معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

قوله تعالى : { يكاد البرق } . أي يقرب ، يقال : كاد يفعل إذا قرب ولم يفعل .

قوله تعالى : { يخطف أبصارهم } . يختلسها ، والخطف استلاب بسرعة .

قوله تعالى : { كلما } . كل حرف جملة ضم إلى ما الجزاء فصار أداة للتكرار ومعناهما متى ما .

قوله تعالى : { أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } . أي وقفوا متحيرين ، فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة وسواد في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها أن الساري لا يمكنه المشي فيها ، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هوله ، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدة توقده ، فهذا مثل ضربه الله للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه ، فالمطر القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان ، والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك ، والرعد ما خوفوا به من الوعيد ، وذكر النار ، والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة . فالكافرون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه لأن الإيمان عندهم كفر والكفر موت ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) أي القرآن يبهر قلوبهم . وقيل هذا مثل ضربه الله للإسلام ، فالمطر الإسلام ، والظلمات ما فيه من البلاء والمحن ، والرعد : ما فيه من الوعيد والمخاوف في الآخرة ، والبرق ما فيه من الوعد ( يجعلون أصابعهم في آذانهم ) يعني أن المنافقين إذا رأوا في الإسلام بلاء وشدة هربوا حذراً من الهلاك ، ( والله محيط بالكافرين ) جامعهم ، يعني لا ينفعهم هربهم لأن الله تعالى من ورائهم يجمعهم فيعذبهم ، ( يكاد البرق ) يعنى دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة ، ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) يعني أن المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان آمنوا فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة . وقيل معناه كلما نالوا غنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم ، ( وإذا أظلم عليهم ) يعني : رأوا شدة وبلاء تأخروا وقاموا أي وقفوا كما قال الله تعالى ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) .

قوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم } . أي بأسماعهم .

قوله تعالى : { وأبصارهم } . الظاهرة : كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة ، وقيل لذهب بما استفادوا من العز والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر .

قوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } . قادر . ثم قرأ ابن عامر وحمزة شاء وجاء حيث كان بالإمالة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } البرق في تلك الظلمات { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي : وقفوا .

فهكذا حال{[60]}  المنافقين ، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، جعلوا أصابعهم في آذانهم ، وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده ، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم ، ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد ، ويجعل{[61]}  أصابعه في أذنيه{[62]}  خشية الموت ، فهذا تمكن له{[63]} السلامة . وأما المنافقون فأنى لهم السلامة ، وهو تعالى محيط بهم ، قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه ، بل يحفظ عليهم أعمالهم ، ويجازيهم عليها أتم الجزاء .

ولما كانوا مبتلين بالصمم ، والبكم ، والعمى المعنوي ، ومسدودة عليهم طرق الإيمان ، قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي : الحسية ، ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية ، ليحذروا ، فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء ، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض .

وفي هذه الآية وما أشبهها ، رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى ، لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


[60]:- في ب: حالة.
[61]:- في ب: فيجعل.
[62]:- كذا في ب، وفي أ: أذنه.
[63]:- في ب: ربما حصلت له.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

1

ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة :

( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير ) . .

إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) . . ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) . . ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .

إن الحركة التي تغمر المشهد كله : من الصيب الهاطل ، إلى الظلمات والرعد والبرق ، إلى الحائرين المفزعين فيه ، إلى الخطوات المروعة الوجلة ، التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

ثم قال : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي : لشدته وقوته في نفسه ، وضعف بصائرهم ، وعدم ثباتها للإيمان .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } يقول : يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين .

وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي لشدة ضوء الحق ، { كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا{[1325]} به واتبعوه ، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } يقول : كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه ، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر ، كقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ]{[1326]} } الآية [ الحج : 11 ] .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي : يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه{[1327]} إلى الكفر { قَامُوا } أي : متحيرين .

وهكذا قال أبو العالية ، والحسن البصري ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي بسنده ، عن الصحابة وهو أصح وأظهر . والله أعلم .

وهكذا يكونون{[1328]} يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم ، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى ، فيمشي{[1329]} على الصراط تارة ويقف أخرى . ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين ، الذين قال تعالى{[1330]} فيهم : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } [ الحديد : 13 ] وقال في حق المؤمنين : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } الآية [ الحديد : 12 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التحريم : 8 ] .

ذكر الحديث الوارد في ذلك :

قال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الآية [ الحديد : 12 ] ، ذكر لنا أن النبي{[1331]} صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ، أو بين{[1332]} صنعاء ودون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه " . رواه ابن جرير .

ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر{[1333]} القطان ، عن قتادة ، بنحوه .

وهذا كما قال المِنْهَال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يرى{[1334]} نوره كالنخلة ، ومنهم من يرى{[1335]} نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد{[1336]} مرة .

وهكذا رواه ابن جرير ، عن ابن مُثَنَّى ، عن ابن إدريس ، عن أبيه ، عن المنهال .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي{[1337]} حدثنا ابن إدريس ، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود : { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [ التحريم : 8 ] قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى .

وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني ، حدثنا عُتْبَةُ{[1338]} بن اليقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ، فهم يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا .

وقال الضحاك بن مزاحم : يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورًا ؛ فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا ، فقالوا : " ربنا أتمم لنا نورنا " .

/خ20


[1325]:في أ: "استضاءوا".
[1326]:زيادة من جـ.
[1327]:في أ: "فيه".
[1328]:في جـ: "يكذبون"، وفي أ: "يكون".
[1329]:في أ، و: "ومنهم من يمشي".
[1330]:في جـ، ط، ب، أ، و: "الله".
[1331]:في جـ، ط، ب، أ، و: "أن نبي الله".
[1332]:في جـ، ط، ب، "أبين و".
[1333]:في أ: "داود".
[1334]:في و: "يؤتى".
[1335]:في أ، و: "يؤتى".
[1336]:في جـ: "ويتقد".
[1337]:في جـ: "الطيالسي".
[1338]:في جـ: "عتيبة".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

قال أبو جعفر : وإنما خص جل ذكره السمع والأبصار بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها في الاَيتين ، أعني قوله : يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ وقوله : يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فجرى ذكرها في الاَيتين على وجه المثل . ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم ، وعيدا من الله لهم ، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافرِينَ واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم ، لإحلال سخطه بهم ، وإنزال نقمته عليهم ، ومحذرهم بذلك سطوته ، ومخوّفهم به عقوبته ، ليتقوا بأسه ، ويسارعوا إليه بالتوبة . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهمْ وأبْصَارِهِمْ لما تركوا من الحق بعد معرفته .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ثم قال يعني قال الله في أسماعهم يعني أسماع المنافقين وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ .

قال أبو جعفر : وإنما معنى قوله : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ لأذهب سمعهم وأبصارهم ، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا : ذهبت ببصره ، وإذا حذفوا الباء قالوا : أذهبت بصره ، كما قال جل ثناؤه : آتنا غَدَاءَنَا ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل : ائتنا بغدائنا .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ فوحد ، وقال : وأبْصَارِهِمْ فجمع ؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة ، كما الخبر في الأبصار خبر عن أبصار جماعة ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفي : وحد لسمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخرق ، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين . وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن السمع وإن كان في لفظ واحد فإنه بمعنى جماعة ، ويحتجّ في ذلك بقول الله : لا يَرْتَدّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يريد لا ترتد إليهم أطرافهم ، وبقوله : وَيُوَلونَ الدّبُرَ يراد به أدبارهم . وإنما جاز ذلك عندي لأن في الكلام ما يدلّ على أنه مراد به الجمع ، فكان فيه دلالة على المراد منه ، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة مغنيا عن جِماعِهِ ، ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع ، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار من الجمع والتوحيد ، كان فصيحا صحيحا لما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر :

كُلُوا في بَعْضِ بَطْنكُمْو تَعِفّوا *** فإنّ زَمانَنا زَمَنٌ خَمِيصُ

فوحد البطن ، والمراد منه البطون لما وصفنا من العلة .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِير .

قال أبو جعفر : وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير ، ثم قال : فاتقوني أيها المنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي لا أحل بكم نقمتي فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير . ومعنى قدير : قادر ، كما معنى عليم : عالم ، على ما وصفت فيما تقدم من نظائره من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .