قوله : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } قيل : الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم .
وقيل : أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } يا محمد ، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] .
وقيل : المراد من هذا المكر ما نقل : أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً ، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ ، وكان قد جوَّعها ، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً ، وعلم عليها اللحم ، ثم جلس مع صاحب له في التابوت ، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام ، وغابت الدنيا عن عين نمروذ ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض .
قال القاضي -رحمه الله- : " وهذا بعيد جدًّا ؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم ، ولا يكاد العاقل يقدم عليه ، وما جاء فيه خبر ، ولا دليل " .
قال القشيري : وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة ، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع ، وخمسة وعشرين ذراعاً ، وصعد فيه مع النُّّسور ، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه ، فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعى الصَّرح عليهم ، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله -عزَّ وجلَّ- : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ }{[19370]} .
قوله : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله ، أو للمفعول ، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، أي : يعذبهم قالهما الزمخشريُّ .
قال أبو حيان{[19371]} : " وهذا لا يصحُّ إلاَّ إن كان " مَكَرَ " يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به ، والمحفوظ أن " مَكَرَ " لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه ، قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] وتقول : زيدٌ ممكور به ، ولا يحفظ : زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا .
قوله : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } قرأ العامة بكسر لام " لِتَزولَ " الأولى ، والكسائي بفتحها{[19372]} .
فأما القراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها نافيةٌ ، واللام بعدها لام الجحودِ ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ ، وفي " كَانَ " حينئذ قولان :
أحدهما : أنَّها تامَّة ، والمعنى ؛ تحقير مكرهم ، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها{[19373]} .
ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله : ( وما كان مَكْرُهُمْ ) .
القول الثاني : أنَّها ناقصةٌ ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين ، هل هو محذوف ، واللام متعلقة به ؟ وإليه ذهب البصريون ، أو هو اللام ، وما جرته كما [ هو مذهب ]{[19374]} الكوفيين ؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران .
الوجه الثاني : أن تكون المخففة من الثقيلة .
قال الزمخشري{[19375]} : " وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم معدًّا لذلك " .
وقال ابن عطية{[19376]} : " ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة : تعظيم مكرهم ، أي : وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الأمور " ، فمفهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ ؛ لأنَّه إثبات .
والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابها محذوفٌ ، أي : وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه الجبال الرَّواسي ، وهي المعجزات ، والآيات ، فالله مجازيهم بمكرهم ، وأعظم منه .
وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل ، وهو : أنها نافية ؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكسائي في ذلك ؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات ، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي .
وقد أجاب بعضهم عن ذلك : بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام ، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها ، وفي قراءة الجماعة مشار بها إلى ما جاء به النبيُّ المختار -صلوات الله وسلامه عليه- من الدين الحق ، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً ، وإثباتاً .
وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي : " إنْ " وجهان :
مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة ، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية ، واللام بمعنى : " إلاَّ " وقد تقدَّم تحقيق المذهبين .
وقرأ عمر ، وعلي ، وعبد الله{[19377]} ، وزيد بن علي ، وأبو سلمة وجماعة -رضي الله عنهم- ( وإن كاد مكرهم لتزول ) كقراءة الكسائي ، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون : " كَانَ " دالاً ، فعل مقاربة ، وتخريجها كما تقدَّم ، ولكن الزوال غير واقع .
وقرئ : " لَتَزُولَ " {[19378]} بفتح اللامين ، وتخريجها على إشكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي .
في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان :
الثاني : الإسلامُ ، والقرآن ؛ لأنَّ ثبوته ، ورسوخه كالجبالِ .
وقال القشيريُّ : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي : هو عالم بذلك فيجازيهم ، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.