إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

وقوله عز وجل : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً ، وإنما قُدّم عليه قوله تعالى : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } [ إبراهيم : 45 ] لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلنا ، والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقديرِ الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود ، بحيث لا يقدِر عليه غيرُهم ، فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادئ البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ ، فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه ، على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله ، أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضاف إلى مفعوله ، وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان من حيث لا يشعرون ، وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل : { كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ ، والجملةُ حالٌ من الضمير في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزاؤه أو ما هو أعظمُ منه ، والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً مع تحقق ما يوجب تركَه { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } في العِظَم والشدة { لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ ، وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك ، والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةٌ على جملة مقدرة والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ ، وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دَلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق عند وجودِ المانعِ القويِّ فلأن يتحققَ عند عدمِه أولى ، وعلى هذه النُكتة يدور ما في أن الوصليةِ من التأكيد المعنوي ، والجواب محذوفٌ دل عليه ما سبق وهو قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } وقيل : إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } [ الأنفال : 33 ] وينصره قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم ، فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ ، وأما كونُها عبارةً عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين ، وقيل : هي مخففةٌ من إنّ ، والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر في الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائعِ على أنه لم يكن يصحّ أن يكون منهم مكرٌ كذلك ، وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكرِ لإزالته ، وقد قرأ الكسائي لَتزولُ بفتح اللام على أنها الفارقة ، والمعنى تعظيمُ مكرِهم فالجملةُ حالٌ من قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي عنده تعالى جزاءُ مكرهم أو المكرُ بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبالُ أي في غاية الشدة ، وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ ( وإن كاد مكرهم ) هذا هو الذي يقتضيه النظمُ الكريم وينساق إليه الطبعُ السليم .

وقد قيل إن الضمير في مكروا للمنذَرين والمرادُ بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] ، وغيرُه من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولعل الوجهَ حينئذ أن يكون قوله تعالى : { وَقَدْ مَكَرُواْ } الخ ، حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحالُ أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكورِ ، مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلَكين وتبيّن أحوالُهم وضرْبُ الأمثال قد مكروا مكرَهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجردَ الإقسام الذي وُبِّخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة ، وقوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } [ إبراهيم : 46 ] حالٌ من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل ، وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً كما مر هناك وعلى تقدير كون إنْ نافيةً فهو حال من ضمير مكروا ، والجبالُ عبارةٌ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا ، والحالُ أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال ، وعلى تقدير كونها مخففةً من الثقيلة واللامُ مكسورةٌ يكون حالاً منه أيضاً على معنى أن ذلك المكرَ العظيم منهم كان لهذا الغرض ، على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك المكر لِما أن شأنَ الشرائعِ أعظم من أن يمكُرَ بها ماكرٌ ، وعلى تقدير فتح اللام فهو حالٌ من قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } كما ذكرنا من قبل فليُتأمل .