التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

[ 3 ]- قاموا : بمعنى أقاموا أي توقفوا عن السير .

{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ { 16 } مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [ 1 ] نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ { 17 } صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ { 18 } أَوْ كَصَيِّبٍ [ 2 ] مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ { 19 } يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [ 3 ] وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { 20 } }

الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم :

1- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا .

2- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد ناراً في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا .

3- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ ، فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به ، فلا أمل في رجوعهم إليه .

4- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتنفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه ، فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار ، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائراً ذاهلاً .

5- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه .

والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها . وقد تضمنت تقرير كون الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا .

ولقد أول جمهور المفسرين جملة { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا . ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقاً مع روح الآيات . فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه . وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه . وجملة { اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى } مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسؤولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم .

ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين . ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات ، وليس على سبيل التأبيد إلا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم .

ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر . وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [ 12-13 ] والروم [ 24 ] التي وردت فيها هذه الكلمات . والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم . والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها وقت نزول القرآن . والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف . والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها .

وللسيد رشيد رضا {[188]} تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال : إن ذلك ليس من مباحث القرآن . وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين ؛ وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة .


[188]:انظر تفسيرها في الجزء الأول من تفسير المنار