محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

/ { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين 34 } .

{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } لما أنبأهم بأسماء ، وعلمهم ما لم يعلموا ، أمرهم بالسجود له ، على وجه التحية والتكرمة تعظيما له ، واعترافا بفضله ، واعتذارا عما قالوا فيه . وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام { فسجدوا إلا إبليس أبى } أي امتنع عن السجود { واستكبر } أي تكبر وقال : أنا خير منه فالسين للمبالغة { وكان } في سابق علم الله أو صار { من الكفرين } .

" تنبيهات "

الأول : للناس في هذا السجود أقوال : أحدها أنه تكريم لآدم ، وطاعة لله ، ولم يكن عبادة لآدم . وقيل : السجود لله ، وآدم قِبْلة ، أو السجود لآدم تحية ، أو السجود لآدم عبادة بأمر الله ، وفرضه عليهم . ذكر ابن الأنباريّ عن الفرّاءِ وجماعة من الأئمة ، أن سجود الملائكة لآدم ، كان تحية ، ولم يكن عبادة . وكان سجود تعظيم وتسليم وتحية ، لا سجود صلاة وعبادة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال أهل العلم : السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه . وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله . فإن الله تعالى قال { اسجدوا لآدم } ولم يقل : إلى آدم . وكل حرف له معنى . وفرق بين " سجدت له " وبين " سجدت إليه " قال تعالى : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن } {[555]} { ولله يسجدن في السماوات والأرض } {[556]} أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار والأشجار والدواب محرم . وأما الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، ولا يقال صلى لبيت المقدس ، ولا للكعبة . والصواب أن الخضوع بالقلوب ، والاعتراف بالعبودية ، لا يصلى على الإطلاق إلا لله سبحانه . وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر . فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه ، لسجدنا طاعة وإتباعا لأمره . فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة وقربة يتقربون بها إليه . وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم . وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام . ولم يأت أن آدم سجد للملائكة . بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين . وبالجملة ، أهل السنة قالوا : إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له . وقالت المعتزلة : كان آدم كالقبلة يسجد إليه ، ولم يسجدوا له . قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم . فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، وصالح البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم . وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة ، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس { قال أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ لئن أخّرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذريته إلا قليلا } . {[557]}

الثاني : اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود ، فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض . قال تقي الدين بن تيمية : هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى . وقيل : هم جميع الملائكة ، حتى جبريل وميكائيل . وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة . قال ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان ، / لأنه سبحانه قال : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } {[558]} وهذا تأكيد للعموم .

الثالث : للعلماء في إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ قولان : أحدهما أنه كان من الملائكة . قاله ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن المسيّب ، واختاره الشيخ موفق الدين والشيخ أبو الحسن الأشعريّ وأئمة المالكية وابن جرير الطبريّ . قال البغويّ : هذا قول أكثر المفسرين ، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم . قال تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم * فسجدوا إلا إبليس } فلولا أنه من الملائكة ، لما توجه الأمر إليه بالسجود ، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا ، ولما استحق الخزي والنكال . والقول الثاني أنه كان من الجن ، ولم يكن من الملائكة . قاله ابن عباس ، في رواية ، والحسن وقتادة ، واختاره الزمخشري وأبو البقاء العكبريّ والكواشيّ في ( تفسيره ) . لقوله تعالى : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } {[559]} فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، ولا ذرية للملائكة .

قال في ( الكشاف ) : إنما تناوله الأمر ، وهو للملائكة خاصة ، لأن إبليس كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له ، كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع . والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء . وصححه البغويّ . وأجابوا عن قوله تعالى : { إلا إبليس كان من الجن } أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة .

/ قال ابن القيم : الصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله . كان أصله من نار ، وأصل الملائكة من نور . فالنافي كونه من الملائكة ، والمثبت ، لم يتواردا على محل واحد . وكذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في ( الفتاوى المصرية ) : وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار . سموا " جنّاً " ، لاستتارهم عن الأعين ، فإبليس كان منهم . الدليل على ذلك قوله تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } {[560]} وهو قولهم : الملائكة بنات الله . ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية .

سئل الشعبيّ : هل لإبليس زوجة ؟ قال : ذلك عرس لم أشهده ! قال : ثم قرأت هذه الآية ، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة . فقلت : نعم . وقال قوم : ليس له ذرية ولا أولاد ، وذريته أعوانه من الشياطين .

الرابع : في قوله تعالى : { وكان من الكافرين } قولان : أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقا ، والثاني أنه كان مؤمنا ثم كفر ، وهذا قول الأكثرين . فقيل في معنى الآية { وكان من الكافرين } في علم الله ، أي كان عالما في الأزل أنه سيكفر . والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله . أو يقال : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك . واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس ، لعنه الله . فقالت الخوارج : إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر ، وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . وقال آخرون : كفر لأنه خالف بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله . وقال آخرون : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود . ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحا . وقال جمهور الناس : كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن / واعتقد أنه محق في تمرده ، واستدل ب { أنا خير منه } {[561]} كما يأتي . فكأنه ترك السجود لآدم ، تسفيها لأمر الله وحكمته . وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله{[562]} : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) كذا في ( كتاب الاستعاذة ) للإمام مفلح الحنبليّ رحمه الله تعالى .


[555]:[41/فصلت/ 37] ونصها: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون 37}.
[556]:[13/ الرعد/ 15] ونصها: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدوّ والآصال 15}.
[557]:[17/ الإسراء/ 62].
[558]:[15/ الحجر/ 30] و[38/ ص/ 73].
[559]:[18/ الكهف/ 50] ونصها: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا 50}.
[560]:[37/ الصافات/ 158] ونصها: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون 158}.
[561]:[7/ الأعراف/ 12] ونصها: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين 121}.
[562]:أخرجه مسلم في صحيحه: 1 ـ كتاب الإيمان، حديث 147 عن عبد الله بن مسعود( طبعتنا).