أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

{ يكاد البرق يخطف أبصارهم } استئناف ثان كأنه جواب لمن يقول : ما حالهم مع تلك الصواعق ؟ وكاد من أفعال المقاربة ، وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد ، إما لفقد شرط ، أو لوجود مانع وعسى موضوعة لرجائه ، فهي خبر محض ولذلك جاءت متصرفة بخلاف عسى ، وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا تنبيها على أنه المقصود بالقرب من غير أن ، لتوكيد القرب بالدلالة على الحال ، وقد تدخل عليه حملا لها على عسى ، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة . والخطف الأخذ بسرعة وقرئ ( يخطف ) بكسر الطاء ويخطف على أنه يختطف ، فنقلت فتحة التاء إلى الخاء ثم أدغمت في الطاء ، ويخطف بكسر الخاء لالتقاء الساكنين وإتباع الياء لها ويخطف ويتخطف . { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } استئناف ثالث كأنه قيل : ما يفعلون في تارتي خفوق البرق ، وخفيته ؟ فأجيب بذلك . وأضاء إما متعد والمفعول محذوف بمعنى كلما نور لهم ممشى أخذوه ، أو لازم بمعنى ، كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره ، وكذلك أظلم فإنه جاء متعديا منقولا من ظلم الليل ، ويشهد له قراءة أظلم على البناء للمفعول ، وقول أبي تمام :

هما أظلما حالي ثمة أجليا *** ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

فإنه وإن كان من المحدثين لكنه من علماء العربية ، فلا يبعد أن يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه . وإنما قال مع الإضاءة { كلما } ومع الإظلام { إذا } لأنهم حراص على المشي ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف . ومعنى ( قاموا ) وقفوا ، ومنه قامت السوق إذا ركدت ، وقام الماء إذا جمد . { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب بهما فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه ، ولقد تكاثر حذفه في شاء وأراد حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب كقوله :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته *** . . .

( ولو ) من حروف الشرط ، وظاهرها الدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني ، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء ، لازمه ، وقرئ : لأذهب بأسماعهم ، بزيادة الباء كقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } .

وفائدة هذه الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه ، والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى ، وأن وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته وقوله .

{ إن الله على كل شيء قدير } كالتصريح به والتقرير له . والشيء يختص بالموجود ، لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة ، وحينئذ يتناول البارئ تعالى كما قال : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد } وبمعنى مشيء أخرى ، أي مشيء وجوده وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة وعليه قوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } . { الله خالق كل شيء } فهما على عمومهما بلا مثنوية . والمعتزلة لما قالوا الشيء ما يصح أن يوجد وهو يعم الواجب والممكن ، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضا ، لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل . والقدرة : هو التمكن من إيجاد الشيء . وقيل صفة تقتضي التمكن ، وقيل قدرة الإنسان ، هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى : عبارة عن نفي العجز عنه ، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، والقدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى ، واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل على مقدار قوته ، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته . وفيه دليل على أن الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، لأنه شيء وكل شيء مقدور لله تعالى . والظاهر أن التمثيلين من جملة التمثيلات المؤلفة ، وهو أن يشبه كيفية منتزعة من مجموع تضامت أجزاؤه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى مثلها ، كقوله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } الآية ، فإنه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة ، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة . والغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة والشدة ، بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة ، أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق . ويمكن جعلهما من قبيل التمثيل المفرد ، وهو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بأمثالها كقوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور } وقول امرئ القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا *** لدى وكرها العناب والحشف البالي

بأن يشبه في الأول : ذوات المنافقين بالمستوقدين ، وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين ، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وبإفشاء حالهم وإبقائهم في الخسار الدائم ، والعذاب السرمد بإطفاء نارهم والذهاب بنورها . وفي الثاني : أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط بالكفر والخداع بصيب فيه ظلمات ورعد وبرق ، من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرا ونفاقهم حذرا عن نكايات المؤمنين ، وما يطرقون به من سواهم من الكفرة بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت ، من حيث إنه لا يرد من قدر الله تعالى شيئا ، ولا يخلص مما يريد بهم من المضار وتحيرهم لشدة الأمر وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم فخطوا خطا يسيرة ، ثم إذا خفي وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حراك بهم . وقيل : شبه الإيمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي به حياة الأرض . وما ارتكبت بها من الشبه المبطلة ، واعترضت دونها من الاعتراضات المشككة بالظلمات . وشبه ما فيها من الوعد والوعيد بالرعد ، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق ، وتصامهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنيه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهو معنى قوله تعالى : { والله محيط بالكافرين } واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه ، أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم ، وتحيرهم وتوقفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة ، أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم .

ونبه سبحانه بقوله { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } على أنه تعالى جعل لهم السمع والأبصار ليتوسلوا بها إلى الهدى والفلاح ، ثم إنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة ، وسدوها عن الفوائد الآجلة ، ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها لأنفسهم ، فإنه على ما يشاء قدير .