قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم } . أي يبست وجفت ، جفاف القلب : خروج الرحمة واللين عنه ، وقيل : غلظت ، وقيل : اسودت .
قوله تعالى : { من بعد ذلك } . من بعد ظهور الدلالات . قال الكلبي : قالوا بعد ذلك : نحن لم نقتله ، فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك .
قوله تعالى : { فهي } . في الغلظة والشدة .
قوله تعالى : { كالحجارة أو أشد قسوة } . قيل : أو بمعنى بل . أو بمعنى الواو ( مائة ألف أو يزيدون ) أي : بل يزيدون أو ويزيدون ، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة ، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار ، وقد لان لداود عليه السلام ، والحجارة لا تلين قط ، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال :
قوله تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } . قيل : أراد به جميع الحجارة ، وقيل : أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط .
قوله تعالى : { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } . أراد به عيوناً دون الأنهار .
قوله تعالى : { وإن منها لما يهبط } . ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله .
قوله تعالى : { من خشية الله } . وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود . فإن قيل : جماد لا يفهم ، فكيف يخشى قيل : الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه . ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى خلق علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ، لا يقف عليه غير الله ، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) وقال ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) وقال : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ) الآية ، فيجبعلى المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى سبحانه وتعالى .
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك ، فقال له جبل حراء : إلي يا رسول الله .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، ثنا السدي أبو الحسين محمد ابن حسن العلوي ، أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري ، أنا محمد ابن إسماعيل الصائغ ، أنا يحيى بن أبي بكر ، أنا إبراهيم بن طهمان ، عن سماك ابن حرب . عن جابر بن سمرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن " هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم ، عن أبي بكر ابن أبي شيبة ، عن يحيى بن أبي بكر . وصح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : " هذا جبل يحبنا و نحبه " .
وروي عن أبي هريرة يقول : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال : بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي ، فركبها فضربها ، فقالت : إنا لم نخلق لهذا ، إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .
وقال : " بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها ، فأدركها صاحبها فاستنفذها ، فقال الذئب : فمن لها يوم السبع أي يوم القيامة ، يوم لا راعي لها غيري فقال الناس : سبحان الله ذئب يتكلم ! فقال : أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .
وصح عن أبي هريرة ، قال : " كان رسول صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اهدأ . أي : اسكن . فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " صحيح أخرجه مسلم . أخبرنا عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع ، أنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن هشام الرازي ، أنا محمد بن أيوب بن ضريس وهو يجلي الرازي ، أنا محمد بن الصباح ، عن الوليد ابن أبي ثور ، عن السدي ، عن عبادة بن أبي يزيد ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر ، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد المجيد بن عبد العزيز ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه ، اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة ، حتى سمعها أهل المسجد ، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت " .
قال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله ، ويشهد لما قلنا قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .
قوله تعالى : { وما الله بغافل } . بساه .
قوله تعالى : { عما تعملون } . وعيد وتهديد ، وقيل : بتارك عقوبة ما تعملون ، بل يجازيكم به ، قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء .
{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } أي : اشتدت وغلظت ، فلم تؤثر فيها الموعظة ، { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات ، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم ، لأن ما شاهدتم ، مما يوجب رقة القلب وانقياده ، ثم وصف قسوتها بأنها { كَالْحِجَارَةِ } التي هي أشد قسوة من الحديد ، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ، ذاب بخلاف الأحجار .
وقوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي : إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار ، وليست " أو " بمعنى " بل " ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ، فقال : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فبهذه الأمور فضلت قلوبكم . ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها ، وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه .
واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله ، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ، ونزلوا عليها الآيات القرآنية ، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله ، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "
والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ، ولا منزلة على كتاب الله ، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها ، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه ، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة ، التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها ، معاني لكتاب الله ، مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد ، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل ، والله الموفق .
{ ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }
يعني بذلك كفار بني إسرائيل ، وهم فيما ذكر بنو أخي المقتول ، فقال لهم : ثم قست قلوبكم : أي جفت وغلظت وعست ، كما قال الراجز :
*** وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَا لِدَاتي
يقال : قسا وعسا وعتا بمعنى واحد ، وذلك إذا جفا وغلظ وصلب ، يقال منه : قسا قلبه يقسو قَسْوا وقسوةً وقساوة وقَسَاءً .
