قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم } . أي يبست وجفت ، جفاف القلب : خروج الرحمة واللين عنه ، وقيل : غلظت ، وقيل : اسودت .
قوله تعالى : { من بعد ذلك } . من بعد ظهور الدلالات . قال الكلبي : قالوا بعد ذلك : نحن لم نقتله ، فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك .
قوله تعالى : { فهي } . في الغلظة والشدة .
قوله تعالى : { كالحجارة أو أشد قسوة } . قيل : أو بمعنى بل . أو بمعنى الواو ( مائة ألف أو يزيدون ) أي : بل يزيدون أو ويزيدون ، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة ، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار ، وقد لان لداود عليه السلام ، والحجارة لا تلين قط ، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال :
قوله تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } . قيل : أراد به جميع الحجارة ، وقيل : أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط .
قوله تعالى : { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } . أراد به عيوناً دون الأنهار .
قوله تعالى : { وإن منها لما يهبط } . ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله .
قوله تعالى : { من خشية الله } . وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود . فإن قيل : جماد لا يفهم ، فكيف يخشى قيل : الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه . ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى خلق علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ، لا يقف عليه غير الله ، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) وقال ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) وقال : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ) الآية ، فيجبعلى المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى سبحانه وتعالى .
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك ، فقال له جبل حراء : إلي يا رسول الله .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، ثنا السدي أبو الحسين محمد ابن حسن العلوي ، أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري ، أنا محمد ابن إسماعيل الصائغ ، أنا يحيى بن أبي بكر ، أنا إبراهيم بن طهمان ، عن سماك ابن حرب . عن جابر بن سمرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن " هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم ، عن أبي بكر ابن أبي شيبة ، عن يحيى بن أبي بكر . وصح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : " هذا جبل يحبنا و نحبه " .
وروي عن أبي هريرة يقول : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال : بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي ، فركبها فضربها ، فقالت : إنا لم نخلق لهذا ، إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .
وقال : " بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها ، فأدركها صاحبها فاستنفذها ، فقال الذئب : فمن لها يوم السبع أي يوم القيامة ، يوم لا راعي لها غيري فقال الناس : سبحان الله ذئب يتكلم ! فقال : أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .
وصح عن أبي هريرة ، قال : " كان رسول صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اهدأ . أي : اسكن . فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " صحيح أخرجه مسلم . أخبرنا عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع ، أنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن هشام الرازي ، أنا محمد بن أيوب بن ضريس وهو يجلي الرازي ، أنا محمد بن الصباح ، عن الوليد ابن أبي ثور ، عن السدي ، عن عبادة بن أبي يزيد ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر ، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد المجيد بن عبد العزيز ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه ، اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة ، حتى سمعها أهل المسجد ، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت " .
قال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله ، ويشهد لما قلنا قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .
قوله تعالى : { وما الله بغافل } . بساه .
قوله تعالى : { عما تعملون } . وعيد وتهديد ، وقيل : بتارك عقوبة ما تعملون ، بل يجازيكم به ، قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء .
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } أي : اشتدت وغلظت ، فلم تؤثر فيها الموعظة ، { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات ، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم ، لأن ما شاهدتم ، مما يوجب رقة القلب وانقياده ، ثم وصف قسوتها بأنها { كَالْحِجَارَةِ } التي هي أشد قسوة من الحديد ، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ، ذاب بخلاف الأحجار .
وقوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي : إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار ، وليست " أو " بمعنى " بل " ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ، فقال : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فبهذه الأمور فضلت قلوبكم . ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها ، وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه .
واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله ، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ، ونزلوا عليها الآيات القرآنية ، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله ، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "
والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ، ولا منزلة على كتاب الله ، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها ، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه ، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة ، التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها ، معاني لكتاب الله ، مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد ، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل ، والله الموفق .
وتعقيبا على هذا المشهد الأخير من القصة ، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى ؛ وتعقيبا كذلك على كل ما سلف من المشاهد و الأحداث والعبر والعظات ، تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب :
( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة . وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء . وإن منها لما يهبط من خشية الله . وما الله بغافل عما تعملون ) .
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها ، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى . . هي حجارة لهم بها سابق عهد . فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينا ، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا ! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى ، ولا تنبض بخشية ولا تقوى . . قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة . . ومن ثم هذا التهديد :
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل ، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى ، وإحيائه الموتى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } كله { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } التي لا تلين أبدًا . ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] .
