التفسير : لما خصص الله تعالى أبانا آدم بالخلافة ثم علمه من العلوم ما ظهر بذلك مزيته على جميع الملائكة ، اقتضت حكمته البالغة أن جعله مسجوداً لهم وهذا مقتضى النسق ههنا ظاهر إلا أن قوله تعالى في موضع آخر { فإذا سويته فيه من روحي فقعوا له ساجدين } [ ص : 72 ] يقتضي أن يكون الأمر بالسجود قبل تسوية خلقه ، وأنه كما صار حياً صار مسجوداً لهم . وتعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد سجدتهم . والله أعلم بذلك . ثم إن المسلمين أجمعوا على أن ذلك السجود لم يكن للعبادة لأنه تعالى لا يأمر بالكفر والعبادة لغيره كفر ، فزعم بعض أن السجود كان لله تعالى وآدم كالقبلة . فقوله { اسجدوا لآدم } مثل قولك " صل للقبلة " قال حسان بن ثابت :
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالقرآن والسنن ؟
وهو ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم ، وجعله مجرد القبلة لا يفيد كونه أعظم حالاً من الساجد . وزعم آخرون أن المراد بالسجود الانقياد والخضوع كما هو مقتضى أصل اللغة مثل { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمان : 6 ] وزيف بأنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض ، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ، لأن الأصل عدم التغيير . وأصح الأقوال أن السجود كان بمعنى وضع الجبهة ولكن لا عبادة بل تكرمة وتحية كالسلام منهم عليه ، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم . قال قتادة في قوله { وخروا له سجداً } [ يوسف : 100 ] كان تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض ، ويجوز أن تختلف الرسوم والعادات باختلاف الأزمنة والأوقات . واختلف في أن إبليس من الملائكة أم لا . فقال أكثر المتكلمين لاسيما المعتزلة : إنه لم يكن منهم . وقال كثير من الفقهاء : إنه كان منهم حجة الأولين أنه من الجن لقوله تعالى في الكهف { إلا إبليس كان من الجن }
[ الآية : 50 ] فلا يكون من الملائكة . وأيضاً قال { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } [ سبأ : 40 ] ورد الأول بأن الجن قد يطلق على الملك لاستتاره عن العيون ، وبأن كان يحتمل أن تكون بمعنى صار . والثاني بأنه لا يلزم من كون الجن في هذه الآية نوعاً مغايراً للملائكة أن يكون في الآية الأولى أيضاً مغايراً ، لاحتمال كونه على مقتضى أصل اللغة وهو الاستتار . وقالوا : إن إبليس له ذرية لقوله تعالى
{ أتتخذونه وذريته أولياء من دوني } [ الكهف : 50 ] والملائكة لا ذرية لها لأنها تحصل من الذكر والأنثى ولا إناث فيهم لقوله { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثاً }
[ الزخرف : 19 ] منكراً عليهم وأيضاً الملائكة معصومون لما سلف ، وإبليس لم يكن كذلك . وأيضاً إنه من النار { خلقتني من نار } [ ص : 76 ] وأنهم من نور لقوله صلى الله عليه وسلم " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار " رواه الزهري عن عروة عن عائشة . ومن المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون ، فقيل سموا بذلك لأنهم من الريح أو من الروح . وأيضاً الملائكة رسل { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] ورسل الله معصومون { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] حجة الآخرين أنه استثناه من الملائكة ، وحمله على المتصل أولى ، لأن تخصيص العمومات في كتاب الله أكثر من الاستثناء المنقطع . قيل : إنه جني واحد مغمور بين ظهراني ألوف من الملائكة فغلبوا عليه ، وهذا لا ينافي كون الاستثناء متصلاً . وأجيب بأن التغليب إنما يصار إليه إذا كان المغلوب ساقطاً عن درجة الاعتبار ، أما إذا كان معظم الحديث فيه فلا يصار إلى التغليب . وأيضاً لو لم يكن من الملائكة لم يتناوله الخطاب ب { اسجدوا } وحينئذ لم يستحق بترك السجود لوماً وتعنيفاً ، ولا يمكن أن يقال إنه نشأ معهم والتصق بهم فتناوله الأمر لما بين في أصول الفقه أن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين ، ولا أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر إلا أنه تعالى أمره بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] لأن قوله { أبى واستكبر } عقيب قوله { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } مشعر بأن المخالفة بسبب هذا الأمر ، هذا ما قيل عن الجانبين . ومما يناسب تفسير الآية الكلام في أن الأنبياء أفضل من الملائكة أم بالعكس ، قال أكثر أهل السنة بالأول ، ومالت المعتزلة والشيعة إلى الثاني ، واختاره الباقلاني وأبو عبد الله الحليمي من فقهاء أهل السنة .
المعتزلة احتجوا بأمور : أحدها { ومن عنده لا يستكبرون } [ الأنبياء : 19 ] وليس المراد عندية المكان والجهة بل عندية القرب والشرف . وعورض بما حكى عنه سبحانه " أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي " بل هذا أبلغ لأن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عنده . قالوا : الآية تدل على أنه تعالى يقول الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السماوات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض والآفات ، لا يتركون العبودية لحظة واحدة ، فالبشر مع غاية ضعفهم وقصورهم أولى بذلك . وأجيب بأنه لا نزاع في ذلك ، وإنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب .
الثانية : عباداتهم من عبادات البشر فيكون ثوابهم أكثر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة " أجرك على قدر نصيبك " ولقوله " أفضل العبادات أجزها " أي أشقها . وأما بيان أن عباداتهم أشق فمن وجهين : أحدهما أنهم سكان السماوات وهي جنان ومنتزهات وهم مع ذلك لا يلتفتون إلى نعيمها ويقبلون على طاعاتهم خائفين وجلين وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المتطاولة
{ إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] ويؤكده قصة آدم فإنه أطلق له في الجنة جميعها إلا شجرة واحدة ومع ذلك لم يملك نفسه ، والثاني أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من طعام إلى طعام ، والإقامة على نوع واحد تورث السآمة وهذا شأن الملائكة { وإنا لنحن الصافون . وإنا لنحن المسبحون } [ الصافات : 165 ، 166 ] ومنهم ركوع ومنهم سجود منذ خلقوا . وعورض الوجه الأول بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ، ثم إنهم راضون بقضاء الله مواظبون على تكاليفهم ، ولذلك كان العبيد والخدم تطيب قلوبهم بالخدمة حال الرفاهية ، ولا يصبر أحد منهم على مشقة الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص . والثاني بأن العادة طبيعية خامسة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً " .
الثالثة : عباداتهم أدوم { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وخير الأعمال أدومها ، مع أن أعمارهم أكثر . وعلى الآية سؤال . روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله عز وجل { لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] ثم قال { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ، أفلا تكون الرسالة واللعن مانعين عن التسبيح ؟ فأجاب بأن التنفس لا يمنعنا من الاشتغال بشيء آخر ، فكذلك التسبيح لهم . وزيف بأن آلة النفس فينا غير آلة الكلام ، وأما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام ، فاجتماعهما في آلة واحدة محال . وأجيب باحتمال أن يكون لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداءه ببعض آخر ، وبأن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي ، أو المراد لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : فلان يواظب على الجماعات . يعنون أنه عازم على أدائها في أوقاتها . ونوقضت الحجة بأن الطاعة القليلة من الإنسان قد تقع على وجه يستحق بها ثواباً من ثواب طاعاتهم .
الرابعة : أنهم أسبق السابقين في كل العبادات { والسابقون السابقون . أولئك المقربون }
[ الواقعة : 10 ، 11 ] " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها " .
الخامسة : الملائكة رسل إلى الأنبياء { علّمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] { نزل به الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] والرسول أفضل من الأمة قياساً على الشاهد . ومنع بأن هذا إذا كان الرسول حاكماً على المرسل إليهم ومتولياً لأمورهم كالأنبياء المبعوثين إلى أممهم ، أما في مطلق الرسول فلم قلتم إنه كذلك كما لو أرسل الملك عبداً من عبيده إلى وزيره أو إلى ملك آخر .
السادسة : أنهم أتقى من البشر لدوام خوفهم { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] مع وجود شهوة الترفع والرياسة فيهم ولهذا قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } وإن لم يكن لهم شهوة الأكل والوقاع ، فوجب أن يكونوا أفضل { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }
[ الحجرات : 13 ] ورد بأن تقوى الإنسان أكمل فإن لهم مع شهوة الرياسة شهوة البطن والفرج أيضاً .
السابعة : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] خرج الثاني مخرج التأكيد للأول . ومثل هذا إنما يكون بذكر الأفضل بعد الفاضل . كقولك : هذا العالم لا يستنكف عن خدمة الوزير ولا الملك . فيفيد أفضلية الملائكة المقربين في المعاني المصححة للعبودية من نهاية الخضوع والخشوع ما يتبعها مع شدة بطشهم وقوة حالهم . وعورض بأنه قد يقال هذا العالم لا يستنكف عن خدمة القاضي ولا السلطان ، ولا يفيد إلا أن السلطان أكل من القاضي في بعض الأمور كالقوة والقدرة ، ولا يدل على كونه أكمل من القاضي في سائر الدرجات كالعلم والزهد . فلم قلتم : إنهم أفضل من البشر في كثرة الثواب ؟ قلت : والحق أن جميع الدرجات مندرجة تحت العبودية كما أشرنا إليه فيما مر ، فيفيد أفضلية الملائكة . لكن المقربين منهم فقط دون غيرهم ومفضولية المسيح فقط دون غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم .
الثامنة : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } [ الأعراف : 20 ] فهذا وإن كان حكاية قول إبليس ، إلا أن آدم وحواء لو لم يعتقدا أفضلية الملك لم يغترا بذلك واعتقادهما حجة . ورد بأن آدم لعله أخطأ في ذلك الاعتقاد ، إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء ، أو لأنه ما كان نبياً في ذلك الوقت ، وأيضاً هب أنه حجة لكنه قبل الزلة لم يكن نبياً فلا يلزم من مفضوليته وقتئذ مفضوليته وقت نبوته ، وإن سلم مفضوليته ونبوته وقتئذ فلا نسلم أن ذلك في باب الثواب بل في باب القدرة والقوة والحسن والجمال . ونحو ذلك فإنهم خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب ، فاغتر رغبة فيما لهم من هذه الأمور . وأيضاً يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فيصح استدلالكم ، وأن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة الخالدين دونكما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلاناً . ويكون المعنى أن المنهي عنه هو فلان دونك ، فكان غرض إبليس إيهام أنهما لم ينهيا . وأيضاً غاية ما في الباب أن الآية تدل على مفضولية آدم ولا يلزم منه مفضولية جميع الأنبياء كمحمد صلى الله عليه وسلم .
التاسعة : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك } [ هود : 31 ] أي لا أدعي القدرة على كل المقدورات والعلم بكل المعلومات ، ولا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علماً مثل علمهم ، وذلك أنه لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض ، وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات الجسمية والقوى العظيمة . ورد بأنه لا يلزم من عدم الاستواء في كل الصفات حصول الاختلاف في جميعها .
العاشرة : { ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } [ يوسف : 31 ] ولا يخفى أن التشبيه في السيرة من غض البصر وقمع النفس عن المحرمات بدلالة وصفه بالكرم لا في الصورة . ورد بأن قولها { فذلكن الذي لمتني فيه } [ يوسف : 32 ] كالتصريح بأن مراد النساء تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال ، فذلك يظهر عذرها في عشقها . ولئن سلمنا أن التشبيه في الأخلاق المرضية فذلك لا يوجب مفضوليته من جميع الجهات ، على أن قول النساء لا يصلح لأن يكون حجة .
الحادية عشرة : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [ الإسراء : 70 ] وذلك أن المخلوقات إما غير المكلفين والإنسان أفضل منهم ، وإما المكلفون وهم الملائكة والإنس والجن والشياطين . ولا ريب أن الإنس أفضل من الجن والشياطين ، فلو كانوا أفضل من الملك أيضاً لزم كون البشر أفضل من كل المخلوقات ، فينبغي أن يقال : وفضلناهم على جميع من خلقنا . ورد بأن كونه أفضل من كثير لا يدل على أنه ليس بأفضل من الباقي إلا بدليل الخطاب وهو غير حجة . وأيضاً ثبت أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الآخر أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني . وأيضاً الكلام في التفضيل الحاصل بسبب الكرامة المذكورة في أول الآية { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] ولا يلزم من كون الملك أفضل من البشر في تلك الكرامات وهو حسن الصورة والطهارة واستخراج الأعمال العجيبة أن يكونوا أفضل منهم في الأشياء الموجبة للثواب .
الثانية عشرة : الأنبياء ما استغفروا إلا بدؤوا بأنفسهم قال نوح { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً } وقال إبراهيم { رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] ثم قال { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] وقال لمحمد
{ واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ] والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ولكن طلبوا المغفرة للمؤمنين { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } [ غافر : 7 ] ورد بأن هذا لا يدل إلا على صدور الزلة من البشر وعدم صدورها عنهم ، وهذا لا يوجب أفضليتهم في القرب والثواب على الإطلاق ومن الناس من قال : استغفارهم للبشر كالعذر عما طعنوا فيهم بقولهم { أتجعل فيها } [ البقرة : 30 ] .
الثالثة عشرة : { وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 10 ] ويدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، والحافظ للمكلف عن المعصية أفضل من المحفوظ . وأيضاً جعل كتابتهم حجة للبشر وعليهم فيكونون أفضل . ورد بأن الحافظ والشاهد قد يكون أدود حالاً من المحفوظ والمشهود .
الرابعة عشرة : { يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [ النبأ : 38 ] والمقصود بيان عظمة الله وجلاله . ورد بأن هذا يفيد قوتهم وبطشهم فقط كما يقال : إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك الأطراف . وهذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده .
الخامسة عشرة : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ولهذا لما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال عمر بن الخطاب : لو قدمت الإسلام لأجزتك . ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ، وقع التنازع في تقديم الاسم ، وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية . ومنع من أن الواو لا تفيد الترتيب ، وعورض بتقديم { تبت } على " الإخلاص " .
السادسة عشرة : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] جعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وعورض بقوله { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه } [ الأحزاب : 56 ] ولا تشريف بل تتشرف الأمة بذلك .
السابعة عشرة : إن جبرائيل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى وصفه بست من صفات الكمال { إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين } [ التكوير : 19-21 ] ثم وصف محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ] وشتان بين الوصفين . ورد بأنه وإن وصفه ههنا بهذا القدر لاقتضاء المقام ذلك فقط ، فقد وصفه في مواضع أخر بما يليق به { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 45 ، 46 ] .
الثامنة عشرة : إن جبريل كان معلماً للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء ، لا في العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالعقل . كالعلم بذات الله تعالى ، بل في العلم بكيفية مخلوقاته وما فيها من العجائب ، والعلم بأحوال العرش والكرسي والجنة والنار وأطباق السماوات وأصناف الموجودات وأحوال الأمم الخالية والقرون الماضية ، والمعلم أفضل { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] ومنع من كون الملائكة أعلم بدليل قصة آدم ، ولأن تعليم جبريل كان بالحقيقة تعليم الله تعالى ولم يكن جبريل إلا واسطة ، ولئن سلم مزيد علمهم منع كثرة ثوابهم .
التاسعة عشرة : { ومن يقل منهم إني له من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] وهذه تدل على أنهم بلغوا في الترفع إلى حد لو خالفوا أمر الله لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية . ورد بأن مزيد قدرتهم لا يوجب مزيد ثوابهم .
العشرون : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الرب تعالى " إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه " وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف . ورد بعد قبول خبر الواحد أنه لا يلزم منه إلا أن الملأ الأعلى خير من ملأ عوام البشر ، ولا يلزم من ذلك كونهم أفضل من الأنبياء .
واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة عندهم أفضل من الأرواح الناطقة البشرية لوجوه :
الأول : الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة ، والبشر مركب من النفس والبدن ، ولكل منهما قوى وأجزاء ، والبسيط خير من المركب ، لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط . وعورض بأن المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط ، ولهذا جعل أبو البشر مسجوداً للملائكة ، وبأن الملائكة ليس لها إلا الاستغراق في مقاماتها النورية . والنفوس البشرية قواها وافية بكلا الطرفين ، ومحيطة بضبط أحوال العالمين فتكون أفضل .
الثاني : الجواهر الروحانية بريئة عن الشهوة والغضب المستلزمين للفساد وسفك الدماء بخلاف البشر . ورد بأن الخدمة مع كثرة العلائق أدل على الإخلاص . وأيضاً من البين أن درجتهم حين قالوا { لا علم لنا إلا ما علمتنا } أعلى منها حين قالوا
{ أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة ، وهذا في البشر أكثر ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه " أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين " .
الثالث : أنها بريئة من طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكناً لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة " ولا خفاء أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة . ورد بأن بعض الأمور فيها لعلها بالقوة ، ولهذا قيل : إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعلقات من القوة إلى الفعل كالتحريكات العارضة لأرواحنا الحاملة لقوى الفكر والتخيل ، إلا أن هذا المنع لا يجري في الملائكة المقربين المسماة عندهم بالعقول المجردة ، وإنما يجري في النفوس الفلكية .
الرابع : الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن التغير والفناء ، والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك . ورد بأنه لا قديم في الوجود إلا الله . ولئن سلم أنها ممكنة الوجود لذاتها فهي واجبة الوجود بمباديها . وعورض بما عليه كثير من المحققين أن النفوس البشرية أيضاً أزلية بمباديها وكانت كالظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم ، إلا أن المبدئ الأول أمرها بالنزول إلى عالم الأجساد وشبكات المواد ، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها ، فبعث من تلك الظلال أشرفها وأكملها لتخليص تلك الأرواح عن تلك الشبكات ، وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة .
الخامس : الروحانيات نورانية علوية لطيفة ، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة . فأين أحدهما من الآخر ؟ ورد بأن الشرف عندنا ليس بالمادة وإنما هو بالانقياد لرب العالمين .
السادس : الأرواح السماوية تفضل الأرضية بقوى العلم والعمل ، أما الأول فبالاتفاق على إحاطة الأرواح السماوية بالمغيبات ، ولأن علومهم فعلية فطرية كلية دائمة تامة ، وعلوم البشر بالضد من ذلك . وأما العمل فلقوله { يسبحون الليل والنهار لا يفترون }
[ الأنبياء : 20 ] واعترض بأن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع . فلا تكون لذة الملائكة من العلم والعمل كلذة البشر لعروض الفترات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانية والحجب الظلمانية ، فهذه المزية من اللذة مما يختص به البشر ، ولعل هذا هو المراد من قوله { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] الآية . ولذلك قالت الأطباء : إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب . لكن الحرارة في الدق لما دامت واستقرت بطل الشعور بها ، فهذه الحالة ليست للملائكة لأجل الاستمرار ولا لغير الانسان لعدم الاستعداد فكان الإنسان لها بالمرصاد .
السابع : الروحانيات لها قوة على تقليب الأجسام وتصريف الأجرام ، وقواهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب . وإنك ترى الخامة اللطيفة تشق الصخرة الصماء ، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من الجواهر العلوية ، فما ظنك بتلك الجواهر أنفسها والأرواح السفلية ليست كذلك ؟ وما يحكى من قوة الشياطين على الأمور الصعاب ممنوع ، ولئن سلم فالأرواح العلوية أقدر على ذلك مع أنهم يصرفون قواها إلى منازل العالم السفلي لا فيما هو شر لهم . واعترض بأنه لا مانع من أن تتفق نفس ناطقة بشرية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف .
الثامن : الملائكة لهم اختيارات فائضة من أنوار جلال الله متوجهة إلى الخيرات ، واختيارات البشر مترددة بين جهتي العلو والسفل والخير والشر ، وإنما يتوجه إلى الخير بإعانة الملك على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكاً يسدده ويهديه ، ويحتمل أن يقال فتكون إذن أعمالهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
التاسع : الأفلاك كالأبدان ، والكواكب كالقلوب ، والملائكة كالأرواح . فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان . وكما أن اختلافات أحوال الأفلاك مباد لحصول الاختلافات في هذا العالم ، فكل أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي ، بل تكون عللاً ومبادي لها ، فهذه هي الآبار وهناك المنابع والمعادن ، فكيف يليق بالعقل ادعاء المساواة فضلاً عن الزيادة . وأجيب بأنه لا مؤثر عندنا إلا الله تعالى .
العاشر : الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها ، منها نزلت فتوسخت بأوضار الجسمانيات ، ثم تطهرت بالأخلاق الزكية وصعدت إلى عالمها ، ومصدر الشيء ومصعده أشرف ، منه المبدأ وإليه المنتهى . واعترض بأن هذا مبني على عدم حشر الأجساد ودون ذاك خرط القتاد .
الحادي عشر : أليس أن الأنبياء لا ينطقون إلا عن الوحي ؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضايق ويهدونهم إلى المصالح كما في قصة لوط وكيوم بدر وحنين ، وكما في قصة نوح في نجر السفينة ؟ فمن أين لكم تفضيل الأنبياء مع افتقارهم إلى الملائكة في كل الأمور ؟ وأجيب بأن أول الفكر آخر العمل ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليته .
الثاني عشر : القسمة العقلية بأن الأحياء إما خيرة محضة وهم الملائكة ، أو شريرة محضة وهم الشياطين ، أو خيرة من وجه شريرة من وجه آخر وهم البشر ، تحكم بأفضلية الملك . وكذا التقسيم بالناطق المائت وهو الإنسان ، والناطق غير المائت وهو الملك ، والمائت غير الناطق وهي البهائم ، يرشد إلى أن الإنسان متوسط الرتبة بين الكمال والنقصان . فالقول : بأنه أفضل قلب للقسمة العقلية ونزاع في ترتيب الوجود . وأجيب بما مر غير مرة من أن النزاع في كثرة الثواب .
حجة القائلين بفضل الأنبياء على الملائكة ؛ الأول : أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة ، وأمر الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح ، والجواب أن القبح العقلي غير ثابت .
الثاني : جعله خليفة له خلافة الولاية كما مر ، وخلق الدنيا متعة لبقائه ، والآخرة مملكة لجزائه ، ولعن إبليس لسبب التكبر عليه ، وجعل الملائكة حفظة أولاده ومنزلين لأرزاقهم ومستغفرين لزلاتهم ، ومع جميع هذه المناصب يقول " ولدينا مزيد " فإذن لا نهاية لهذا الشرف والكمال .
الثالث : أنه كان أعلم لقوله { أنبئهم بأسمائهم } والأعلم أفضل .
الرابع : { أن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } [ آل عمران : 33 ] والعالم كل ما سوى الله تعالى ، فيلزم اصطفاؤهم على الملائكة . ولا يشكل هذا بقوله { يا بني إسرائيل } إلى قوله { فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 47 ] لأن تلك الآية دخلها التخصيص لما يعلم أنهم غير مفضلين على محمد صلى الله عليه وسلم ، وههنا لا دليل فوجب إجراؤه على الظاهر من العموم .
الخامس : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] والملائكة من العالمين والتقرير ظاهر .
السادس : عبادة البشر أشق لأن الآدمي له شهوة تدعوه إلى المعصية بخلاف الملائكة ، ولأن الآدمي مأمور بالاستنباط والقياس { فاعتبروا يا أولي الأبصار }
[ الحشر : 2 ] ولا يخفى ما فيه من المشقة ، والملائكة لا يعلمون إلا بالنص { لا علم لنا إلا ما علمتنا } ولما يعرض للآدمي من الشبهات ككون الأفلاك والأنجم أسباباً للحوادث اليومية فيحتاجون إلى دفعها ، والملائكة حيث إنهم يشاهدون عالم الملكوت آمنون من ذلك ، ولأن الشيطان مسلط على الآدمي دون الملك ، وإذا كانت طاعتهم أشق فيكون ثوابهم أكثر .
السابع : خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة ، وللبهائم شهوة بلا عقل ، وجمع الأمرين للآدمي . ثم إذا غلب هواه عقله صار أدون من البهيمة أولئك { كالأنعام بل هم أضل }
[ الفرقان : 44 ] . فإذا غلب عقله هواه وجب أن يصير أشرف من الملك اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر .
الثامن : الملائكة حفظة بني آدم والمحفوظ أعز من الحافظ .
التاسع : روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج ، ولما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت .
العاشر : قوله صلى الله عليه وسلم " إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض . أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل ، وأما اللذان في الأرض فابو بكر وعمر " فدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كالملك وجبريل وميكائيل وزيران ، فهذا تمام الكلام في حجج الفريقين ، وعليك الاختيار بعقلك دون هواك . ثم إنه تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين وكان من الجائز أن يظن أن به عذراً بيَّن أنه غير ذي عذر بقوله { أبى } لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار ولهذا فقد العاطف نحو قولك " أبشر بما يسرك عيني تختلج " لا تقول " فعيني " لأنها بيان ، ثم إنه جاز أن لا يكون الإباء مع الكبر فعطف عليه { واستكبر } ليعرف أن الإباء منضم إلى الاستكبار ، وكان من الجائز أن يظن أن كبره لم يوجب الكفر فأزيل الظن بقوله { وكان من الكافرين } .
وللعقلاء ههنا قولان : أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً ، أما عند من يمنع الإحباط فلأن ختمه لما كان على الكفر علم أنه ما كان مؤمناً قط . وأما عند غيرهم فلما حكاه الشهرستاني في أول الملل والنحل عن شارح الأناجيل الأربعة على شبه مناظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس لعنه الله : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر حكيم ، إلا أن لي على مساق حكمه أسئلة ؛ الأول : إنه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني فلم خلقني ؟ وما الحكمة في خلقه إياي ؟ الثاني : إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته ، فلم كلفني بمعرفته وطاعته ؟ وما الحكمة في التكليف مع أنه لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف ؟ الثالث : إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فأطعت وعرفت ، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له ؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي ؟ والرابع : إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذا لم أسجد ، فلم لعنني وأخرجني من الجنة وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له في ذلك ولي فيه أعظم الضرر ؟ والخامس : ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم وبقي خالداً في الجنة ؟ والسادس : إذ خلقني وكلفني عموماً وخصوصاً ولعنني ثم طرقني إلى الجنة ، وكانت الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني ويؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر فيّ حولهم وقوتهم ؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة وأبقاهم على ذلك فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بالحكمة ؟ والسابع : سلمت هذا كله ، فلم إن استمهلته أمهلني ، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني وما بقي شر في العالم ؟ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشر ؟
فقال شارح الإنجيل : فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قولوا له : أما تسليمك الأول أني إلهك وإله الخلق فغير صادق ولا مخلص ، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي وأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسئولون هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل ، وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور وليس يعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق ، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق ، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص ، ولا جواب عنها بالتحقيق إلا الذي ذكره الله تعالى . فاللعين لما أن حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل ، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق ، أو حكم الخالق في الخالق . فالأول غلو كالحلولية وكالغلاة من الشيعة ، والثاني تقصير كالمشبهة وصفوا الخالق بصفات الأجسام ، وكالخوارج نفوا تحكيم الرجال وقالوا : لا حكم إلا لله كقوله { أأسجد لبشر خلقته من صلصال } [ الحجر : 33 ] لا أسجد إلا لك . فالشبهات كلها ناشئة من اللعين ، وتلك في الأول مصدرها ، وهذه في الأخير مظهرها ، ولهذا قال تعالى { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين } [ البقرة : 208 ] وشبه النبي صلى الله عليه وسلم كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال " القدرية مجوس هذه الأمة والمشبهة يهود هذه الأمة ، والرافضة - يعني الغلاة - نصارها " وقال صلى الله عليه وسلم : " لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " القول الثاني أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك ثم اختلفوا . فمن قائل معناه " وكان من الكافرين في علم الله " أي كان الله عالماً في الأزل بأنه سيكفر . فصيغة { كان } متعلقة بالعلم لا بالمعلوم . ومن قائل إن " كان " بمعنى " صار " . وقيل : لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً فبعد لحظة يصدق عليه أنه كان من الكافرين . وإنما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد بدليل قوله { أنا خير منه } [ ص : 76 ] وإلا فمجرد المعصية لا يوجب الكفر عندنا وإن كانت كبيرة ، وكذا عند المعتزلة لأنه وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر . نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة للكفر على الإطلاق . ثم إن قوله { من الكافرين } هل يدل على وجود جمع من الكفرة قبله حتى يكون هو واحداً منهم ؟ قال قوم : إنه يدل على ذلك لأن كلمة { من } للتبعيض . وإنما يذكر البعض الموجود بالإضافة إلى كل موجود لا إلى كل من سيوجد . ومما يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال : إنه تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم { إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] قالوا : لا تفعل ذلك . فبعث الله ناراً فأحرقتهم . وكان إبليس من أولئك . وقال آخرون : معنى الآية إنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك ، لأن الكفر كان ظاهراً عند نزول الآية ، أو لأن الإفراد الذهنية تكفي في صحة الجمع . فإن الحيوان المخلوق أوّلاً يصح أن يقال إنه فرد من أفراد هذا الحيوان أي من أفراد هذه الماهية ، وعلى هذا يكون إبليس أول من سن الكفر وهو قول الأكثرين . واعلم أن الملائكة المأمورين بالسجود هم كل الملائكة عند أكثر الأئمة ، لأن الجمع المعرف للعموم ويؤكده قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون }
[ ص : 73 ] . وأيضاً استثناء الشخص الواحد يدل على أن ما عداه داخل في ذلك الحكم . ومن الناس أنكر ذلك وقال : هم ملائكة الأرض استعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك ، وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية ، واستحالوا انقياد الأرواح السماوية للنفوس الناطقة . وقالوا : المأمورون بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة .