بحراً وجزيرة - يريد الدنيا المعمورة - ثم قال : ماذا ترى ؟ قال : أرى غماماً ولا أرى جبلاً ، فكأن الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر ، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب . وذلك عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه ، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى ، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف ، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا .
يجوز أن يكون عطفَ خبر على خبر ، ويجوز أن يكون حالاً من { الناس } في قوله : { وأنذر الناس } ، أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم .
والمكر : تبييت فعل السوء بالغير وإضمارُهُ . وتقدم في قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران ( 54 ) ، وفي قوله : { أفأمنوا مكر الله } في سورة الأعراف ( 99 ) .
{ وانتصب مكرهم } الأول على أنه مفعول مطلق لفعل { مكروا } لبيان النوع ، أي المكر الذي اشتهروا به ، فإضافة { مكر } إلى ضمير { هم } من إضافة المصدر إلى فاعله . وكذلك إضافة { مكر } الثاني إلى ضمير { هم } .
والعندية إما عندية عِلم ، أي وفي علم الله مكرهم ، فهو تعري بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم ، وإما عندية تكوين ما سُمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله فيكون وعيداً بالجزاء على مكرهم .
وقرأ الجمهور { لتزول } بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون ( إن ) نافية ولام { لتزول } لام الجحود ، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال ، وهو استخفاف بهم ، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم ، وما هو بالذي تزول منه الجبال . وفي هذا تعريض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي .
وقرأ الكسائي وحده بفتح اللام الأولى من { لَتزولُ } ورفع اللام الثانية على أن تكون { إنْ } مخففة من { إنْ } المؤكدة وقد أكمل إعمالها ، واللام فارقة بينها وبين النافية ، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم ، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول ، أي جديرة ، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة . وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى : { يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً } [ سورة مريم : 90 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم، مَكْرَهم... كان مكرهم شركهم بالله وافتراءهم عليه... عن الضحاك: «وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبالُ» قال: هو كقوله:"وَقالُوا اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إدّا تَكاد السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقّ الأرْضُ وتَخِرّ الجبالُ هَدّا"...
عن ابن عباس، قوله: "وَقَدْ مَكَرُوا مَكرهُم وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ "يقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال...
فالأولى من القول بالصواب في تأويل الآية... في قوله: "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ": وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال، بل ما ضرّوا بذلك إلاّ أنفسهم، ولا عادت بغية مكروهة إلاّ عليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقد مكروا مكرهم} مكروا: احتالوا على إهلاك الرسل وقتلهم كقوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا...} (الأنفال: 30) وكيدهم الذي ذكر في غير آية من القرآن برسل الله حتى قال الرسل: {فكيدوني جميعا} (هود: 55). ومكروا أيضا بدين الله الذي أتت به الرسل؛ مكرا، واحتالوا على إطفاء ذلك النور، فأبى الله ذلك عليهم، وأظهر دينه، وأبقى نوره إلى يوم القيامة كقوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله} (التوبة: 32). كان مكرهم وحيلهم يرجع في أحد التأويلين إلى نفس الرسل حين هموا وقصدوا إهلاكهم، وفي الثاني: يرجع إلى إطفاء الدين الذي أتى به الرسل والنور الذي دعوا إليه.
{وعند الله مكرهم} أي عند الله العلم بمكرهم، محفوظ ذلك عنده، لا يفوت ولا يذهب عنه شيء، فيجزيهم بذلك في الآخرة. أو {وعند الله مكرهم} أي عند الله الأسباب التي بها مكروا، من عند الله استفادوا، وهو النعيم الذي أعطاهم، والأموال التي ملكهم، والعقول التي ركب فيهم بما قدروا على المكر والاحتيال عند الله، والله أعلم...
ثم اختلف في قوله: {وإن كان} وقال الحسن وغيره. {وإن} بمعنى ما، أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، قال: كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال، [وقال: إن] بمعنى ما كثير في القرآن... فمن حمله على: ما فقد استهان بمكرهم، واستخف به، فقال: إن مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال، والجبال أوهن وأسرع زوالا من رسالة الرسل ودين الله، بل رسالة الرسل ودين الله أثبت من الجبال لأن دين الله ورسله معهما حجج الله وبراهينه، فإذا لم يعمل مكرهم في إزالة الجبال لا يعمل في إزالة دين الله ورسالة الرسل، ومعهما الحجج والبراهين. ومن قال:"وإن كان": قد كان، حمله على استعظام مكرهم، وعلى ذلك من قرأ "كاد "بالدال على استعظام مكرهم كقوله: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} (مريم: 90 و 91) من عظيم ما قالوا كادت السماوات تنشق. فعلى ذلك مكرهم جميعا في الوجهين: أن يستهان مرة، ويستعظم أخرى إلا أن يقال: إن كلمتهم من حيث الشرك والكفر عظيمة، ومن حيث احتيالهم ومكرهم في إزالة ذلك النور وإطفائه ضعيف، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم.
{وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ}، لا يخلو إمّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأوّل، على معنى: ومكتوب عند الله مكرهم، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون. {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته، أي: وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال، معداً لذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
يحتمل قوله تعالى: {وقد مكروا مكرهم} أن يكون خطاباً لمحمد عليه السلام، والضمير لمعاصريه، ويحتمل أن يكون مما يقال للظلمة يوم القيامة والضمير للذين سكن في منازلهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{و} الحال أنه بان لكم أنهم حين فعلنا بهم ما فعلنا {قد مكروا مكرهم} أي الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم بحيث لم يبق لهم مكر غيره في تأييد الكفر وإبطال الحق؛ والمكر: الفتل إلى الضرر على وجه الحيلة {و} الحال أنه {عند الله} أي المحيط علماً وقدرة {مكرهم} هو وحده به عالم من جميع وجوهه وإن دق، وعلى إبطاله قادر وإن جل {وإن كان مكرهم} من القوة والضخامة {لتزول} أي لأجل أن تزول {منه الجبال}...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
الحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقديرِ الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود، بحيث لا يقدِر عليه غيرُهم، فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادئ البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ، فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى.. وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان من حيث لا يشعرون، وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل: {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ، والجملةُ حالٌ من الضمير في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزاؤه أو ما هو أعظمُ منه، والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً مع تحقق ما يوجب تركَه {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} في العِظَم والشدة {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ...
{وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك، إلى واقعهم الحاضر، وشدة مكرهم بالرسول والمؤمنين، وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة. فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى ذلك المصير، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير: (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم.. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال).. إن الله محيط بهم وبمكرهم، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال. فإن مكرهم هذا ليس مجهولا وليس خافيا وليس بعيدا عن متناول القدرة. بل إنه لحاضر (عند الله) يفعل به كيفما يشاء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن يكون عطفَ خبر على خبر، ويجوز أن يكون حالاً من {الناس} في قوله: {وأنذر الناس}، أي أنذرهم في حال وقوع مكرهم...
والعندية إما عندية عِلم، أي وفي علم الله مكرهم، فهو تعري بالوعيد والتهديد بالمؤاخذة بسوء فعلهم، وإما عندية تكوين ما سُمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله فيكون وعيداً بالجزاء على مكرهم...
ولام {لتزول} لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال...