السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

ولما ذكر تعالى صفة عقابهم أتبعه بذكر كيفية مكرهم بقوله تعالى :

{ وقد مكروا مكرهم } ، أي : الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ، واختلف في عود الضمير في مكروا على وجوه : الأوّل : أن يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ؛ لأنّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور . والثاني : إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى : { وأنذر } ، أي : يا محمد الناس وقد مكر قومك مكرهم ، وذلك المكر هو الذي ذكر الله تعالى في قوله : { إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال ، 30 ] . { وعند الله مكرهم } ، أي : ومكتوب عند الله فعلهم ، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه .

وقيل : إنّ مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال . وقد حكي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قول آخر وهو أنها نزلت في نمروذ الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه فقال نمروذ : إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء ، فأعلم ما فيها ، ثم أمر نمروذ صاحبه فاتخذ لنفسه تابوتاً ، وجعل له باباً من أعلاه وباباً من أسفله ، وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور ، وكان قد جوّعها ، ورفع فوق الجوانب الأربع من التابوت عصياً أربعة وعلق على كل واحدة منها قطعة لحم ، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت ، فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جوّ الهواء ، فطارت يوماً حتى أبعدت في الهواء ، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأسفل ، وانظر إلى الأرض كيف تراها ؟ ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان قال : فطارت النسور ، يوماً آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأعلى ، ففتح فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الباب الأسفل ، فإذا الأرض سوداء مظلمة ، ونودي أيها الطاغي أين تريد ؟ قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب ، فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخاً بالدم بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء ، وقيل : طائر أصابه السهم فقال : كفيت إله السماء ، فنكس تلك العصيّ التي علق عليها اللحوم ، فتسفلت النسور ، وهبطت إلى الأرض ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أن قد حدث في السماء حدث وأن القيامة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها فذلك قوله تعالى : { وإن كان مكرهم } ، أي : من القوّة والضخامة { لتزول منه الجبال } قال الرازي : ولا حاجة في تأويل الآية إلى هذا ، فإنه لم يجيء فيه خبر صحيح معتمد انتهى . والمراد بالجبال هنا قيل : حقيقتها وقيل شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات . وقرأ الكسائيّ بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة ، والباقون بكسر الأولى وفتح الثانية ، والتقدير على القراءة الأولى : وإن كان بحيث أنه تزول منه الجبال ، وقيل : أن نافية واللام لتأكيد النفي .