الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

{ يَكَادُ الْبَرْقُ } أي يقرب . يقال : كاد ، أي قرب ولم يفعل ، والعرب تقول : كاد يفعل بحذف أن فاذا سببّوه بقي قالوا : كاد أن يفعل ، والأوّل أوضح وأظهر . قال الشاعر :

قد كاد من طول البلى أن تمسحا { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } : أي يخطفها ويشغلها ، ومنه الخطّاف .

وقرأ أُبيّ : يتخطف .

وقرأ ابن أبي إسحاق : نصب الخاء والتشديد ( يخطّف ) فأدغم . وقرأ الحسن : كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة .

وقرأ العامة : التخفيف لقوله : { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } [ الحج : 31 ] وقوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } [ الصافات : 10 ] . { كُلَّمَا } : حرف علة ضمّ إليه ( ما ) الجزاء فصار أداة للتكرار ، وهي منصوبة بالظرف ، ومعناهما : متى ما . { أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } : وفي حرف عبد الله [ . . . . . ] . { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } : أي أقاموا ووقفوا متحيّرين .

القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما

قوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ } أي كأصحاب صيّب ، كقوله : { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وترددّهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطرفيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته ، فذلك قوله : { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } .

ورعد من صفته أن يضع السامع يده الى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق ، ذلك قوله تعالى : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ } .

وبرق من صفته أنْ يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقدّه ، وذلك قوله { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } .

وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه :

فالمطر : هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان . { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن . { وَرَعْدٌ } : وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر والنواهي . { وَبَرْقٌ } : وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد وذكر الجنة .

فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب الى القرآن فيؤدّي ذلك الى الإيمان ؛ لأنّ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عندهم كفر والكفر موت .

وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه ، لا يسمع صوتاً إلاّ ظنّ أنه قد أُتي ولا يسمع صياحاً إلاّ ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق كما قال في آية أخرى : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ } [ المنافقون : 4 ] .

وقوله : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمِنوا وصارت لهم نوراً فاذا ماتوا عادوا الى الخشية والظلمة .

قتادة : والمنافق إذا كثر ماله وحَسُن حاله وأصاب في الإسلام رخاءً وعافية ثبت عليه فقال : أنا معكم ، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة ، قام متحيراً وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها . وتفسيره في سورة الحجّ { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] الآية .

الوالبي عن ابن عباس : هم اليهود لما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا : هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية ، فلمّا نكب بأُحد ارتدّوا وسكتوا . { وَلَوْ } : حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام .

ومعنى الآية : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } : أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّاً بكماً عمياً . { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قادر ، وكان حمزة يكسر شاء ، وجاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل ، إذا أخبرت عن نفسك قلت : شئت وجئت وزدّت وطبت وغيرها .