تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

الآية 20 {[288]} وقوله تعالى : ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) أي ما في الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه ، ( وإذا أظلم عليهم ) بالشدائد قاموا ، وصدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو شاء الله لذهب ) بما ذكر ؛ أي أصمهم وأعماهم .

وروي عن [ الضحاك عن ]{[289]} ابن عباس رضي الله عنه{[290]} ( أن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين ، فشبه به إيمان المنافق ؛ أنه عن سريع يزول ) .

وقال القتبي : كان المنافق في ظلمة الكفر ، فاهتدى بما أعطي من النور كمستوقد النار{[291]} بنوره في ظلمة الليل ، وكذلك السالك في ظلمة الليل ، فلما ذهب نوره ، أو سكن لمعان البرق ، رجع إلى ما فيه من الظلمة .

والأصل في هذا الباب : أن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أهلها ، وجعل له دارا يجزيهم فيها مما لولا هي لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثا ؛ إذ يكون خلق الخلق{[292]} للفناء بلا عواقب لهم . وذلك عبث في العقول ؛ لأن كل شارع في ما لا عاقبة له عابث ، وفي ما لا يريد [ معنى يكون ]{[293]} في العقل هازل . ولذلك قال : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) [ المؤمنون : 115 ] . فإذا كان كذلك صارت هذه الدار [ دليل الأخرى ]{[294]} فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلا بالمعروف من هذه ؛ إذ بهذه عوقب تلك ، ولهذا خلق الله الممتحنين بحيث يألمون ، ويتلذذون ليعرفوا قدر الآلام التي بها أوعدوا واللذات التي فيها رغبوا .

فعلى ذلك ضرب الله مثل من عمي عن الآخرة وصم عن سماع ما يرغب فيها ، أو عمي عن أمر الله ونهيه ، أو أُلحق بالأعمى والأصم والميت ونحو ذلك ، لذهاب منافع البصر والسمع والحياة ، إذ هي مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأمل والتدبر . فإذا أغفل عن ذلك سمي بالذي ذكرنا ، وبينا : أنه لولا الآخرة ودار الجزاء لم يكن للخلق شيء من ذلك حكمة نعقلها نحن . فعلى ذلك ضرب [ الله المثل ]{[295]} لذهاب نور القلب الذي به تبصر العواقب ، وينتفع بها ، بذهاب نور البصر في زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره . وكذلك أمر السمع وغيره . فكان على ذلك أمكن إخراج المثلين جميعا على الكفرة والمنافقين .

أما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه ، وهو نور البصر ، لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذي بصر ، وكذلك سائر منافع النار ، فمثله : إذا ذهب عنه نور بصر القلب وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائها . وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا ؛ إذ يبصر الطريق ، كمن يذهب عنه بصر القلب ؛ إذ به يبصر عواقب الأشياء . بل الذي قصد السلوك بالبروق{[296]} والاستضاءة بنور النار ؛ إذا{[297]} ذهب كان أعظم حسرة وأشد خوفا من النار وشدة المطر وخبث الطريق [ من الذي ]{[298]} لم يعرف في الابتداء نفع النار أو البرق ، ويكره{[299]} المطر على شدة رغبته فيه والنار بما ذهب منه . وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر ؛ إذ به يرد إلى درك الأسفل ، ولا قوة إلا بالله .

وكذلك الكافر لم يبصر بما أعطاه من البصر عواقب البصر الظاهر ، ولا يسمع بما أنعم عليه من السمع عواقب السمع ؛ إذ حق ذلك أن يؤدي ذلك ما أدركه إلى العقل ليعتبر به أنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستخفاف ، ولا{[300]} يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة ، فيعلم عظم نعمة الله وخروج مثله عن العبث ، فيقوم بأداء شكره . وبذلك يصير به إلى الجزاء في العواقب ، ولا قوة إلا بالله .


[288]:- لقد تجاوز محقق ط ع تفسير الآيتين (18-19) للسياق وسيعود إلى تفسيرهما بعد تفسير الآية 20، وقد رأينا ما رآه، وأثبتناه من النسخ الثلاث: الأصل و ط ع و ط م.
[289]:- من ط م.
[290]:- في ط م: عنهما.
[291]:- تكررت كلمة النار في الأصل.
[292]:- في ط ع: الخالق.
[293]:- من ط م، في الأصل و ط ع: يكون معنى في.
[294]:- من ط م، في الأصل و ط ع: دليلا أخرى.
[295]:- في ط م: (المثل)، ساقطة من ط ع.
[296]:- في ط ع: بالبرق.
[297]:- في ط ع: وإذا.
[298]:- في ط ع: فالذي.
[299]:- الواو ساقطة من ط ع.
[300]:- من ط م، الواو ساقطة من الأصل و ط ع.