ويعني بقوله : مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي ادّارءوا في قتله . فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الاَثار والأخبار وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحقّ منهم والمبطل . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها أنهم فيما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله ، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته بعد إخباره إياهم بذلك ، وبعد ميتته الثانية . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما ضرب المقتول ببعضها يعني ببعض البقرة جلس حيا ، فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني . ثم قُبض ، فقال بنو أخيه حين قُبض : والله ما قتلناه . فكذّبوا بالحق بعد إذ رأوه ، فقال الله : ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذِلكَ يعني بني أخي الشيخ ، فَهِيَ كالحجارَة أوْ أشَدّ قَسْوَةً .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يقول : من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ، وبعد ما أراهم من أمر القتيل ما أراهم ، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً .
يعني بقوله : فَهِيَ قلوبكم . يقول : ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتم الحقّ فتبينتموه وعرفتموه عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم ، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدّة ، أو أشد صلابة يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حقّ الله عليهم ، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة .
فإن سأل سائل فقال : وما وجه قوله : فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً و( أو ) عند أهل العربية إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك ، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك ؟ قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه ، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عباده الذين هم أصحابها الذين كذّبوا بالحقّ بعد ما رأوا العظيم من آيات الله ، كالحجارة قسوة أو أشدّ من الحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم ، وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالاً :
فقال بعضهم : إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله : فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب«أو » ، كقوله : وأرْسَلْنَاهُ إلى مائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ وكقول الله جل ذكره : وَإِنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فهو عالم أيّ ذلك كان . قالوا : ونظير ذلك قول القائل : أكلت بسرة أو رطبة ، وهو عالم أيّ ذلك أكل ولكنه أبهم على المخاطب ، كما قال أبو الأسود الدؤلي :
أُحِبّ مُحَمّدا حُبّا شَدِيد *** وَعَبّاسا وحَمْزَةَ وَالوَصِيّا
فَإنْ يَكُ حُبّهُمْ رَشَدا أُصِبْه*** وَلَسْتُ بِمُخْطِىءٍ إِنْ كَانَ غَيّا
قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكّا في أن حب من سَمّى رشد ، ولكنه أبهم على من خاطبه به . وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله . ثم انتزع بقول الله عزّ وجلّ وإنّا وإيّاكُمْ لَعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فقال : أو كان شاكّا من أخبر بهذا في الهادي من الضلال ؟
وقال بعضهم : ذلك كقول القائل : ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا ، وقد أطعمه النوعين جميعا . فقالوا : فقائل ذلك لم يكن شاكّا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما ، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين . قالوا : فكذلك قوله : فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً إنما معناه : فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين إما أن تكون مثلاً للحجارة في القسوة ، وإما أن تكون أشدّ منها قسوة . ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشدّ قسوة من الحجارة .
وقال بعضهم : «أو » في قوله : أوْ أشَدّ قَسْوَةً بمعنى : وأشدّ قسوة ، كما قال تبارك وتعالى : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثما أوْ كَفُورا بمعنى : وكفورا . وكما قال جرير بن عطية :
نالَ الخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَرا *** كَما أتى رَبّهُ مُوسَى عَلى قَدَرِ
يعني نال الخلافة وكانت له قدرا . وكما قال النابغة :
قالَتْ ألا لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنا*** إلى حَمامَتِنا أوْ نِصْفُهُ فَقَدِ
وقال آخرون : «أو » في هذا الموضع بمعنى «بل » ، فكان تأويله عندهم فهي كالحجارة بل أشدّ قسوة ، كما قال جل ثناؤه : وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ بمعنى : بل يزيدون .
وقال آخرون : معنى ذلك : فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة عندكم .
قال أبو جعفر : ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب ، غير أن أعجب الأقوال إليّ في ذلك ما قلناه أوّلاً ، ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى : فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشدّ ، على تأويل أن منها كالحجارة ، ومنها أشدّ قسوة لأن «أو » وإن استعملت في أماكن من أماكن الواو حتى يلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن ، فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين ، فتوجيهها إلى أصلها من وجد إلى ذلك سبيلاً أعجب إليّ من إخراجها عن أصلها ومعناها المعروف لها .
قال : وأما الرفع في قوله : أوْ أشَدّ قَسْوَةً فمن وجهين : أحدهما أن يكون عطفا على معنى الكاف التي في قوله : كالحِجارَةِ لأن معناها الرفع ، وذلك أن معناها معنى مثل : فهي مثل الحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة . والوجه الاَخر : أن يكون مرفوعا على معنى تكرير «هي » عليه فيكون تأويل ذلك : فهي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة من الحجارة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ .
يعني بقوله جل ذكره : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار ، فاستغنى بذكر الماء عن ذكر الأنهار ، وإنما ذكّر فقال «منه » للفظ «ما » . والتفجر : التفعل من فجر الماء ، وذلك إذا تنزّل خارجا من منبعه ، وكل سائل شخصَ خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك ، ومنه قوله عمر بن لجأ :
ولَمّا أنْ قُرِبْتُ إلى جَرِيرٍ*** أبَى ذُو بَطْنِهِ إلاّ انْفِجارَا
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ .
يعني بقوله جل ثناؤه وَإنّ مِنَ الحِجَارةِ لحجارة تشقق . وتشققها : تصدّعها . وإنما هي : لِمَا يتشقق ، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة . وقوله : فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ مِنْها لَمَا يَهبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ .
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن من الحجارة لما يهبط : أي يتردّى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته . وقد دللنا على معنى الهبوط فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأدخلت هذه اللامات اللواتي في «ما » توكيدا للخبر . وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به من أن منها المتفجر منه الأنهار ، وأن منها المتشقق بالماء ، وأن منها الهابط من خشية الله بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل مثلاً ، معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب برسله والجحود لاَياته بعد الذي أراهم من الاَيات والعبر وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول ومنّ به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر ، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار ومنه ما يتشقق بالماء ومنه ما يهبط من خشية الله ، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحقّ . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِنْ بَعْدِ ذلكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ قال : كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء ، أو يتردّى من رأس جبل ، فهو من خشية الله عزّ وجل ، نزل بذلك القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَهِيَ كَالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقيّ ابن آدم ، فقال : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ثم عذر الله الحجارة فقال : وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج أنه قال فيها : كل حجر انفجر منه ماء أو تشقق عن ماء أو تردّى من جبل ، فمن خشية الله نزل به القرآن .
ثم اختلف أهل النحو في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله . فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله : تفيؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلّى له ربه . وقال بعضهم : ذلك كان منه ، ويكون بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم ، فعقل طاعة الله فأطاعه كالذي رُوي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فلما تحوّل عنه حنّ . وكالذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّ حَجَرا كانَ يُسَلّمُ عَليّ فِي الجاهِلِيّة إنّي لأَعْرِفُهُ الاَنَ » .
وقال آخرون : بل قوله : يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ كقوله : جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ ولا إرادة له ، قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله ، كما قال زيد الخيل :
بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَرَاتِه*** تَرَى اُلأكْمَ فِيها سُجّدا للْحَوَافِرِ
وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوّا له يريد أنه ذليل :
ساجِدَ المَنْخَرِ لا يَرْفَعُهُ *** خاشِعَ الطّرْفِ أصَمّ المُسْتَمَعْ
لَمَا أتى خَبَرُ الرّسُولِ تَضَعْضَعَتْ *** سُورُ المَدِينَةِ والجِبالُ الخُشّعُ
وقال آخرون : معنى قوله : يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه كما قيل : ناقة تاجرة : إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية :
وأعْوَرُ مِنْ نَبْهانَ أمّا نَهارُهُ *** فأعْمَى وأمّا لَيْلُهُ فَبَصِيرٌ
فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه ، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به .
وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل ، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها . وقد دللنا فيما مضى على معنى الخشية ، وأنها الرهبة والمخافة ، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .
يعني بقوله : وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ وما الله بغافل يا معشر المكذّبين بآياته والجاحدين نبوّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، والمتقوّلين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود ، عما تعملون من أعمالكم الخبيثة وأفعالكم الرديئة ولكنه يحصيها عليكم ، فيجازيكم بها في الاَخرة أو يعاقبكم بها في الدنيا . وأصل الغفلة عن الشيء : تركه على وجه السهو عنه والنسيان له ، فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة ولا ساه عنها ، بل هو لها محص ، ولها حافظ .
{ ثم قست قلوبكم } القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة ، كما في الحجر . وقساوة القلب مثل في نبوه عن الاعتبار ، وثم الاستبعاد القسوة .
{ من بعد ذلك } يعني إحياء القتيل ، أو جميع ما عدد من الآيات فإنها مما توجب لين القلب . { فهي كالحجارة } في قسوتها { أو أشد قسوة } منها ، والمعنى أنها في القساوة مثل الحجارة أو أزيد عليها ، أو أنها مثلها ، أو مثل ما هو أشد منها قسوة كالحديد ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويعضده قراءة الحسن بالجر عطفا على الحجارة ، وأنما لم يقل أقسى لما في أشد من المبالغة ، والدلالة على اشتداد القسوتين واشتمال المفضل على زيادة و{ أو } للتخيير أو للترديد بمعنى : أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها .
{ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله } تعليل للتفضيل ، والمعنى : أن الحجارة تتأثر وتنفعل فإن منها ما يتشقق فينبع منه الماء ، وتنفجر منه الأنهار ، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد الله تعالى به . وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى . والتفجر التفتح بسعة وكثرة ، والخشية مجاز عن الانقياد ، وقرئ { إن } على أنها المخففة من الثقيلة وتلزمها اللام الفارقة بينها وبين إن النافية ، ويهبط بالضم .
