اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

قوله : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } قيل : الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم .

وقيل : أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } يا محمد ، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] .

وقيل : المراد من هذا المكر ما نقل : أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً ، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ ، وكان قد جوَّعها ، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً ، وعلم عليها اللحم ، ثم جلس مع صاحب له في التابوت ، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام ، وغابت الدنيا عن عين نمروذ ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض .

قال القاضي -رحمه الله- : " وهذا بعيد جدًّا ؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم ، ولا يكاد العاقل يقدم عليه ، وما جاء فيه خبر ، ولا دليل " .

قال القشيري : وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة ، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع ، وخمسة وعشرين ذراعاً ، وصعد فيه مع النُّّسور ، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه ، فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعى الصَّرح عليهم ، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله -عزَّ وجلَّ- : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ }{[19370]} .

قوله : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله ، أو للمفعول ، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، أي : يعذبهم قالهما الزمخشريُّ .

قال أبو حيان{[19371]} : " وهذا لا يصحُّ إلاَّ إن كان " مَكَرَ " يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به ، والمحفوظ أن " مَكَرَ " لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه ، قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] وتقول : زيدٌ ممكور به ، ولا يحفظ : زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا .

قوله : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } قرأ العامة بكسر لام " لِتَزولَ " الأولى ، والكسائي بفتحها{[19372]} .

فأما القراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّها نافيةٌ ، واللام بعدها لام الجحودِ ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ ، وفي " كَانَ " حينئذ قولان :

أحدهما : أنَّها تامَّة ، والمعنى ؛ تحقير مكرهم ، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها{[19373]} .

ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله : ( وما كان مَكْرُهُمْ ) .

القول الثاني : أنَّها ناقصةٌ ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين ، هل هو محذوف ، واللام متعلقة به ؟ وإليه ذهب البصريون ، أو هو اللام ، وما جرته كما [ هو مذهب ]{[19374]} الكوفيين ؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران .

الوجه الثاني : أن تكون المخففة من الثقيلة .

قال الزمخشري{[19375]} : " وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم معدًّا لذلك " .

وقال ابن عطية{[19376]} : " ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة : تعظيم مكرهم ، أي : وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الأمور " ، فمفهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ ؛ لأنَّه إثبات .

والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابها محذوفٌ ، أي : وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه الجبال الرَّواسي ، وهي المعجزات ، والآيات ، فالله مجازيهم بمكرهم ، وأعظم منه .

وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل ، وهو : أنها نافية ؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكسائي في ذلك ؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات ، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي .

وقد أجاب بعضهم عن ذلك : بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام ، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها ، وفي قراءة الجماعة مشار بها إلى ما جاء به النبيُّ المختار -صلوات الله وسلامه عليه- من الدين الحق ، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً ، وإثباتاً .

وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي : " إنْ " وجهان :

مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة ، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية ، واللام بمعنى : " إلاَّ " وقد تقدَّم تحقيق المذهبين .

وقرأ عمر ، وعلي ، وعبد الله{[19377]} ، وزيد بن علي ، وأبو سلمة وجماعة -رضي الله عنهم- ( وإن كاد مكرهم لتزول ) كقراءة الكسائي ، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون : " كَانَ " دالاً ، فعل مقاربة ، وتخريجها كما تقدَّم ، ولكن الزوال غير واقع .

وقرئ : " لَتَزُولَ " {[19378]} بفتح اللامين ، وتخريجها على إشكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي .

فصل

في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان :

أحدهما : جبال الأرض .

الثاني : الإسلامُ ، والقرآن ؛ لأنَّ ثبوته ، ورسوخه كالجبالِ .

وقال القشيريُّ : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي : هو عالم بذلك فيجازيهم ، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف .


[19370]:ذكره الماوردي في "تفسيره" المسمى بـ "النكت والعيون" (3/142).
[19371]:ينظر: البحر المحيط 5/425.
[19372]:ينظر: الحجة 5/31 وإعراب القراءات السبع 1/336، 337 وحجة القراءات 379 والإتحاف 2/171 والمحرر الوجيز 3/346 والبحر المحيط 5/426 والدر المصون 4/279.
[19373]:ينظر: الكشاف 2/566 والبحر المحيط 5/426 والدر المصون 4/280.
[19374]:في أ: ذهب إليه.
[19375]:ينظر: الكشاف 2/565.
[19376]:ينظر: المحرر الوجيز 3/346.
[19377]:ينظر: المحرر الوجيز 3/346 والبحر المحيط 5/425 والدر المصون 4/280.
[19378]:ينظر: البحر المحيط 5/426 والدر المصون 4/280.