قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضاً ، { أن تحبط أعمالكم } لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ، { وأنتم لا تشعرون } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : " لما نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ، جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فسأل محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : أبا عمرو : ما شأن ثابت أيشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : بل هو من أهل الجنة " . وروي أنه " لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وغلب ثابتاً البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني محمد صلى الله عليه وسلم ، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنزل الله :{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية . قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا ، واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن به في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ، فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وقل له : إن علي ديناراً حتى يقضيه عني وفلان وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه له ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته . قال مالك بن أنس : لا أعلم وصيةً أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه . قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار . وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون أصواتهم } يخفضون أصواتهم عند النبي إجلالا له " . { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه . { لهم مغفرة وأجر عظيم* }
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في خطابه ، أي : لا يرفع المخاطب له ، صوته معه ، فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول ، بل يغض الصوت ، ويخاطبه بأدب ولين ، وتعظيم وتكريم ، وإجلال وإعظام ، ولا يكون الرسول كأحدهم ، بل يميزوه في خطابهم ، كما تميز عن غيره ، في وجوب حقه على الأمة ، ووجوب الإيمان به ، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به ، فإن في عدم القيام بذلك ، محذورًا ، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر ، كما أن الأدب معه ، من أسباب [ حصول الثواب و ] قبول الأعمال .
والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب ؛ وتوقيرهم له في قلوبهم ، توقيرا ينعكس على نبراتهم وأصواتهم ؛ ويميز شخص رسول الله بينهم ، ويميز مجلسه فيهم ؛ والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب ؛ ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب :
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . .
يا أيها الذين آمنوا . . ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان . . أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . . ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم ، وهم غير شاعرين ولا عالمين ، ليتقوه !
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب ، وهذا التحذير المرهوب ، عمله العميق الشديد :
قال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة . قال : كاد الخيران أن يهلكا . . أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . . رفعا أصواتهما عند النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين قدم عليه ركب بني تميم " في السنة التاسعة من الهجرة " فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس - رضي الله عنه - أخي بني مجاشع " أي ليؤمره عليهم " وأشار الآخر برجل آخر . قال نافع : لا أحفظ اسمه " في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد " فقال : أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . قال ابن الزبير - رضي الله عنه - : فما كان عمر - رضي الله عنه - يسمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذه الآية حتى يستفهمه ! وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار " يعني كالهمس ! " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : لما نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله : وأنتم لا تشعرون وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت . فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنا من أهل النار . حبط عملي . وجلس في أهله حزينا . ففقده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق بعض القوم إليه ، فقالوا له : تفقدك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مالك ? قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأجهر له بالقول . حبط عملي . أنا من أهل النار . فأتوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبروه بما قال . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا . بل هو من أهل الجنة " . قال أنس - رضي الله عنه - : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة .
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب ، وذلك التحذير الرعيب ؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون . ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم ، فخافوه واتقوه !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوَاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام ، وتغلظون له في الخطاب وَلا تجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ يقول : ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا : يا محمد ، يا محمد ، يا نبيّ الله ، يا نبي الله ، يا رسول الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ، قال لا تنادُوه نداء ، ولكن قولاً لينا يا رسول الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ كانوا يجهرون له بالكلام ، ويرفعون أصواتهم ، فوعظهم الله ، ونهاهم عن ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، كانوا يرفعون ، ويجهرون عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوعظوا ، ونهوا عن ذلك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . الاَية ، هو كقوله : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرّفوه ويعظّموه ، ويدعوه إذا دعوه باسم النبوّة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : حدثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس ، قال : ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس ، عن أبيه ، قال : لما نزلت هذه الاَية لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ قال : قعد ثابت في الطريق يبكي ، قال : فمرّ به عاصم بن عديّ من بني العَجلان ، فقال : ما يُبكيك يا ثابت ؟ قال : لهذه الاَية ، أتخوّف أن تكون نزلت فيّ ، وأنا صيّت رفيع الصوت قال : فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وغلبه البكاء ، قال : فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلتُ بيت فرسي ، فشدّى على الضبة بمسمار ، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله ، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره ، فقال : «اذْهَبْ فادْعُهُ لي » فجاء عاصم إلى المكان ، فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضّبة ، قال : فخرجا فأتيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما يُبْكِيكَ يا ثابِتُ » ؟ فقال : أنا صيّت ، وأتخوّف أن تكون هذه الاَية نزلت فيّ لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ القَولِ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما تَرْضَى أنْ تَعِيشَ حَميدا ، وتَقْتَلَ شَهيدا ، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ » ؟ فقال : رضيت ببُشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله ، فأنزل الله إنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أصوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ للتّقْوَى . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر بن عطية ، قال : جاء ثابت بن قيس بن الشماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال : «يا ثابت ما الذي أرى بك » ؟ فقال : آية قرأتها الليلة ، فأخشى أن يكون قد حَبِط عملي يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتٍ النّبِيّ وكان في أُذنه صمم ، فقال : يا نبيّ الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي ، وجهرت لك بالقول ، وأن أكون قد حبط عملي ، وأنا لا أشعر : فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «امْشِ على الأرْضِ نَشِيطا فإنّكَ مِنْ أهْلِ الجَنّةِ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عليه ، قال : حدثنا أيوب ، عن عكرِمة ، قال : لما نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . الاَية ، قال ثابت بن قيس : فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول ، فأنا من أهل النار ، فقعد في بيته ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل عنه ، فقال رجل : إنه لجاري ، ولئن شئت لأعلمنّ لك علمه ، فقال : «نعم » ، فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفقدك ، وسأل عنك ، فقال : نزلت هذه الاَية يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . الاَية وأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول ، فأنا من أهل النار ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنّةِ » فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس ، فقال : «أفّ لهؤلاء وما يعبدون ، وأفّ لهؤلاء وما يصنعون » ، يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى بحرّها ساعة قال : ورجل قائم على ثلمة ، فقتل وقُتِل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزّهريّ ، أن ثابت بن قيس بن شماس ، قال : لما نزلت لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ قال : يا نبيّ الله ، لقد خشيت أن أكون قد هلكت ، نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وإني امرؤ جهير الصوت ، ونهى الله المرء أن يحبّ أن يُحمد بما لم يفعل ، فأجدني أحبّ أن أُحمد ونهى الله عن الخُيَلاء وأجدني أحبّ الجمال قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا ثابِتُ أما تَرْضَى أنْ تَعيشَ حَمِيدا ، وَتُقْتَلَ شَهِيدا ، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ ؟ » فعاش حميدا ، وقُتل شهيدا يوم مُسَيلمة .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا نافع بن عمر بن جُميْل الجمحي ، قال : ثني أبن أبي مليكة ، عن الزبير ، قال : «قدم وفد أراه قال تميم ، على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، منهم الأقرع بن حابس ، فكلم أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعمله على قومه ، قال : فقال عمر : لا تفعل يا رسول الله ، قال : فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت خلافك . قال : ونزل القرآن : يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . إلى قوله : وأَجْرٌ عَظِيمٌ قال : فما حدّث عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، فَيُسْمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : وما ذكر ابن الزبير جدّه ، يعني أبا بكر .
وقوله : أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ يقول : أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها ، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم ، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض .
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك ، فقال بعض نجوّيي الكوفة : معناه : لا تحبط أعمالكم . قال : وفيه الجزم والرفع إذا وضعت «لا » مكان «أن » . قال : وهي في قراءة عبد الله «فَتَحْبَطْ أعمالُكُمْ » وهو دليل على جواز الجزم ، وقال بعض نحويي البصرة : قال : أن تحبط أعمالكم : أي مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال : أسند الحائط أن يميل .
وقوله : وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ يقول : وأنتم لا تعلمونً ولا تدورن .
{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته . { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب . وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول ، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به . { أن تحبط أعمالكم } كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي ، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط ، وذلك إذ انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة . وقد روي : أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهوريا ، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفقده ودعاه فقال : يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة " . { وأنتم لا تشعرون } أنها محبطة .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا } الآية هي أيضاً في ذلك الفن المتقدم ، وروى حيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة ، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج ، وهو كئيب حزين حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال له : «امش في الأرض بسطاً فإنك من أهل الجنة »{[10446]} . وقال له مرة : «أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً » فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة{[10447]} .
وفي قراءة ابن مسعود : «لا ترفعوا بأصواتكم » بزيادة الباء .
وقوله : { كجهر بعضكم لبعض } أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب ، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم . با محمد يا محمد ، قاله ابن عباس وغيره ، فأمرهم الله بتوقيره ، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين ، فتلك حالة الموقر ، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم . وبحضرة العالم وفي المساجد ، وفي هذه كلها آثار .
وقوله تعالى : { أن تحبط } مفعول من أجله ، أي مخافة { أن تحبط } ، والحبط : إفساد العمل بعد تقرره ، يقال حبِط بكسر الباء وأحبطه الله ، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافاً واستحقاراً وجرأة فذلك كفر . والحبط معه على حقيقته ، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على طبعه ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك ، فكأنه قال : أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها . ويحتمل أن يكون المعنى : أن تأثموا ويكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم ، فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة . وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقاراً ، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر ، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملاً . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «فتحبط أعمالكم » .
إعادة النداء ثانياً للاهتمام بهذا الغرض والإشعار بأنه غرض جدير بالتنبيه عليه بخصوصه حتى لا ينغمر في الغرض الأول فإن هذا من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتضى التأدب بما هو آكد من المعاملات بدلالة الفحوى .
وهذا أيضاً توطئة لقوله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } [ الحجرات : 4 ] وإلقاءٌ لتربية ألقيت إليهم لمناسبة طرف من أطراف خبر وفد بني تميم .
والرفع : مستعار لجهر الصوت جهراً متجاوزاً لِمعتاد الكلام ، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشدّ بلوغاً إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار ، على طريقة الاستعارة المكنية ، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قويّ بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية .
و { فوق صوت النبي } ترشيح لاستعارة { لا ترفعوا } وهو فوْق مجازي أيضاً .
وموقع قوله : { فوق صوت النبي } موقع الحال من { أصواتكم } ، أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد . ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب ، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه .
والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضُكم بعضاً كما وقع في سُورة سبب النزول . ولقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس المراد أن يكونوا سكوتا عنده .
وفي « صحيح البخاري » : قال ابن الزبير فما كان عُمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . ولم يذكر أي ابن الزبير ذلك عن أبيه يعني أبا بكر ولكن أخرج الحاكم وعبد بن حُميد عن أبي هريرة : أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية ( والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلاّ كأخِي السِّرَار حتى ألقى الله ) .
وفي « صحيح البخاري » قال ابن أبي مليكة « كاد الخَيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصْوَاتَهما عند النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر بالجهر فيها كالأذان وتكبير يوم العيد ، وبغير ما أذِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذناً خاصاً كقوله للعباس حين انهزم المسلمون يوم حنين « نَادِ يا أصحابَ السَّمُرة » وكان العباس جهير الصوت .
وقوله : { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوب التغاير بين مقتضَى قوله : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } ومقتضَى { ولا تجهروا له بالقول } .
واللام في { له } لتعدية { تجهروا } لأن { تجهروا } في معنى : تقولوا ، فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته ، وزاده وضوحاً التشبيه في قوله : { كجهر بعضكم لبعض } .
وفي هذا النهي ما يشمل صنيع الذين نادَوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فيكون تخلصاً من المقدمة إلى الغرض المقصود ، ويظهر حسن موقع قولِه بعده { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } [ الحجرات : 4 ] .
و { أن تحبط أعمالكم } في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل وهذا تعليل للمنهي عنه لا للنهي ، أي أن الجهر له بالقول يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم ، فحبط الأعمال بذلك ما يحذر منه فجعله مدخولاً للام التعليل مصروف عن ظاهر . فالتقدير : خشية أن تحبط أعمالكم ، كذا يقدّر نحاة البصرة في هذا وأمثاله . والكوفيون يجعلونه بتقدير ( لا ) النافية فيكون التقدير : أنْ لا تحبَط أعمالكم فيكون تعليلاً للنهي على حسب الظاهر .
والحَبْط : تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حَبِطَت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتلّ وربما هلكت . وفي الحديث « وإن مما يُنبت الربيعُ لَمَا يقتل حَبطاً أو يُلمّ » وتقدم في سورة المائدة قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حَبط عملُه } [ المائدة : 5 ] .
وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن الأعمال الإيمان فمعنى الآية : أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر . قال ابن عطية : أي يكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحَبط الأعمال . وأقول : لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيّىء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر . وهذا معنى { وأنتم لا تشعرون } لأن المنتقل من سيّىء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملّي من السوء بحكم التعوّد بالشيء قليلاً قليلاً حتى تغمره المعاصي وربّما كان آخرها الكفر حين تضْرَى النفس بالإقدام على ذلك . ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول ، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى .
ففي قوله : { وأنتم لا تشعرون } تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دُربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال ، وليس عدم الشعور كائناً في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه .
عياض:... ناظر أبو جعفر -أمير المؤمنين- مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} ومدح قوما فقال: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله}، وذم قوما فقال؛ {إن الذين ينادونك} وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر.
وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله، قال الله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم}.
وقال مالك: وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه. قال وحج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرمقه فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
عياض: قال القروي: لما كثر الناس على مالك قيل له: لو جعلت مستمليا يسمع الناس؟ قال: قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وحرمته حيا وميتا سواء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام، وتغلظون له في الخطاب" وَلا تجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ "يقول: ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد، يا محمد، يا نبيّ الله، يا نبي الله، يا رسول الله... عن مجاهد، في قوله: "وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ"، قال لا تنادُوه نداء، ولكن قولاً لينا؛ يا رسول الله...
حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا زيد بن حباب، قال: حدثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس، قال: ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس، عن أبيه، قال: لما نزلت هذه الآية "لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ" قال: قعد ثابت في الطريق يبكي، قال: فمرّ به عاصم بن عديّ من بني العَجلان، فقال: ما يُبكيك يا ثابت؟ قال: لهذه الآية، أتخوّف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيّت رفيع الصوت، قال: فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وغلبه البكاء، قال: فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، فقال لها: إذا دخلتُ بيت فرسي، فشدّي على الضبة بمسمار، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، فقال: «اذْهَبْ فادْعُهُ لي» فجاء عاصم إلى المكان، فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضّبة، قال: فخرجا فأتيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكِيكَ يا ثابِتُ»؟ فقال: أنا صيّت، وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ "لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَولِ" فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما تَرْضَى أنْ تَعِيشَ حَميدا، وتَقْتَلَ شَهيدا، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ»؟ فقال: رضيت ببُشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله، فأنزل الله "إنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أصوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ للتّقْوَى"... الآية...
حدثني عليّ بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا نافع بن عمر بن جُميْل الجمحي، قال: ثني أبن أبي مليكة، عن الزبير، قال: «قدم وفد أراه قال تميم، على النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم الأقرع بن حابس، فكلم أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعمله على قومه، قال: فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله، قال: فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك. قال: ونزل القرآن: "يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ" إلى قوله: "وأَجْرٌ عَظِيمٌ" قال: فما حدّث عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فَيُسْمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذكر ابن الزبير جدّه، يعني أبا بكر.
وقوله: "أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ" يقول: أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك، فقال بعض نحوّيي الكوفة: معناه: لا تحبط أعمالكم... وقال بعض نحويي البصرة: قال: "أن تحبط أعمالكم": أي مخافة أن تحبط أعمالكم...
وقوله: "وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ" يقول: وأنتم لا تعلمون ولا تدورن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وعندنا لا يحتمل أن يكون ما ذكر من رفع الصوت فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهر بالقول له وما ذُكر من التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي أن يكون الخطاب بذلك للذين صحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّبعوا أمره ونهيه، إذ لا يُحتمل منهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، ويجهروا بالقول، ويقدّموا بين يديه في أمر ولا نهي إلا عن سهو وغفلة أو إذن منه بالمُناظرة والمحاورة في العلم، فعند ذلك ترتفع أصواتهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجلّ في قلوبهم وأعظم قدرا من أن يتجاسروا التقدم بين يديه بأمر أو رفع صوت أو جهر القول له. فتكون الآية في أهل الشرك وفي أهل النفاق، والله أعلم.
ثم إن كان الخطاب بذلك للذين آمنوا فهو على وجهين:
أحدهما: أن ذلك منه ابتداء محنة امتحنهم بذلك، وأمرهم به من غير أن كان منهم شيء من ذلك من التقدم بين يديه ورفع الصوت والجهر له بالقول، ولله أن يمتحن، ويأمُر، وينهى من شاء بما شاء ابتداء امتحان منه لهم، وهو ما ذكرنا من نهي الرسل عليهم السلام عن الشرك والمعاصي، وإن كانوا معصومين عن ذلك، لأن العِصمة لا تمنع النهي، لأن العصمة إنما تكون عصمة إذا كان هناك أمر ونهي. فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من النهي عن التقدم ورفع الصوت والجهر بالقول، وإن لم يكن منهم شيء مما ذكر ابتداء محنة منه لهم، والله أعلم.
والثاني: أنه خاطب هؤلاء الصحابة عليهم السلام ليتّعظ بذلك من يشهد مجلسه من المنافقين وغيرهم من الكافرين، إذ كان يشهد مجلسه أهل النفاق وسائر الكفرة لئلا يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معاملة بعضهم بعضا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ذكر هذا ليكونوا أبدا متيقّظين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرين معظّمين له في كل وقت لئلا يكون منهم في وقت من الأوقات ما يخرج مجرى الاستخفاف به والتعاون على السّهو والغفلة، فيُحبط ذلك أعمالهم. إن هذا الصنيع برسول الله صلى الله عليه وسلم يُكفّر صاحبه، ولا يكون معذورا، وإن فعله على السّهو والغفلة، لأن لهم قدرة الاحتراز وإمكان التحذّر، وإن كانوا معذورين في ما بينهم على غير التّعمّد والقصد، ولا مؤاخذة لهم برفع الله تعالى المؤاخذة عنهم في ما بينهم، ولم يرفع في حق النبي، عليه أفضل الصلوات، مع أن الكل في حد جواز المؤاخذة، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبي} أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوت، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم. وبقوله: ولا تجهروا له بالقول: إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والحبط: إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبِط بكسر الباء وأحبطه الله، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافاً واستحقاراً وجرأة فذلك كفر. والحبط معه على حقيقته، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على طبعه، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك...
وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقاراً، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملاً...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْهُ: لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْت إلَّا خِلَافِي. قَالَ: مَا أَرَدْت ذَلِكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الْآيَةَ...
المسألة الثَّانِيَةُ: حُرْمَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ من لَفْظِهِ؛ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَوَامِ الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وَكَلَامُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الْوَحْيِ وَلَهُ من الْحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِلْقُرْآنِ إلَّا مَعَانِي مُسْتَثْنَاةٌ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لا ترفعوا أصواتكم} أي في شيء من الأشياء {فوق صوت النبي} أي الذي يتلقى عن الله، وتلقيه عنه متوقع في كل وقت، وهذا يدل على أن أذى العلماء الذين هيأهم الله لتلقي فهم دينه عنه شديد جداً، فإن تكدير أوقاتهم يمنعهم عن كثير من ذلك. ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال: {ولا تجهروا له بالقول} أي إذا كلمتموه سواء كان ذلك بمثل صوته أو أخفض من صوته، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء. ولما شمل هذا كل جهر مخصوص، وهو ما يكون مسقطاً للمزية، قال: {كجهر بعضكم لبعض} أي فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره...
{أن} أي النهي لأجل خشية- أن {تحبط} أي تفسد فتسقط {أعمالكم} أي التي هي- الأعمال بالحقيقة وهي الحسنات كلها {وأنتم لا تشعرون} أي بأنها حبطت، فإن ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف به واظب عليه، وإذا واظب عليه أوشك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور؛
الأوّل: عن التقدّم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام.
والثاني: عن رفع الصوت البالغ إلى حدّ يكون فوق صوته سواء كان في خطابه، أو في خطاب غيره.
والثالث: ترك الجفاء في مخاطبته، ولزوم الأدب في مجاورته، لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر... وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيئ إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى {وأنتم لا تشعرون} لأن المنتقل من سيّئ إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملّي من السوء بحكم التعوّد بالشيء قليلاً قليلاً حتى تغمره المعاصي وربّما كان آخرها الكفر حين تضْرَى النفس بالإقدام على ذلك...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وحذر كتاب الله من عاقبة سوء الأدب مع الرسول ورفع الصوت عليه، فقد ينتهي ذلك بما لا تحمد عقباه، ويؤدي إلى إحباط عمل المؤمن وخسرانه، وذلك قوله تعالى: {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}، أي إنما نهيناكم عن ذلك خشية أن يحبط عملكم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا لونٌ من ألوان الأدب الإسلامي في مخاطبة المسلمين للنبي، تقضي بمراعاة الإخفات في الكلام، أو الهدوء في الخطاب، بحيث تكون أصوات المسلمين أخفض من صوته، لتتميَّز طريقتهم في الحديث معه عن طريقتهم في الحديث العادي مع بعضهم البعض...
{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي حذراً من أن تحبط أعمالكم إذا أسأتم احترام النبيّ، مما قد يؤدّي إلى الاستهانة به وبأمره ونهيه...