فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } .

{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } قيل هذا خطاب مع ملائكة الأرض والأصح أنه خطاب مع جميع الملائكة وهو الظاهر من قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } والسجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع ، وغايته وضع الوجه على الأرض ، والإسجاد إدامة النظر ، وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته وقيل إن السجود كان لله ولم يكن لآدم ، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود ، ولا ملجأ لهذا فإن السجود للبشر قد يكون جائزا في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح ، وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم وكذلك الآية الأخرى أعني قوله { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } وقال تعالى { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا } فلا يستلزم تحر يمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك في سائر الشرائع .

ومعنى السجود هنا وضع الجبهة على الأرض وإليه ذهب الجمهور ، قال قوم هو مجرد التذلل والانقياد والأول أولى ، وقد وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده ؟ وقد أطال البحث في ذلك البقاعي في تفسيره ، وظاهر السياق أنه وقع التعليم وتعقبه الأمر بالسجود وتعقبه إسكانه الجنة ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض .

وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، وهذه القصة ذكرت في القرآن في سبع سور ، في هذه السورة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وص ، ولعل السر في تكريرها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان في محنة عظيمة في قومه وأهل زمانه ، فكأنه قال أو لا ترى أن أول الأنبياء وهو آدم كان في محنة عظيمة للخلق ، ذكره الخطيب والظاهر أنه لإظهار شرف آدم وفضله على سائر الخلق حتى الملائكة ، وليس في هذه القصة ما يدل على محنة آدم .

{ فسجدوا } وكان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر ، قيل أول من سجد لآدم جبرائيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون ، والله أعلم { إلا إبليس } استثناء متصل ، لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور ، قال شهر ابن حوشب وبعض الأصوليين كان من الجن الذين كانوا في الأرض فيكون الاستثناء على هذا منقطعا ، واستدلوا على هذا بقوله تعالى { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وبقوله تعالى { إلا إبليس كان من الجن } والجن غير الملائكة {[88]} وأجاب الأولون بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة لما سبق في علم الله من شقائه عدلا منه { لا يسأل عما يفعل } وليس في خلقه من نار ولا تركب الشهوة فيه حين غضب الله عليه ما يدفع أنه من الملائكة ، وأيضا على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلا تغليبا للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم وسمي به لأنه أبلس من رحمة الله أي يئس وكان اسمه عزازيل بالسريانية ، وبالعربية الحرث ، فلما عصى غير اسمه فسمي إبليس وغيرت صورته .

قال ابن عباس كان إبليس من الملائكة بدليل أنه استثناه منهم ، وقيل أنه من الجن وأنه أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ، والأول أصح لأن الخطاب كان مع الملائكة فهو داخل فيهم ثم استثناه منهم وعليه أكثر المفسرين كالبغوي والواحدي والقاضي ، وقالوا المعنى كان من الجن فعلا ومن الملائكة نوعا أو لأن الملائكة قد يسمون جنا لاختفائهم .

{ أبى } امتنع من فعل ما أمر به من السجود فلم يسجد ، فيه رد على الجبرية إذ لا يوصف بالإباء إلا من هو قادر على المطلوب { واستكبر } أي تعظم عن السجود لآدم والاستكبار والاستعظام للنفس ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم { إن الكبر بطر الحق وغمط الناس } وفي رواية غمص الناس ، وإنما قدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الترتيب لأنه من الأفعال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه من أفعال القلوب ، واقتصر في سورة ص على ذكر الاستكبار وفي سورة الحجر على ذكر الإباء { وكان من الكافرين } أي من جنسهم في علم الله تعالى ، وإنما وجبت له النار لسابق علم الله تعالى بشقاوته ، وقيل إن { كان } هنا بمعنى صار قال ابن فورك أنه خطأ ترده الأصول .

وأفادت الآية استقباح التكبر والخوض في سر الله تعالى ، وإن الأمر للوجوب ، وإن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الحال مؤمنا ، وهذه مسألة الموافاة المنسوبة إلى أبي الحسن الأشعري ومعناها أن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه أي يأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته ، وحيث أطلقت مسألة الموافاة فالمراد بها ذلك ، وهي مما اختلف فيها الشافعية والحنفية والماتريدية ، وللسبكي فيها تأليف مستقل ، ومن فروعها أنه يصح أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ، ويبتنى عليها مسألة الإحباط في الأعمال بالردة .

قال الخفاجي مسألة الموافاة من أمهات المسائل وفصلها النسفي في شرح التمهيد فقال ما حاصله أن الشافعي يقول أن الشقي شقي في بطن أمه وكذا السعيد فلا تبديل في ذلك ويظهر ذلك عند الموت ولقاء الله وهو معنى الموافاة والماتريدية يقولون يمحو الله ما يشاء ويثبت فيصير السعيد شقيا والشقي سعيدا إلا أنهم يقولون من مات مسلما مخلد في الجنة ومن مات كافرا مخلد في العذاب باتفاق الفريقين فلا ثمرة للخلاف أصلا ، إلا أن يقال إن من كان مسلما وورث أباه المسلم إذا مات كافرا يرد ما أخذه إلى بقية الورثة المسلمين ، وكذا الكافر وتبطل جميع أعماله ، والمنقول في المذهب خلافه فحينئذ لا ثمرة له إلا أنه يصلح منه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله بقصد التعليق في المستقبل حتى لا يكون شكا في الإيمان حالا ، ولا حاجة لتأويله ، والماتريدية يمنعون ذلك مطلقا انتهى .


[88]:إبليس كان من الجن، ولم يكن من الملائكة ولا طاوس الملائكة كما يزعمون، والأمر بالسجود كان موجها إلى الملائكة والجن، وإنما جاء القرآن بذكر الملائكة فقط اكتفاء بذكر الأشرف، وذلك كما تقول: سار خلف نعش الزعيم: الوزراء والأمراء والكبراء، مع أن هذا لا ينفي أنه سار خلفه طبقات العمال والفلاحين والتلاميذ.