{ وما الله بغافل عما تعملون } وعيد على ذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر بالياء ضما إلى ما بعده ، والباقون بالتاء .
{ ثم } هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له { ثم } إذا عَطفت الجمل ، أي ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات فـ { قست قلوبكم } وكان من البعيد قسوتها .
وقوله : { من بعد ذلك } زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي :
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني *** وبعدَ عَطائك المائة الرِّتاعَا
أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ . ووجه استعمال { بعد } في هذا المعنى أنها مجاز في معنى ( مع ) لأن شأن المسبب ، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتاً أو نفياً عُبر ببعد عن معنى ( مع ) مع الإشارة إلى التأخر الرتبي .
والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها . وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازاً وهو الصحيح ، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله : { أو أشد قسوة } كما سيأتي .
وقوله : { فهي حجارة } تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج :
عليهن شعثٌ عامدون لربهم *** فهُنَّ كأطراف الحَنِيِّ خواشع
وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها ، وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه ، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جداً وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذموماً . وقد رأيت بيتاً جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة :
في الريق سُكْر وفي الأَصداغ تجعيد *** هذا المُدَام وهاتيك العناقيد
فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله : تجعيد لا يناسب العناقيد .
فإن قلت لم عددته مذموماً وما هو إلا كتجريد الاستعارة ؟
قلت : لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفنناً لطيفاً بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه .
وقوله : { أو أشد قسوة } مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله : { فهي كالحجارة } و ( أو ) بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة .
وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له ( أو ) لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يُبنى على ذلك ابتداءُ التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة{[141]} :
بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى *** وصورتِها أو أنتِ في العين أَمْلَح
فليست { أو } للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع مَا إذا كُرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى : { أوْ كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] . ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفاً على الخبر الذي هو { كالحجارة } أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافاً ولا يذمهم تحاملاً بل هومتثبت متحر في شأنهم فلا يُثْبِت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تَقَصَّى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسَوِّهم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفاً وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق :
فقالت لنا أهلاً وسهلاً وزوَّدَتْ *** جَنَى النَّحْل بل ما زوّدتْ منه أطيب
ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعاً مغايراً لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تُجْدِ فيها محاولة .
وقوله : { وإن من الحجارة لما يتفجَّر } إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يُستغرب ، وموقع هذه الواو الأولى في قوله : { وإن من الحجارة } عسير فقيل : هي للحال من الحجارة المقدَّرة بعد { أَشَد } أي أشد من الحجارة قسوةً ، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهرُ في هذه الأحوال التي وُصِفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال ، وقيل هي الواو للعطف على قوله : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } قاله التفتزاني ، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخباراً عن مزايا فَضُلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تُعطَّلُ قلوب هؤلاء من صدور النفع بها ، وقيل : الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعدكما صرح به ابن عرفة ، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة { وإن من الحجارة } وما عطف عليها معترضاتٌ بين قوله : { ثم قست قلوبكم } وبين جملة الحال منها وهي قوله : { وما الله بغافر عما تعملون } .
والتوكيد بإنَّ للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يُناكدُ ذلك كما تقدم عند قوله تعالى : { فإن لكم ما سألتم } [ البقرة : 61 ] .
ومن بديع التخلص تأخُّر قوله تعالى : { وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله } والتعبير عن التَسخُّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التلكيفي ليتأتى الانتقال إلى قوله : { وما الله بغافل عما تعملون } وقوله : { أفتطعمون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] .
وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جرياً على قاعدة الجاذبية فإذا أضغط عليه بثقل نفسه مِن تكاثُره أو بضاغطٍ آخر من أهْوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماءُ إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماءُ قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقباً في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعاً كالعيون . وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر ، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة . وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعدَه منفذاً إلى أرض ترابية فيخرج طافياً من سطح الصخور التي جرى فوقها . وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تَطَلَّبَ الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل .
والخشية في الحقيقة الخوفُ الباعث على تقوى الخائف غيرَه . وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال . وجُعلت هنا مجازاً عن قبول الأمر التكويني إما مرسلاً بالإطلاق والتقييد ، وإما تمثيلاً للهيئة عند التكوين بهيئة المكلَّف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها . وقد قيل إن إسناد ( يهبط ) للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها{[142]} .
وقوله : { وما الله بغافل عما تعملون } تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم .
وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف { يعملون } بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غُيّر أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين . وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضاً .