ثم استأنف{[803]} الحديث عن بقية حالهم فقال : { يكاد البرق } أي من قوة لمعه وشعاعه وشدة حركته وإسراعه { يخطف أبصارهم } فهم يغضونها عند لمعه وخفضه في ترائبه ورفعه ، ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة كان كأنه قيل : ما{[804]}ذا يصنعون عند ذلك ؟ فقال{[805]} : { كلما }{[806]} وعبر بها دون إذا{[807]} دلالة على شدة حرصهم على إيجاد المشي{[808]} عند الإضاءة { أضاء لهم مشوا فيه } مبادرين إلى ذلك حراصاً عليه لا يفترون عنه في وقت من أوقات{[809]} الإضاءة مع أنهم يغضون أبصارهم ولا يمدونها غاية المد خوفاً عليهم ووقوفاً مع الأسباب ووثوقاً بها واعتماداً عليها وغفلة عن رب الأرباب ، وهو مثل لما وجدوا من القرآن موافقاً لآرائهم ، وعطف بإذا لتحقق خفوته بعد خفوقه قوله : { وإذا أظلم عليهم قاموا } أي أول حين الإظلام لا يقدرون على التقدم خطوة واحده إشارة إلى أنه ليست لهم{[810]} بصائريسيرون بها فيما كشف البرق لأبصارهم من الأرض قبل الإظلام بل{[811]} حال انقطاع اللمعان يقفون لعمى بصائرهم ووحشتهم وجبنهم وغربتهم وشدة جزعهم وحيرتهم ، وهكذا حال هؤلاء لا يقيسون ما أشكل عليهم من القرآن على ما فهموه .
( ولو شاء الله } الذي له العظمة الباهرة مع شدة حرصهم وتناهي جزعهم ، ودل على مفعول شاء بقوله : { لذهب بسمعهم } أي بقاصف الرعد ولم يغنهم سدّ آذانهم { وأبصارهم } بخاطف البرق ولم يمنعه غضَّهم لها ، ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { على كل شيء } أي مشيء أي يصح أن تقع عليه المشيئة هذا المراد وإن كان الشيء كما قال سيبويه يقع على كل ما أخبر عنه ، وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص ، يجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال ، وقول الأشاعرة : إن المعدوم ليس بشيء{[812]} ، بمعنى أنه ليس بثابت في الأعيان{[813]} متميز فيها{[814]} { قدير } إعلاماً بأن قدرته لا تتقيد بالأسباب ، {[815]}قال الحرالي : القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر انتهى{[816]} .
ولعله سبحانه قدم المثل الأول لأنه كالجزء من الثاني ، أو لأنه مثل المنافقين ، جعلت مدة{[817]} صباهم بنموهم وازدياد عقولهم استيقاداً{[818]} مع جعل الله إياهم على الفطرة القويمة وزمان بلوغهم بتمام العقل الغريزي إضاءة ؛ والثاني مثل المنافقين وهو أبلغ . لأن الضلال فيه أشنع وأفظع . فالصيب القرآن الذي انقادوا له ظاهراً ، والظلمات متشابهه{[819]} ، والصواعق وعيده ، والبرق وعده ، كلما أنذروا بوعيد انقطعت قلوبهم خوفاً
{ يحسبون كل صيحة عليهم{[820]} }[ المنافقون : 4 ] وكلما بشروا انقادوا رجاء ، وإذا عرض المتشابه وقفوا تحيراً وجفاء وكل ذلك وقوفاً مع الدنيا وانقطاعاً إليها ، لا نفوذ{[821]} لهم إلى ما وراءها أصلاً ، بل هم كالأنعام ، لا نظر لهم إلى ما{[822]} سوى الجزيئات والأمور المشاهدات ،
{ فإن كان{[823]} لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم{[824]} }[ النساء : 141 ]
{ يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً{[825]} }[ النساء : 73 ] والكلام{[826]} الجامع النافع في ذلك أن يقال إنه سبحانه شبّه في الأول مثلهم بمثل المستوقَد لا بالمستوقِد ، و{[827]}في الثاني شبه مثلهم في خوفهم اللازم ورجائهم المنقطع{[828]} بأصحاب الصيب لا بمثلهم{[829]} ؛ فتقدير الأول مثلهم في أنهم سمعوا أولاً الدعاء ورأوا الآيات فأجابوا الداعي إما بالفعل كالمنافقين وإما بالقوة في أيام الصبا{[830]} لما عندهم من سلامة الفطر وصحة النظر ، ثم تلذذوا فرجعوا بقلوبهم من نور ما قالوه بألسنتهم من كلمة التقوى نطقاً أو تقديراً إلى ظلمات الكفر ، فلم ينفعهم سمع ولا بصر ولا عقل{[831]} ، فصاروا مثل البهائم التي لا تطيع الراعي إلا بالزجر البليغ ، مثلهم في هذا يشبه مثل المستوقد في أنه لما أضاءت ناره رأى ما حوله ، فلما ذهبت لم يقدر على تقدم ولا تأخر ، لأنه لا ينفع في ذلك سمع ولا كلام فإذن{[832]} استوى وجودهما وعدمهما ، فصار عادماً للثلاثة ، فكان من هذه الجهة{[833]} مساوياً للأصم الأبكم الأعمى ، فهو مثله لكونه لا يقدر على مراده إلا أن قاده قائد حسي ، فهو حينئذ{[834]} مثل البهائم التي لا تقاد{[835]} للمراد إلا بقائد ، فاستوى المثلان وسيتضح ذلك عند قوله تعالى :
كمثل الذي ينعق{[836]} }[ البقرة : 171 ] ولذلك كانت النتيجة في كل منها صم{[837]} إلى آخره و " أو " بمعنى الواو ، ولعله عبر بها دونها لأنه{[838]} وإن كان كل من{[839]} المثلين صالحاً لكل من القسمين فإن احتمال التفصيل غير بعيد ، لأن{[840]} الأول أظهر في الأول{[841]} والثاني في الثاني . {[842]}
وجعل الحرالي المثلين للمنافقين فقال : ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان وللقرآن عليهم تنزلان ، منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم ، فضرب لهم المثل الأول ، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنوا{[843]} لما رأوا من{[844]} معاجلة عقاب الذين كفروا في الدنيا ؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم لا يحملها إلا مؤمن حقاً ولا يتحملها إلا من أمن ، ولما يلزم منه من{[845]} فضيحة خداعهم فضرب له المثل الثاني ؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين انتهى . وضرب الأمثال المنهي إلى الحمد{[846]} المنتهي إلى الإحاطة بكل حد لا سيما في أصول الدين الكاشف لحقيقة التوحيد الموصل إلى اليقين في الإيمان بالغيب المحقق لما لله تعالى{[847]} من صفات الكمال الدافع للشكول الحافظ في طريق السلوك مما{[848]} اختص به القرآن من حيث كان منهياً إلى الحمد ومفصحاً{[849]} به فكان حرف{[850]} الحمد ، وذلك أنه حرف عام{[851]} محيط شامل لجميع الأمور كافل بكل الشرائع في سائر الأزمان ؛ فكان أحق الرسل به من كانت رسالته عامة لجميع الخلق وكتابه شاملاً لجميع الأمر وهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه " عروة المفتاح " : هذا الحرف لإحاطته أنزل وتراً وسائر الحروف أشفاع لاختصاصها ، ووجه إنزاله تفهيم ما غمض{[852]} من المغيبات بضرب مثل من المشهودات ، ولما كان للأمر تنزلات وللخلق تطورات كان الأظهر منها مثلاً لما هو دونه في الظهور ، وكلما ظهر ممثول صار مثلاً{[853]} لما هو أخفى منه ، فكان لذلك أمثالاً عدداً منها مثل ليس بممثول لظهوره وممثولات تصير أمثالاً لما هو أخفى منها إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم ، فتكون تلك الغاية مثلاً أعلى كالسماوات والأرض فيما يحس والعرش والكرسي{[854]} فيما يعلم
{ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض{[855]} }[ الروم : 27 ]
{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم{[856]} }[ غافر : 7 ] وذلك المثل الأعلى لإحاطته اسمه الحمد
{ وله الحمد في السماوات والأرض{[857]} }[ الروم : 18 ] وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله تعالى بحيث لا يكون بينه وبين الله تعالى واسطة ، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد ، فكان أكمل الأمور سورة الحمد وكان أكمل الخلق صورة محمد صلى الله عليه وسلم ، كان خُلقه القرآن
و{ لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم{[858]} }[ الحجر : 87 ] ودون المثل الأعلى الجامع الأمثال العلية المفصلة منه
{ ضرب لكم مثلاً من أنفسكم{[859]} }[ الروم : 28 ] ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء يصح أن يضربه مثلاً
{ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها{[860]} }[ البقرة : 26 ]
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً{[861]} }[ العنكبوت : 41 ] وللمثل حكم من ممثوله ، إن كان حسناً حسنَ مثله ، وإن كان سيئاً ساء مثله ؛ ولما كان أعلى الأمثال الحمد كان أول الفاتحة الحمد ، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق كان أول مثل في الترتيب مثل النفاق ، وهو أدنى مثل لما خفي من أمر الخلق ، كما أن الحمد أعلى مثل لما غاب من أمر الحق ، وبين الحدين أمثال حسنة وسيئة
{ مثل الجنة التي وعد المتقون{[862]} }[ الرعد : 35 ] الآيتين ،
{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها{[863]} }[ الجمعة : 5 ]
{ فمثله كمثل الكلب{[864]} }[ الأعراف : 176 ] الآيتين . وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان وللعالم العلم وللفاهم الفهم ، وبضد ذلك لمن اتصف بأضداد تلك الأوصاف ، { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها هو حظ العقل واللب وحرفه من القرآن ، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرّك{[865]} الإنسان وأعمال القلوب والأنفس والأبدان ، فمن يسر{[866]} له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى ، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علماً وعملاً فقد أتم ووفّى ، وبذلك يكون القارىء من القراء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم أعز من الكبريت الأحمر "
{ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم{[867]} }[ آل عمران : 74 ] .
ثم قال فيما به يحصل{[868]} قراءة هذا الحرف : اعلم أن قراءة الأحرف الستة تماماً وفاء بتفصيل العبادة ، لأنها أشفاع ثلاثة للتخلص والتخلي وثلاثة للعمل والتحلي ، لأن ترك الحرام طهرة البدن وترك النهي طهرة النفس وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب ، ولأن تناول الحلال زكاء البدن وطاعة الأمر زكاء النفس وتحقق العبودية بمقتضى حرف المحكم نور القلب ؛ وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً { وله الدين واصباً{[869]} }[ النحل : 52 ] و { الذين هم على صلاتهم دائمون{[870]} }[ المعارج :23 ] فالذي يحصل قراءة هذا الحرف إنما هو خاص بالقلب ، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف الستة التفصيلية ، والذي يخص القلب بقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامة المحيطة بأن كل الخلق دقيقة وجليلة خلق الله وحده لا شريك له في شيء منه ، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله القائم بكلية ذلك الخلق ، وإن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق هو مثل لله تعلى :
{ وله المثل الأعلى }[ الروم : 27 ] وأن تفاصيل{[871]} ذلك الخلق المحيطات أمثل لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها ، وأن تفاصيل الأمر المحيطات أمثال لأسماء الله تعالى الحسنى بما هي محيطة ؛ و{[872]}لجمع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي الذي هو صفوة الله وفطرته ، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيين وهو خاصته وخاصة آله ، وعنه كمل الدين بالإحسان ، وصفا العلم بالإيقان ، وشوهد في الوقت الحاضر ، ما بين حدي الأزل الماضي والأبد الغابر ، وعن تمام اليقين والإحسان تحقق الفناء لكل فانٍِ وبقي وجه رب محمد ذي الجلال والإكرام ، وكان هذا الحرف بما اسمه الحمد هو{[873]} لكل شيء بداء{[874]} وختام انتهى . {[875]}