وقال العوفي ، في تفسيره ، عن ابن عباس : لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني . ثم قبض . فقال بنو أخيه حين قبض : والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا{[2007]} . فقال{[2008]} الله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يعني : بني{[2009]} أخي الشيخ { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فصارت قلوب بني{[2010]} إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن لم يكن جاريا ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله ، وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الإسراء : 44 ] .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : كل حجر يتفجر منه الماء ، أو يتشقق عن ماء ، أو يتردى من رأس جبل ، لمن خشية الله ، نزل بذلك القرآن .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا تدعون إليه من الحق { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
[ وقال أبو علي الجبائي في تفسيره : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } هو سقوط البرد من السحاب .
قال القاضي الباقلاني : وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا ؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل ، والله أعلم ]{[2011]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ، حدثني يحيى بن أبي طالب - يعني يحيى بن يعقوب - في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ } قال : هو كثرة البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } قال : قليل البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } قال : بكاء القلب ، من غير دموع العين .
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله : { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة : ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } الآية ، وقال : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } و { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } الآية ، { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } الآية ، { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ } الآية ، وفي الصحيح : " هذا جبل يحبنا ونحبه " ، وكحنين الجذع المتواتر خبره ، وفي صحيح مسلم : " إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ، وغير ذلك مما في معناه . وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير ؛ أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين . . وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر : إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا ، وهو يعلم أيهما أكل ، وقال آخر : إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا ؛ أي لا يخرج عن واحد منهما ؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين . والله أعلم .
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم : " أو " هاهنا بمعنى الواو ، تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى : { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [ الإنسان : 24 ] ، وكما قال النابغة الذبياني :
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا *** إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ{[2012]}
تريد : ونصفه ، قاله ابن جرير . وقال جرير بن عطية :
نال الخِلافَةَ أو كانت له قدرًا *** كما أتى ربَّه مُوسى على قَدَرِ{[2013]}
قال ابن جرير : يعني نال الخلافة ، وكانت له قدرًا .
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو : أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب ، كقول القائل : أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل : أكلي حلو أو حامض ، أي : لا يخرج عن واحد منهما ، أي : وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم .
وقال آخرون : " أو " هاهنا بمعنى بل ، تقديره{[2014]} فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، وكقوله : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم : 9 ] وقال آخرون : معنى{[2015]} ذلك { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } عندكم . حكاه ابن جرير .
وقال آخرون : المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، كما قال أبو الأسود :
أحبّ محمدًا حُبا شديدًا *** وعبَّاسا وحمزةَ والوصيا{[2016]}
فإن يك حُبّهم رشدا أصبه *** ولست{[2017]} بمخطئ إن كان غيّا{[2018]}
قال ابن جرير : قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من سَمَّى رَشَدٌ ، ولكنه أبهم على من خاطبه ، قال : وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله . ثم انتزع بقول الله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فقال : أوَ كان شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال{[2019]} ؟
وقال بعضهم : معنى ذلك : فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة .
قال ابن جرير : ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة . وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره .
قلت : وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [ البقرة : 17 ] مع قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [ البقرة : 19 ] وكقوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [ النور : 39 ] مع قوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } [ النور : 40 ] ، الآية أي : إن منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم .
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " .
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه ، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، صاحب الإمام أحمد ، به . ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب ، به ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم{[2020]} .
[ وروى البزار عن أنس مرفوعا : " أربع من الشقاء : جمود العين ، وقسي القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا " {[2021]} ]{[2022]} .
{ ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }
يعني بذلك كفار بني إسرائيل ، وهم فيما ذكر بنو أخي المقتول ، فقال لهم : ثم قست قلوبكم : أي جفت وغلظت وعست ، كما قال الراجز :
*** وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَا لِدَاتي
يقال : قسا وعسا وعتا بمعنى واحد ، وذلك إذا جفا وغلظ وصلب ، يقال منه : قسا قلبه يقسو قَسْوا وقسوةً وقساوة وقَسَاءً .
ويعني بقوله : مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي ادّارءوا في قتله . فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الاَثار والأخبار وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحقّ منهم والمبطل . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها أنهم فيما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله ، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته بعد إخباره إياهم بذلك ، وبعد ميتته الثانية . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما ضرب المقتول ببعضها يعني ببعض البقرة جلس حيا ، فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني . ثم قُبض ، فقال بنو أخيه حين قُبض : والله ما قتلناه . فكذّبوا بالحق بعد إذ رأوه ، فقال الله : ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذِلكَ يعني بني أخي الشيخ ، فَهِيَ كالحجارَة أوْ أشَدّ قَسْوَةً .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يقول : من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ، وبعد ما أراهم من أمر القتيل ما أراهم ، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً .
يعني بقوله : فَهِيَ قلوبكم . يقول : ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتم الحقّ فتبينتموه وعرفتموه عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم ، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدّة ، أو أشد صلابة يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حقّ الله عليهم ، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة .
فإن سأل سائل فقال : وما وجه قوله : فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً و( أو ) عند أهل العربية إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك ، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك ؟ قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه ، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عباده الذين هم أصحابها الذين كذّبوا بالحقّ بعد ما رأوا العظيم من آيات الله ، كالحجارة قسوة أو أشدّ من الحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم ، وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالاً :
فقال بعضهم : إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله : فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب«أو » ، كقوله : وأرْسَلْنَاهُ إلى مائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ وكقول الله جل ذكره : وَإِنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فهو عالم أيّ ذلك كان . قالوا : ونظير ذلك قول القائل : أكلت بسرة أو رطبة ، وهو عالم أيّ ذلك أكل ولكنه أبهم على المخاطب ، كما قال أبو الأسود الدؤلي :
أُحِبّ مُحَمّدا حُبّا شَدِيد *** وَعَبّاسا وحَمْزَةَ وَالوَصِيّا
فَإنْ يَكُ حُبّهُمْ رَشَدا أُصِبْه*** وَلَسْتُ بِمُخْطِىءٍ إِنْ كَانَ غَيّا
قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكّا في أن حب من سَمّى رشد ، ولكنه أبهم على من خاطبه به . وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله . ثم انتزع بقول الله عزّ وجلّ وإنّا وإيّاكُمْ لَعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فقال : أو كان شاكّا من أخبر بهذا في الهادي من الضلال ؟
وقال بعضهم : ذلك كقول القائل : ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا ، وقد أطعمه النوعين جميعا . فقالوا : فقائل ذلك لم يكن شاكّا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما ، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين . قالوا : فكذلك قوله : فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً إنما معناه : فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين إما أن تكون مثلاً للحجارة في القسوة ، وإما أن تكون أشدّ منها قسوة . ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشدّ قسوة من الحجارة .
وقال بعضهم : «أو » في قوله : أوْ أشَدّ قَسْوَةً بمعنى : وأشدّ قسوة ، كما قال تبارك وتعالى : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثما أوْ كَفُورا بمعنى : وكفورا . وكما قال جرير بن عطية :
نالَ الخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَرا *** كَما أتى رَبّهُ مُوسَى عَلى قَدَرِ
يعني نال الخلافة وكانت له قدرا . وكما قال النابغة :
قالَتْ ألا لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنا*** إلى حَمامَتِنا أوْ نِصْفُهُ فَقَدِ
وقال آخرون : «أو » في هذا الموضع بمعنى «بل » ، فكان تأويله عندهم فهي كالحجارة بل أشدّ قسوة ، كما قال جل ثناؤه : وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ بمعنى : بل يزيدون .
وقال آخرون : معنى ذلك : فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة عندكم .
قال أبو جعفر : ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب ، غير أن أعجب الأقوال إليّ في ذلك ما قلناه أوّلاً ، ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى : فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشدّ ، على تأويل أن منها كالحجارة ، ومنها أشدّ قسوة لأن «أو » وإن استعملت في أماكن من أماكن الواو حتى يلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن ، فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين ، فتوجيهها إلى أصلها من وجد إلى ذلك سبيلاً أعجب إليّ من إخراجها عن أصلها ومعناها المعروف لها .
قال : وأما الرفع في قوله : أوْ أشَدّ قَسْوَةً فمن وجهين : أحدهما أن يكون عطفا على معنى الكاف التي في قوله : كالحِجارَةِ لأن معناها الرفع ، وذلك أن معناها معنى مثل : فهي مثل الحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة . والوجه الاَخر : أن يكون مرفوعا على معنى تكرير «هي » عليه فيكون تأويل ذلك : فهي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة من الحجارة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ .
يعني بقوله جل ذكره : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار ، فاستغنى بذكر الماء عن ذكر الأنهار ، وإنما ذكّر فقال «منه » للفظ «ما » . والتفجر : التفعل من فجر الماء ، وذلك إذا تنزّل خارجا من منبعه ، وكل سائل شخصَ خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك ، ومنه قوله عمر بن لجأ :
ولَمّا أنْ قُرِبْتُ إلى جَرِيرٍ*** أبَى ذُو بَطْنِهِ إلاّ انْفِجارَا
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ .
يعني بقوله جل ثناؤه وَإنّ مِنَ الحِجَارةِ لحجارة تشقق . وتشققها : تصدّعها . وإنما هي : لِمَا يتشقق ، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة . وقوله : فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ مِنْها لَمَا يَهبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ .
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن من الحجارة لما يهبط : أي يتردّى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته . وقد دللنا على معنى الهبوط فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأدخلت هذه اللامات اللواتي في «ما » توكيدا للخبر . وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به من أن منها المتفجر منه الأنهار ، وأن منها المتشقق بالماء ، وأن منها الهابط من خشية الله بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل مثلاً ، معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب برسله والجحود لاَياته بعد الذي أراهم من الاَيات والعبر وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول ومنّ به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر ، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار ومنه ما يتشقق بالماء ومنه ما يهبط من خشية الله ، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحقّ . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِنْ بَعْدِ ذلكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ قال : كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء ، أو يتردّى من رأس جبل ، فهو من خشية الله عزّ وجل ، نزل بذلك القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَهِيَ كَالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقيّ ابن آدم ، فقال : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ثم عذر الله الحجارة فقال : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج أنه قال فيها : كل حجر انفجر منه ماء أو تشقق عن ماء أو تردّى من جبل ، فمن خشية الله نزل به القرآن .
ثم اختلف أهل النحو في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله . فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله : تفيؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلّى له ربه . وقال بعضهم : ذلك كان منه ، ويكون بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم ، فعقل طاعة الله فأطاعه كالذي رُوي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فلما تحوّل عنه حنّ . وكالذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّ حَجَرا كانَ يُسَلّمُ عَليّ فِي الجاهِلِيّة إنّي لأَعْرِفُهُ الاَنَ » .
وقال آخرون : بل قوله : يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ كقوله : جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ ولا إرادة له ، قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله ، كما قال زيد الخيل :
بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَرَاتِه*** تَرَى اُلأكْمَ فِيها سُجّدا للْحَوَافِرِ
وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوّا له يريد أنه ذليل :
ساجِدَ المَنْخَرِ لا يَرْفَعُهُ *** خاشِعَ الطّرْفِ أصَمّ المُسْتَمَعْ
لَمَا أتى خَبَرُ الرّسُولِ تَضَعْضَعَتْ *** سُورُ المَدِينَةِ والجِبالُ الخُشّعُ
وقال آخرون : معنى قوله : يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه كما قيل : ناقة تاجرة : إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية :
وأعْوَرُ مِنْ نَبْهانَ أمّا نَهارُهُ *** فأعْمَى وأمّا لَيْلُهُ فَبَصِيرٌ
فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه ، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به .
وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل ، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها . وقد دللنا فيما مضى على معنى الخشية ، وأنها الرهبة والمخافة ، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .
يعني بقوله : وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ وما الله بغافل يا معشر المكذّبين بآياته والجاحدين نبوّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، والمتقوّلين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود ، عما تعملون من أعمالكم الخبيثة وأفعالكم الرديئة ولكنه يحصيها عليكم ، فيجازيكم بها في الاَخرة أو يعاقبكم بها في الدنيا . وأصل الغفلة عن الشيء : تركه على وجه السهو عنه والنسيان له ، فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة ولا ساه عنها ، بل هو لها محص ، ولها حافظ .
{ ثم قست قلوبكم } القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة ، كما في الحجر . وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار ، وثم الاستبعاد القسوة .
{ من بعد ذلك } يعني إحياء القتيل ، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب . { فهي كالحجارة } في قسوتها { أو أشد قسوة } منها ، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها ، أو أنها مثلها ، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفا على الحجارة ، وأنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة ، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و{ أو } للتخيير أو للترديد بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها .
{ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } تعليل للتفضيل ، والمعنى : أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء ، وتنفجر منه الأنهار ، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به . وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى . والتفجر التفتح بسعة وكثرة ، والخشية مجاز عن الانقياد ، وقرئ { إن } على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية ، ويهبط بالضم .
{ وما الله بغافل عما تعملون } وعيد على ذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده ، والباقون بالتاء .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 )
{ قست } أي صلبت وجفت ، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى ، وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ، لأنهم حين حيي قال : إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب بعدما رأوا هذه الآية العظمى ، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم ، قال عبيدة السلماني : ولم يرث قاتل من حينئذ( {[804]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبمثله جاء شرعنا( {[805]} ) ، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سبباً لأن لا يرث قاتل : ثم ثبت ذلك الإسلام ، كما ثبت كثيراً من نوازل الجاهلية( {[806]} ) ، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما : إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك .
وقوله تعالى : { فهي كالحجارة } الآية ، الكاف في موضع رفع خبر ل «هي » ، تقديره : فهي مثل الحجارة { أو أشد } مرتفع بالعطف على الكاف ، { أو } على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي ، و { قسوة } نصب على التمييز ، والعرف في { أو } أنها للشك ، وذلك لا يصح في هذه الآية( {[807]} ) ، واختلف في معنى { أو } هنا ، فقالت طائفة ، هي بمعنى الواو ، كما قال تعالى : { آثماً أو كفوراً }( {[808]} ) [ الإنسان : 24 ] أي وكفوراً ، وكما قال الشاعر [ جرير ] : [ البسيط ]
نال الخلافة أو كانَتْ له قدراً . . . كما أتى ربَّهُ موسى على قَدَر( {[809]} )
أي وكانت له . وقالت طائفة هي بمعنى بل ، كقوله تعالى : { إلى مائة ألف أو يزيدون }( {[810]} ) [ الصافات : 147 ] المعنى بل يزيدون ، وقالت طائفة : معناها التخيير ، أي : شبهوها بالحجارة تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا( {[811]} ) ، وقالت فرقة : هي على بابها في الشك . ومعناه : عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم ، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة . وقالت فرقة : هي على جهة الإبهام( {[812]} ) على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود( {[813]} ) الدؤلي :
أحب محمّداً حباً شديداً . . . وعباساً وحمزة أو عليّا
ولم يشك أبو الأسود ، وإنما قصد الإبهام على السامع ، وقد عورض أبو الأسود في هذا ، فاحتجّ بقول الله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين }( {[814]} ) [ سبأ : 24 ] ، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود ، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو » ، وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر( {[815]} ) ، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد ، ومثل هذا قولك : أطعمتك الحلو أو الحامض ، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين ، وقالت فرقة : إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة ، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة ، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته ، فصارت أشد من الحجارة ، فلم تخل أن كانت كالحجارة طوراً أو أشد طوراً ، وقرأ أبو حيوة : «قساوة » ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : { وإن من الحجارة } الآية ، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة ، وقال قتادة : عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم ، وقرأ قتادة : «وإنْ » مخففة من الثقيلة ، وكذلك في الثانية والثالثة ، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد ، في { لما } ، وما في موضع نصب اسم ل { إن } ، ودخلت اللام على اسم { إن } لمّا حال بينهما المجرور ، ولو اتصل الاسم ب { إن } لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين ، وقرأ مالك بن دينار( {[816]} ) : «ينفجِر » بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم ، ووحد الضمير في { منه } حملاً على لفظ «ما » ، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار » حملاً على الحجارة ، و { الأنهار } جمع نهر( {[817]} ) وهو ما كثر ماؤه جرياً من الأخاديد ، وقرأ طلحة بن مصرف : «لمّا » بتشديد الميم في الموضعين ، وهي قراءة غير متجهة ، { ويشقق } أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين ، وهذه( {[818]} ) عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهاراً ، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح ، ( {[819]} ) وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون ، وقيل في هبوط الحجارة( {[820]} ) تفيؤ ظلالها ، وقيل المراد : الجبل( {[821]} ) الذي جعله الله دكاً ، وقيل : إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعاً ، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحياة الجذع الذي أَنَّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل لفظة الهبوط مجاز( {[822]} ) ، وذلك أن الحجارة -لما كانت القلوب تعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة أي : تبعث من يراها على شرائها( {[823]} ) ، وقال مجاهد ، ما تدرى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا { من خشية الله } ، نزل بذلك القرآن ، وقال مثله ابن جريج ، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة( {[824]} ) كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى { يريد أن ينقض }( {[825]} ) [ الكهف : 77 ] ، وكما قال زيد الخيل : [ الطويل ]
بِجمعٍ تضِل البُلْقُ في حَجَراتِهِ . . . ترى الأكمَ فيه سجداً للحوافرِ( {[826]} )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والجبال الخشع( {[827]} )
أي من رأى الحجر( {[828]} ) هابطاً تخيل فيه الخشية .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا قول ضعيف : لأن براعة معنى الآية تختل به ، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة( {[829]} ) ، و { بغافل } في موضع نصب خبر { ما } ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية ، وقرأ ابن كثير «يعملون » بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم .