قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } . قرأ أبو جعفر للملائكة اسجدوا بضم التاء على جوار ألف اسجدوا وكذلك قرأ ( قل رب احكم بالحق ) بضم الباء ، وضعفه النحاة جداً ونسبوه إلى الغلط فيه واختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة فقال بعضهم : مع الذين كانوا سكان الأرض . والأصح : أنه مع جميع الملائكة لقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) وقوله : اسجدوا فيه قولان : الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة ، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره ، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية ، لا سجود عبادة ، كسجود إخوة يوسف له في قوله عز وجل ( وخروا له سجداً ) ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض ، إنما كان انحناء ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام . وقيل : معنى قوله اسجدوا لآدم أي إلى آدم فكان آدم قبلة ، والسجود لله تعالى ، كما جعلت الكعبة قبلةً للصلاة والصلاة لله عز وجل .
قوله تعالى : { فسجدوا } . يعني : الملائكة .
قوله تعالى : { إلا إبليس } . وكان اسمه عزازيل بالسريانية ، وبالعربية الحرث ، فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل : إبليس ، لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي يئس . واختلفوا فيه فقال ابن عباس وأكثر المفسرين : كان إبليس من الملائكة ، وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة ، والأول أصح . لأن خطاب السجود كان مع الملائكة ، وقوله ( كان من الجن ) أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة . وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة ، وقال : قوم من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي أهل الجنة ، وقيل : بأن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جناً لاستتارهم عن الأعين ، وإبليس كان منهم . والدليل عليه قوله تعالى ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ) وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية .
قوله تعالى : { أبى } . أي امتنع فلم يسجد .
قوله تعالى : { واستكبر } . أي تكبر عن السجود لآدم .
قوله تعالى : { وكان } . أي : وصار .
قوله تعالى : { من الكافرين } . وقال أكثر المفسرين : وكان في سابق علم الله من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا ابن الحاكم أبو الفضل محمد ابن الحسين الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أنا جرير ووكيع وأبو معاوية عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار " .
ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم ، إكراما له وتعظيما ، وعبودية لله تعالى ، فامتثلوا أمر الله ، وبادروا كلهم بالسجود ، { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود ، واستكبر عن أمر الله وعلى آدم ، قال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وهذا الإباء منه والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه ، فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره .
وفي هذه الآيات من العبر والآيات ، إثبات الكلام لله تعالى ، وأنه لم يزل متكلما ، يقول ما شاء ، ويتكلم بما شاء ، وأنه عليم حكيم ، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم ، واتهام عقله ، والإقرار لله بالحكمة ، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة ، وإحسانه بهم ، بتعليمهم ما جهلوا ، وتنبيههم على ما لم يعلموه .
منها : أن الله تعرف لملائكته ، بعلمه وحكمته ، ومنها : أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم ، وأنه أفضل صفة تكون في العبد ، ومنها : أن الله أمرهم بالسجود لآدم ، إكراما له ، لما بان فضل علمه ، ومنها : أن الامتحان للغير ، إذا عجزوا عما امتحنوا به ، ثم عرفه صاحب الفضيلة ، فهو أكمل مما عرفه ابتداء ، ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن ، وبيان فضل آدم ، وأفضال الله عليه ، وعداوة إبليس له ، إلى غير ذلك من العبر .
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
قال أبو جعفر : أما قوله : وإذْ قُلْنَا فمعطوف على قوله : وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْمَلاَئِكَةِ كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل معدّدا عليهم نعمه ، ومذكرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم ، فخلقت لكم ما في الأرض جميعا ، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، فكرّمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي ، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له . ثم استثنى من جميعهم إبليس ، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم ، وأنه ممن قد أُمِرَ بالسجود معهم ، كما قال جل ثناؤه : إلاّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ قالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لاَدم . ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لاَدم ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره ونَفَى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم .
ثم اختلف أهل التأويل فيه هل هو من الملائكة أم هو من غيرهم ؟ فقال بعضهم بما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة ، يقال لهم «الجنّ » ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة . قال : فكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحيّ . قال : وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمون جنّا .
وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد ، عن عطاء ، عن طاوس ، أو مجاهد أبي الحجاج ، عن ابن عباس وغيره بنحوه ، إلا أنه قال : كان ملكا من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض وعمّارها ، وكان سكان الأرض فيهم يسمون الجنّ من بين الملائكة .
وحدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : جعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ ، وإنما سموا الجن لأنهم خزّان الجنة ، وكان إبليس مع ملكه خازنا .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا حسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض . قال : قال ابن عباس : وقوله : كانَ منَ الجنّ ، إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ، وكوفي ، وبصري . قال ابن جريج : وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة ، فكان اسم قبيلته الجن .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض .
وحدثت عن الحسن بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، يقول في قوله : فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء .
وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني شيبان ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبْلِيس رئيس ملائكة سماء الدنيا .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنّ كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن . وكان ابن عباس يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة سماء الدنيا . قال : وكان قتادة يقول : جنّ عن طاعة ربه .
وحدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : أما العرب فيقولون : ما الجنّ إلا كلّ من اجتنّ فلم ير . وأما قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ أي كان من الملائكة ، وذلك أن الملائكة اجتنّوا فلم يروا ، وقد قال الله جل ثناؤه : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنةِ نَسَبا وَلَقدْ علمتِ الجنّةُ أنهم لَمُحْضَرُونَ وذلك لقول قريش : إن الملائكة بنات الله . فيقول الله : إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها ، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذرّيته نسبا . قال : وقد قال الأعشى ، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري ، وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله :
وَلَوْ كانَ شَيْء خالِدا أوْ مُعَمّرا لَكانَ سُلَيْمَانُ البَرِيّ مِنَ الدّهْرِ
بَرَاهُ إلهي واصْطَفَاهُ عبادَهُ وَمَلّكَهُ مَا بَيْنَ ثُرْيَا إلى مِصْرِ
وَسَخّرَ مِنْ جِنّ المَلائِكِ تِسْعَةً *** قِياما لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أجْرِ
قال : فأبت العرب في لغتها إلا أن «الجنّ » كل ما اجتنّ . يقول : ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يُرَوْا ، وما سمى بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنّوا ، فما ظهر فهو إنس ، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ . وقال آخرون بما :
حدثنا به محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول في قوله : إلا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ إلجاءٌ إلى نسبه ، فقال الله : أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي الآية . . . وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو سعيد اليحمدي ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب قوله : مِنَ الجِنّ قال : كان إبليس من الجنّ الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .
وحدثني عليّ بن الحسين ، قال : حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال ، قال : حدثني سنيد بن داود ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن موسى بن نمير ، وعثمان بن سعيد بن كامل ، عن سعد بن مسعود ، قال : كانت الملائكة تقاتل الجنّ ، فسُبي إبليس وكان صغيرا ، فكان مع الملائكة فتعبّد معها . فلما أمروا بالسجود لاَدم سجدوا ، فأبى إبليس فلذلك قال الله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ .
وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر ، عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم الجنّ ، فكان إبليس منهم ، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض فعصى ، فمسخه الله شيطانا رجيما .
قال : وحدثنا يونس ، عن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إبليس أبو الجنّ ، كما آدم أبو الإنس .
وعلة من قال هذه المقالة ، أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أنه خلق إبليس من نار السموم ومن مارج من نار ، ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شيء من ذلك . وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجن . فقالوا : فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه . قالوا : ولإبليس نسل وذرّية ، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد .
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شريك ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : إن الله خلق خلقا ، فقال : اسجدوا لاَدم فقالوا : لا نفعل . فبعث الله عليهم نارا تحرقهم . ثم خلق خلقا آخر ، فقال : إني خالق بشرا من طين ، اسجدوا لاَدم فأبوا ، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم . قال : ثم خلق هؤلاء ، فقال : اسجدوا لاَدم فقالوا : نعم . وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لاَدم .
قال أبو جعفر : وهذه علل تنبىء عن ضعف معرفة أهلها . وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى ، فخلق بعضا من نور ، وبعضا من نار ، وبعضا مما شاء من غير ذلك . وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم ، إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس ، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته . وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية لما ركب فيه من الشهوة واللذّة التي نزعت من سائر الملائكة لما أراد الله به من المعصية .
وأما خبر الله عن أنه من الجن ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جِنّا ، كما قد ذكرنا قبلُ في شعر الأعشى ، فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بني آدم .
قال أبو جعفر : وإبليس «إفعيل » من الإبلاس : وهو الإياس من الخير والندم والحزن . كما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته .
وحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي ، قال : كان اسم إبليس الحارث ، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيرا .
قال أبو جعفر : وكما قال الله جل ثناؤه : فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ يعني به أنهم آيسون من الخير ، نادمون حزنا ، كما قال العجاج :
يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْما مُكْرَسَا قالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسا
وَحَضَرَتْ يَوْمَ الخَمِيسِ الأخْماس وَفِي الوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإبْلاسْ
فإن قال لنا قائل : فإن كان إبليس كما قلت «إفعيل » من الإبلاس ، فهلاّ صرف وأُجري ؟ قيل : ترك إجراؤه استثقالاً إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب ، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجري ، وقد قالوا : مررت بإسحاق ، فلم يجروه ، وهو من أسحقه الله إسحاقا ، إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مجراه ، وهو من أسماء العجم في الإعراب ، فلم يصرف . وكذلك أيوب إنما هو فيعول من آب يئوب .
وتأويل قوله : أبى يعني جل ثناؤه بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لاَدم فلم يسجد له . واستكبر يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لاَدم .
وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس ، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه ، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحقّ . وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله والتذلل لطاعته والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهودُ الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته عارفين وبأنه لله رسول عالمين ، ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الإقرار بنبوّته والإذعان لطاعته ، بغيا منهم له وحسدا ، فقرّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لاَدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، إذ جاءهم بالحقّ من عند ربهم حسدا وبغيا .
ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلاً في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له ، فقال جل ثناؤه : وكان يعني إبليس من الكافرين من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لاَدم ، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل : من إطعام الله أسلافهم المنّ والسلوى ، وإظلال الغمام عليهم وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم ، خصوصا ما خصّ الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله عليهم فجحدت نبوّته بعد علمهم به ، ومعرفتهم بنبوّته حسدا وبغيا . فنسبه الله جل ثناؤه إلى الكافرين ، فجعله من عدادهم في الدين والملة ، وإن خالفهم في الجنس والنسبة ، كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض لاجتماعهم على النفاق ، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم ، فقال : المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال ، فكذلك قوله في إبليس : كانَ مِنَ الكَافِرِينَ كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم .
ومعنى قوله : وكانَ مِنَ الكَافِرينَ أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ .
وقد رُوي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله : وكانَ مِنَ الكافِرِينَ في هذا الموضع وكان من العاصين .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وكانَ مِنَ الكافِرِينَ يعني العاصين .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .
وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه . وكان سجود الملائكة لاَدم تكرمة لاَدم وطاعة لله ، لا عبادة لاَدم . كما :
حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْنَا للْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فكانت الطاعة لله ، والسجدة لاَدم ، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته .
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له ، اعترافا بفضله ، وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه ، وقيل : أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } امتحانا لهم وإظهارا لفضله . والعاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر ، وإلا عطفه بما يقدر عاملا فيه على الجملة المتقدمة ، بل القصة بأسرها على القصة الأخرى ، وهي نعمة رابعة عدها عليهم . والسجود في الأصل تذلل مع تطامن قال الشاعر :
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر *** . . .
وقلن له اسجد لليلى فاسجدا *** . . .
يعني البعير إذا طأطأ رأسه . وفي الشرع : وضع الجبهة على قصد العبادة ، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له بالحقيقة هو الله تعالى ، وجعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه ، أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ، ونسخة لما في العالم الروحاني والجسماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات ، ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات ، أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته ، وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته ، فاللام فيه كاللام في قول حسان رضي الله تعالى عنه :
أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو في قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس }
وأما المعنى اللغوي وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له ، كسجود إخوة يوسف له ، أو التذلل والانقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم . والكلام في أن المأمورين بالسجود ، الملائكة كلهم ، أو طائفة منهم ما سبق .
{ فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } امتنع عما أمر به ، استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه ، أو يعظمه ويتلقاه بالتحية ، أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه . والإباء : امتناع باختيار . والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره . والاستكبار طلب ذلك بالتشبع .
{ وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى ، أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله : { أنا خير منه }جوابا لقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين } . لا بترك الواجب وحده . والآية تدل على أن آدم عليه السلام أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له ، ولو من وجه ، وأن إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولا يصح استثناؤه منهم ، ولا يرد على ذلك قوله سبحانه وتعالى : { إلا إبليس كان من الجن } لجواز أن يقال إنه كان من الجن فعلا ومن الملائكة نوعا ، ولأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي : أن من الملائكة ضربا يتوالدون يقال لهم الجن ومنهم إبليس . ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول : إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة ، وكان مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه ، أو الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم ، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به ، علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به ، والضمير في فسجدوا راجع إلى القبيلين كأنه ، قال فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس ، وأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم عدم العصمة ، كما أن من الإنس معصومين والغالب فيهم عدم العصمة ، ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات ، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما . وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلذلك صح عليه التغير عن حاله والهبوط من محله ، كما أشار إليه بقوله عز وعلا : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } لا يقال : كيف يصح ذلك والملائكة خلقت من نور والجن من نار ؟ لما روت عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال : " خلقت الملائكة من النور ، وخلق الجن من مارج من نار " لأنه كالتمثيل لما ذكرنا فإن المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك ، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق ، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور ، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف ، وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص ، والعلم عند الله سبحانه وتعالى .
ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه قد يفضي بصاحبه إلى الكفر ، والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض في سره ، وأن الأمر للوجوب ، وأن الذي علم الله تعالى من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة ، إذ العبرة بالخواتم وإن كان بحكم الحال مؤمنا وهو الموافاة المنسوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى .
عطف على جملة { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] عطفَ القصة على القصة . وإعادة { إذ } بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه تنبيهٌ على أن الجملة مقصودة بذاتها لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام ، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصة معطوفة بفاء التفريع فيقول : { فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وإن كان مضمونها في الواقع متفرعاً على مضمون التي قبلها فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيته عليهم إذ علم ما لم يعلموه وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض وما طرأَ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء فإنّ الأصل في الكلام أن يكون ترتيب نظمه جارياً على ترتيب حصول مدلولاته في الخارج ما لم تُنصب قرينة على مخالفة ذلك .
ولا يريبك قوله تعالى في سورة الحِجر ( 28 ، 29 ) { إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون } فإذا سويتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين لأن تلك حَكَتْ القصة بإجمال فطوتْ أَنباءها طيًّا جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها آية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماءَ وَعَرْضِها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا قبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم أن يكون مفسداً في الأرض بعد أن لازموا جانب التوقف لما قال الله لهم : { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] ، فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بياناً لكشف شبهتهم فاستحقوا أن يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه .
وقد أريد من هذه القصة إظهارُ مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عَنْ فائدة من وجوده في هذا العالم ؛ وإظهارُ فضيلة المعرفة ، وبيانُ أن العالم حقيق بتعظيم مَن حوله إياه وإظهارُ ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد ، وبيانُ أن الاعتراف بالحق من خصال الفضائل الملائكية ، وأن الفساد والحسد والكِبر من مذام ذوي العقول .
والقول في إعراب { إذْ } كالقول الذي تقدم في تفسير قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] .
وإظهار لفظ الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله : { قالوا سبحانك } [ البقرة : 32 ] وقوله : { فلما أنبأهم } [ البقرة : 33 ] لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة المَعْطُوفة بأن تكون قصة مقصورة غير مندمجة في القصة التي قبلها .
وغُير أسلوبُ إسناد القول إلى الله فأُتي به مسنداً إلى ضمير العظمة { وإذ قلنا } وأُتي به في الآية السابقة مسنداً إلى رب النبيء { وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] للتفنن ولأن القول هنا تضمن أمراً بفعلٍ فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة الآمر ، وأما القول السابق بمجرد إعلام من الله بمراده ليظهرَ رأيهم ، ولقصد اقتران الاستشارة بمبدأ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين . وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبيء صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } .
وحقيقة السجود طأطأة الجسد أو إِيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهَد بالعيان كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب ، قال تعالى : { وخروا له سجَّداً } [ يوسف : 100 ] ، وقال { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } [ فصلت : 37 ] وقال الأعشى :
فلما أتانا بُعَيْد الكرى *** سجَدْنا له وخلَعْنَا العِمارا
يراوح من صلوات الملي *** ك طوراً سُجوداً وطوراً جؤاراً
أو لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله ، قال تعالى : { فاسجدوا لله واعبدوا } [ النجم : 62 ] .
والسجود ركن من أركان الصلاة في الإسلام . وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم ، وقد جمع معانيه قوله تعالى : { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون } [ النحل : 49 ] . فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم .
وقد عرف السجود منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد على الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعاً أمام الشمس ، ووجدت على الآثار المصرية صور أسرى الحرب سجداً لفرعون ، وهيآت السجود تختلف باختلاف العوائد . وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان . والسجود في صلاة الإسلام الخُرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين .
وتعدية { اسجدوا } لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى : { فاسجدوا لله واعبدوا } [ النجم : 62 ] وقوله : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } [ فصلت : 37 ] ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين ، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان : * أليس أول من صلى لقبلتكم *
فإن للضرورة أحكاماً لا يناسب أن يقاس بها أحسن الكلام نظاماً .
وفي هذه الآية منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم آدم علماً لم يؤهل له الملائكة كان قد جعل آدم أنموذجاً{[111]} للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم .
وقرأ أبو جعفر في أشهر الرواية عنه ( للملائكةُ اسجدوا ) بضمة على التاء في حال الوصل على إتْباع حركة التاء لضمة الجيم في ( اسجدوا ) لعدم الاعتداد بالساكن الفاصل بين الحرفين لأنه حاجز غير حصين ، وقراءته هذه رواية وهي جرت على لغة ضعيفة في مثل هذا فلذلك قال الزجاج والفارسي : هذا خطأ من أبي جعفر ، وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة كقراءة الحسن { الحمدِ لله } [ الفاتحة : 2 ] بكسر الدال قال ابن جني : وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو : { وقالتُ اخرج عليهن } في سورة يوسف ( 31 ) اه وإنما حملوا عليه هذه الحملة لأن قراءته معدودة في القراءات المتواترة فما كان يحسن فيها مثل هذا الشذوذ ، وإن كان شذوذاً في وجوه الأدَاء لا يخالف رسم المصحف .
وعطف { فسجدوا } بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم يصدَّهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزَّهون عن المعاصي .
واستثناء إبليس من ضمير الملائكة في { فسجدوا } استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى في سورة الكَهْفِ ( 50 ) { إلا إبليس كان من الجن } ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلاً لمن هو فيهم .
وقد دلت الآية على أن إبليس كان مقصوداً في الخبر الذي أخبر به الملائكة { إذ قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم { اسجدوا لآدم } ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغموراً بنوع المَلك إذ خلق الله من نوعهم أفراداً كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله : { وإذ قال ربك للملائكة } [ البقرة : 30 ] ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس ، وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم . وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق ، وسخره لاتباع سنَنهم فجرى على ذلك السَّنَن أمداً طويلاً لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار إليه قوله تعالى : { ففسق عن أمر ربه } في سورة الكهف ( 50 ) فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم .
وإبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين ، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان . وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة ، ولكن يدل لكونه معرباً أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل الزجاج همزته أصلية ، وقال وزنه على فعليل . وقال أبو عبيدة : هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لولا أنه يناكد منعه من الصرف وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك .
وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك وصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها .
وجمل { أبى واستكبر وكان من الكافرين } استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم ، شأنه أن يثير سؤالاً في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف خالف حال جماعته وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة :
وهل أنا إلا من غُزَيَّة إن غَوت *** غوَيْت وإِن ترشُد غزية أرشُد
فبين السبب بأنه أبى واستكبر وكفر بالله .
والإباء الامتناع من فعل أو تلقيه . والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيراً مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى استكبر اتصف بالكبر . والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقاً لأن يسجد هو له إنكاراً عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله : { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } [ الأعراف : 12 ] وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] ، لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة ، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله وللقادر حين تشل بعض أعضائه ، ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال :
فكنتُ كذي رجلين رجلٍ صحيحة *** ورجل رمى فيها الزمان فشَلت
والاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت ، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجىء منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلباً الكبر أو متكلفاً له وما هو بكبير حقاً ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء :
علوتمُ فتواضعتمْ على ثقة *** لما تواضع أقوام على غرر
وحقيقة الكبر قال فيها حجة الإسلام في كتاب « الإحياء » : الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه ، فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلاً لها فلا يتكبر عليه ، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد ، وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر .
وقد كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور : الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به للمستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتاً أو منفياً . ويظهر ذلك جلياً في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لولا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام .
وقال أبو حنيفة الاستثناء من كلام منفي يُثبت للمستثنَى نقيضَ ما حكم به للمستثنى منه ، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به ، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه ، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه .
وسوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة .
فعلى رأي الجمهور تكون جملة { أبى واستكبر } استئنافاً بيانياً ، وعلى رأي الحنفية تكون بياناً للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين .
وجملة { وكان من الكافرين } معطوف على الجمل المستأنفة ، و ( كان ) لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية ، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم ، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل { كان } على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود ، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله ، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهراً الطاعة مبطناً الكفر نفاقاً ، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضي الفعل قبل وقت التكلم ، وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال تعالى : { وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } [ هود : 43 ] وقال : { وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] وقول ابن أحمر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها *** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
أي صار كافراً بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافراً صراحاً .
والذي أراه أحسن الوجوه في معنى { وكان من الكافرين } أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال : { أبى واستكبر } فعدل عن مقتضى الظاهر إلى { وكان من الكافرين } لدلالة { كان } في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها ، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفراً عميقاً في نفسه وهذا كقوله تعالى : { فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } [ الأعراف : 83 ] ، وكقوله تعالى : { ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون } [ النمل : 41 ] دون أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء ، وأما الإتيان بخبر { كان من الكافرين } دون أن يقول وكان كافراً فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحداً من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكاً بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى : { أصدقت أم كنت من الكاذبين } [ النمل : 27 ] وقوله الذي ذكرناه آنفاً { أم تكون من الذين لا يهتدون } وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيداً في الكفر . وهذا منزع انتزعه من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة { كان } وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريباً عن قوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين } [ البقرة : 43 ] . وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله : { وكان من الكافرين } جارياً على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي .
وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضاً ، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقاً لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى : { ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب } [ هود : 77 ] وقد أشرت إلى ذلك في كتابي « أصول الإنشاء والخطابة » .