الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ} (46)

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { وإن كان مكرهم } يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف ، عن الحسن رضي الله عنه قال : أربعة أحرف في القرآن { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } ما مكرهم وقوله { لتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين } [ الأنبياء : 17 ] ما كنا فاعلين . وقوله { إن كان للرحمن ولد } ما كان للرحمن من ولد وقوله { ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه } ما مكناكم فيه .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { وإن كان مكرهم } يقول شركهم . كقوله { تكاد السماوات يتفطرن منه } [ مريم : 90 ] .

وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } قال : هو كقوله { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً . لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا } [ مريم : 88-90 ] .

وأخرج ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه ، أن الحسن كان يقول : كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال ، يصفهم بذلك . قال قتادة رضي الله عنه : وفي مصحف عبد الله بن مسعود { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } وكان قتادة رضي الله عنه يقول عند ذلك { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا } أي لكلامهم ذلك .

وأخرج ابن حميد وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر : كان يقرأ { وإن كان مكرهم } بالنون { لتزول } برفع اللام الثانية وفتح الأولى .

وأخرج ابن الأنباري عن الحسن ، أنه كان يقرأ { وإن كان مكرهم لتزول } بكسر اللام الأولى وفتح الثانية . ويقول : فإن مكرهم أهون وأضعف من ذلك .

وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ، عن عمر بن الخطاب أنه قرأ «وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال » يعني بالدال .

وأخرج ابن المنذر وابن الأنباري ، عن علي بن أبي طالب أنه كان يقرأ { وإن كان مكرهم }

وأخرج ابن الأنباري عن أبي بن كعب ، أنه قرأ { وإن كان مكرهم } .

وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس ، أنه قرأ « وإن كاد مكرهم » . قال : وتفسيره عنده { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال } هذا { أن دعوا للرحمن ولداً } [ مريم : 91 ] .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد ، أنه كان يقرأ { لتزول } بفتح اللام الأولى ، ورفع الثانية .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } ثم فسرها فقال : إن جباراً من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى ما في السماء ، فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبت وغلظت ، وأمر بتابوت فنجر يسع رجلين ، ثم جعل في وسطه خشبة ، ثم ربط أرجلهن بأوتاد ، ثم جوَّعهن ، ثم جعل على رأس الخشبة لحماً ثم دخل هو وصاحبه في التابوت ، ثم ربطهن إلى قوائم التابوت ، ثم خلى عنهن يردهن اللحم ، فذهبن به ما شاء الله تعالى . ثم قال لصاحبه : افتح فانظر ماذا ترى . ففتح فقال : أنظر إلى الجبال . . . . كأنها الذباب . . ! قال : أغلق . فأغلق ، فطرن به ما شاء الله ، ثم قال : افتح . . . ففتح . فقال : انظر ماذا ترى . فقال : ما أرى إلا السماء ، وما أراها تزداد إلا بعداً . قال : صوّب الخشبة . فصوّبها فانقضت تريد اللحم ، فسمع الجبال هدتها فكادت تزول عن مراتبها .

وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أخذ الذي حاجَّ إبراهيم عليه السلام في ربه نسرين صغيرين ، فربّاهما حتى استغلظا واستعلجا وشبّا ، فأوثق رجل كل واحد منهما بوتر إلى تابوت . وجوّعهما وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم فطارا وجعل يقول لصاحبه : انظر ماذا ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا .

حتى قال : أرى الدنيا كأنها ذباب . قال : صوّب العصا . فَصَوَّبَها فهبطا . قال : فهو قول الله تعالى { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } وكذلك هي في قراءة ابن مسعود { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه ، أن بخت نصر جوّع نسوراً ، ثم جعل عليهن تابوتاً ، ثم دخله وجعل رماحاً في أطرافها واللحم فوقها ، فَعَلَتْ تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها ، فنودي : أيها الطاغية ، أين تريد ؟ ففرق ، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح فقوضت النسور ، ففزعت الجبال من هدّتها ، وكادت الجبال أن تزول من حسّ ذلك . فذلك قوله { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } كذا قرأها مجاهد .

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في الآية قال : إن نمرود صاحب النسور لعنه الله ، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلاً ، ثم أمر بالنسور فاحتمل ، فلما صعد قال لصاحبه : أي شيء ترى ؟ قال : أرى الماء وجزيرة - يعني الدنيا - ثم صعد فقال لصاحبه : أي شيء ترى ؟ قال : ما نزداد من السماء إلا بعداً . قال : اهبط .

وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي عبيدة ، أن جبّاراً من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى من في السماء . فسلط عليه أضعف خلقه ، فدخلت بعوضة في أنفه فأخذه الموت ، فقال : اضربوا رأسي . فضربوه حتى نثروا دماغه .

وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك رضي الله عنه في قوله { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } قال : انطلق ناس وأخذوا هذه النسور ، فعلقوا عليها كهيئة التوابيت ثم أرسلوها في السماء ، فرأتها الجبال فظنت أنه شيء نزل من المساء ، فتحركت لذلك .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : أمر الذي حاجّ إبراهيم في ربه بإبراهيم ، فأخرج من مدينته فلقي لوطاً على باب المدينة وهو ابن أخيه ، فدعاه فآمن به وقال : إني مهاجر إلى ربي . وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أربعة فراخ من فراخ النسور ، فربّاهن بالخبز واللحم . . . حتى إذا كبرن وغلظن واستعلجن ، قرنهنّ بتابوت وقعد في ذلك التابوت ، ثم رفع رجلاً من لحم لهن ، فطرن حتى إذا دهم في السماء أشرف فنظر إلى الأرض وإلى الجبال تدب كدبيب النمل ، ثم رفع لهن اللحم ثم نظر ، فرأى الأرض محيطاً بها بحر كأنها فلكة في ماء ، ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته ، فألقى اللحم فأتبعته منقضات ، فلما نظرت الجبال إليهن قد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهن ، فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها ، ولم يفعلن .

فذلك قوله { وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } وهي في قراءة عبد الله بن مسعود « وإن كاد مكرهم » فكان طيورهن به من بيت المقدس ، ووقوعهن في جبال الدخان . فلما رأى أنه لا يطيق شيئاً ، أخذ في بنيان الصرح فبناه حتى أسنده إلى السماء ، ارتقى فوقه ينظر يزعم إلى إله إبراهيم ، فأحدث ولم يكن يحدث ، وأخذ الله بنيانه من القواعد { فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } [ النحل : 26 ] يقول : من مأمنهم وأخذهم من أساس الصرح ، فانتقض بهم . . . . وسقط فتبلبلت ألسنة الناس يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً ، فلذلك سميت بابل وكان قبل ذلك بالسريانية .