قوله تعالى :{ ومن يعش عن ذكر الرحمن } أي يعرض عن ذكر الرحمن فلم يخف عقابه ، ولم يرج ثوابه ، يقال : عشوت إلى النار أعشو عشواً ، إذا قصدتها مهتدياً بها ، وعشوت عنها : أعرضت عنها ، كما يقال : عدلت إلى فلان ، وعدلت عنه ، وملت إليه ، وملت عنه . قال القرظي : يولي ظهره عن ذكر الرحمن وهو القرآن . قال أبو عبيدة والأخفش : يظلم بصره عنه . قال الخليل بن أحمد : أصل العشو النظر ببصر ضعيف . وقرأ ابن عباس : ومن يعش بفتح الشين أي يعم ، يقال عشي يعشى عشياً إذا عمى فهو أعشى ، وامرأة عشواء . { نقيض له شيطاناً } قرأ يعقوب : { يقيض } بالياء ، والباقون بالنون ، نسبب له شيطاناً لنضمه إليه ونسلطه عليه . { فهو له قرين } لا يفارقه ، يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى .
{ 36-39 } { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }
يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ، لمن أعرض عن ذكره ، فقال : { وَمَنْ يَعْشُ } أي : يعرض ويصد { عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } الذي هو القرآن العظيم ، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده ، فمن قبلها ، فقد قبل خير المواهب ، وفاز بأعظم المطالب والرغائب ، ومن أعرض عنها وردها ، فقد خاب وخسر خسارة لا يسعد بعدها أبدا ، وقيَّض له الرحمن شيطانا مريدا ، يقارنه ويصاحبه ، ويعده ويمنيه ، ويؤزه إلى المعاصي أزا ،
وبعد هذا الحديث الجامع عن هوان شأن الدنيا عند الله - تعالى - ، أتبع - سبحانه - ذلك ببيان حال الذين عن ذكر الله - تعالى - ، وأنهم يوم القيامة لن ينفعهم ندمهم أو تحسرهم ، وسلى النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم . فقال - تعالى - : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } .
وقوله - سبحانه - : { يَعْشُ } أى : يعرض . يقال عشا فلان يعشو ، كدعا يدعو ، وعشى يعشى ، كرضى يرضى ، إذا ضعف بصره ، ومنه قولهم : ناقة عشواء ، إذا كانت لا تبصر إلا شئا قليلا ، والمراد هنا : عمى البصيرة وضعف إدراكها للخير . ومنه قولهم : ركب فلان العشواء ، إذا خبط أمره على غير هدى أو بصيرة .
والمعنى : ومن يتعام عن ذكر الرحمن ، ويعرض عن قرآنه ، ويتجاهل هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } أى ، نهيئ ونسب له شيطانا رجيما يستولى عليه ، ويستخوذ على قلبه وعقله .
{ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أى : فذلك الشيطان يكون ملازما ومصاحبا لهذا الإِنسان الذى أعرض عن القرآن ، ملازمة القرين لقرينه ، والشئ لظله .
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ }
يقول تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ } أي : يتعامى ويتغافل ويعرض ، { عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } والعشا في العين : ضعف بصرها . والمراد هاهنا : عشا البصيرة ، { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } كقوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [ النساء : 115 ] ، وكقوله : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وكقوله : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [ فصلت : 25 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا } . أي : هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ، ويهديه إلى صراط الجحيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمََنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنّهُمْ لَيَصُدّونَهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُم مّهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن يُعْرِض عن ذكر الله فلم يخف سطوته ، ولم يَخْشَ عقابه نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يقول : نجعل له شيطانا يغويه فهو له قرين : يقول : فهو للشيطان قرين ، أي يصير كذلك ، وأصل العشو : النظر بغير ثبت لعلة في العين ، يقال منه : عشا فلان يعشو عشوا وعشوّا : إذا ضعف بصره ، وأظلمت عينه ، كأن عليه غشاوة ، كما قال الشاعر :
مَتى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ *** تَجِدْ حَطَبا جَزْلاً وَنارا تَأَجّجا
يعني : متى تفتقر فتأته يعنك . وأما إذا ذهب البصر ولم يبصر ، فإنه يقال فيه : عَشِيَ فلان يَعْشَى عَشًى منقوص ، ومنه قول الأعشي :
رأتْ رَجُلاً عائِبَ الوَافِدَيْنِ *** مُخْتَلِفَ الخَلْقِ أعْشَى ضَرِيرَا
يقال منه : رجل أعشى وامرأة عشواء . وإنما معنى الكلام : ومن لا ينظر في حجج الله بالإعراض منه عنه إلا نظرا ضعيفا ، كنظر من قد عَشِي بصره نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا يقول : إذا أعرض عن ذكر الله نقيض له شيطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي ، في قوله : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ قال : يعرض .
وقد تأوّله بعضهم بمعنى : ومن يعمَ ، ومن تأوّل ذلك كذلك ، فيجب أن تكون قراءته وَمَنْ يَعْشَ بفتح الشين على ما بيّنت قبل . ذكر من تأوّله كذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ قال : من يعمَ عن ذكر الرحمن .
ابتدئت السورة بالتنويه بالقرآن ووصفِه بأنه ذكر وبيان للنّاس ، ووصف عناد المشركين في الصدّ عنه والإعراض ، وأُعلموا بأن الله لا يتركُ تذكيرهم ومحاجّتهم لأنّ الله يدعو بالحق ويعد به .
وأطنب في وصف تناقض عقائدهم لعلهم يستيقظون من غشاوتهم ، وفي تنبيههم إلى دلائل حقّيّة ما يدعوهم إليه الرّسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن ، وفُضحت شبهاتهم بأنهم لا تعويل لهم إلا على ما كان عليه آباؤهم الأولون الضالّون ، وأنذروا باقتراب انتهاء تمتيعهم وإمهالهم ، وتقضى ذلك بمزيد البيان ، وأفضى الكلام إلى ما قالوه في القرآن ومن جاء به بقوله : { ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر إلى قوله عظيم } [ الزخرف : 30 ، 31 ] ، وما ألحق به من التكملات ، عاد الكلام هنا إلى عواقب صرفهم عقولهم عن التدبر في الدعوة القرآنية فكان انصرافهم سبباً لأن يسخر الله شياطين لهم تلازمهم فلا تزال تصرفهم عن النظر في الحق وأدلة الرشد . وهو تسخير اقتضاه نظام تولد الفروع من أصولها ، فلا يتعجب من عمى بصائرهم عن إدراك الحق البيّن ، وهذا من سنة الوجود في تولد الأشياء من عناصرها فالضلال ينمى ويتولد في النفوس ويتمكن منها مرة بعد مرة حتى يصير طبْعاً على القلب وأكنَّة فيه وختماً عليه ولا يضعُف عمل الشيطان إلا بتكرر الدعوة إلى الحق وبالزجر والإنذار ، فمن زناد التذكير تنقدح شرارات نور فربّما أضاءت فصادفت قوةُ نور الحق حالةَ وهَن الشيطان فتتغلب القوة المَلكية على القوة الشيطانية فيفيق صاحبها من نومة ضلاله . وقد أشار إلى ذلك قوله : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين } [ الزخرف : 5 ] كما تقدم هنالك ، ولولا ذلك لَمَا ارعوى ضالّ عن ضلاله ولمَا نفع إرشاد المرشدين في نفوس المخاطبين .
فجملة { ومن يعش عن ذكر الرحمن } عطف على جملة { ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحرٌ } [ الزخرف : 30 ] الآية .
فجملة { ومن يعش عن ذكر الرحمن } تمثيل لحالهم في إظهارهم عدم فهم القرآن كقولهم : { قلوبنا في أكِنَّةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ } [ فصلت : 5 ] بحال من يَعشو عن الشيء الظاهر للبصر .
و { يَعش } : مضارع عشا كغَزَا عَشْواً بالواو ، إذا نظر إلى الشيء نظراً غير ثابت يُشبه نظر الأعشى ، وأما العَشَا بفتح العين والشين فهو اسم ضُعف العين عن رؤية الأشياء ، يقال : عَشِي بالياء مثل عرِج إذا كانت في بصره آفة العَشَا ومصدره عَشًى بفتح العين والقصر مثل العرج . والفعل واوي عشا يعشو ، ويقال عشِيَ يعشَى إذا صار العَشا له آفة لأن أفعال الأدواء تأتي كثيراً على فَعِل بكسر العين مثل مرِض . وعشِي ياؤه منقلبة عن واو لأجل كسرة صيغة الأدواء .
فمعنى { ومن يعش } من ينظر نظراً غير متمكن في القرآن ، أي من لا حظّ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه ، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل .
وعُدي { يعش } ب { عن } المفيدة للمجاوزة لأنه ضمن معنى الإعراض عن ذكر الرحمان وإلا فإن حقّ عشا أن يعدّى ب ( إلى ) كما قال الحُطَيئَة :
متى تأته تعشه إلى ضوء ناره *** تجد خير نار عندها خيرُ موقد
ولا يقال : عشوت عن النّار إلا بمثل التضمين الذي في هاته الآية . فتفسير من فسّر { يعش عن ذكر الرحمن } بمعنى يُعرض : أراد تحصيل المعنى باعتبار التعدية ب { عن } ، وإنكارُ من أنكر وجود ( عشا ) بمعنى أعرض أراد إنكار أن يكون معنى أصلياً لفعل ( عشَا ) وظن أن تفسيره بالإعراض تفسير لمعنى الفعل وليس تفسيراً للتعدية ب { عن } فالخلاف بين الفريقين لفظي .
و { ذكر الرحمن } هو القرآن المعبر عنه بالذكر في قوله : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً } [ الزخرف : 5 ] . وإضافته إلى { الرحمن } إضافة تشريف وهذا ثناء خامس على القرآن .
والتقييض : الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه ، وهو مشتق من اسم جامد وهو قَيْض البَيضَة ، أي القِشر المحيط بما في داخل البيضة من المُحِّ لأن القيْض يلازم البيضة فلا يفارقها حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما أتيح له القيض .
فصيغة التفعيل للجعل مثل طيَّن الجدَار : ومثل أزره ، أي ألبسه الإزار ، ودرَّعوا الجارية ، أي ألبسوها الدرع . وأصله هنا تشبيه أي نجعله كالقَيض له ، ثم شاع حتى صار معنى مستقلاً ، وقد تقدم في قوله تعالى : { وقيَّضنا لهم قرناء } في سورة فصّلت ( 25 ) فضُمَّ إليه ما هنا . وأتَى الضمير في { له } مفرداً لأن لكل واحد ممن تحقق فيهم الشرط شيطاناً وليس لجميعهم شيطان واحد ولذلك سيجيء في قوله : { قال يا ليت بيني وبينك } [ الزخرف : 38 ] بالإفراد ، أي قال كل من له قرين لقرينه .
ولم يذكر متعلق فعل { نقيّض } اكتفاءً بدلالة مفعوله وهو { شيطاناً } فعُلم منه أنه مقيض لإضلاله ، أي هُمْ أعرضوا عن القرآن لوسوسة الشيطان لهم .
وفُرع عن { نقيض } قوله : { فهو له قرين } لأن التقيض كان لأجل مقارنته .
ومن الفوائد التي جرت في تفسير هذه الآية ما ذكره صاحب « نَيل الابتهاج بتطريز الديباج » في ترجمة الحفيد محمد بن أحمد بن محمد الشهير بابن مرزوق قال : قال صاحب الترجمة : حضرت مجلس شيخنا ابن عرفة أولَ مجلس حضرتُه فقرأ { ومن يعش عن ذكر الرحمن } فقال : قُرِىء { يعشُو } بالرفع و { نُقيض } بالجزم{[375]} . ووجهها أبُو حيان بكلام ما فهمتُه . وذكر أن في النسخة خللاً وذكر بعض ذلك الكلام . فاهتديتُ إلى تمامه وقلت : يا سيدي معنى ما ذكرَ أن جَزم { نُقَيضْ } ب { مَن } الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمَّنها من معنى الشرط وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لا يشبه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظُه لفظَ الشرط أولى بتلك المعاملة . فوافق وفَرح لما أن الإنصاف كان طبعه . وعند ذلك أنكر عليّ جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط فقلت : نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو : الذي يأتيني فله درهم ، فنازعوني في ذلك وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل فقلت : قال ابن مالك فيما يشبه المسألة « وقد يَجزمه مسبب عن صلة الذي تشبيهاً بجواب الشرط وأنشدت من شواهد المسألة قولَ الشاعر :
كذاك الذي يبغي على النّاس ظالماً *** تُصبه على رغمٍ عواقب ما صنع
فجاء الشاهد موافقاً للحال . قال : وكنت في طرف الحَلقة ، فصاح ابن عرفة وقال : يا أخي ما بغينا ، لعلك ابنُ مرزوق ؟ فقلت : عبدكم » انتهى من « اغتنام الفرصة » . اهـ .
وجيء بالجملة المفرعة جملة اسمية للدلالة على الدوام ، أي فكان قريناً مقارنة ثابتة دائمة ، ولذلك لم يقل : نقيّض له شيطاناً قريناً له . وقدم الجار والمجرور على متعلَّقه في قوله : { له قرين } للاهتمام بضمير { من يَعش عن ذكر الرحمن } أي قرين له مقارنةً تامة .
وقرأ الجمهور { نُقيّض } بنون العظمة . وقرأ يعقوب بياء الغائب عائداً ضميره على { الرحمن } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن يعش عن ذكر} يقول: ومن يعم بصره عن ذكر.
{الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} في الدنيا، يقول: صاحب يزين لهم الغي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن يُعْرِض عن ذكر الله فلم يخف سطوته، ولم يَخْشَ عقابه "نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ "يقول: نجعل له شيطانا يغويه فهو له قرين: يقول: فهو للشيطان قرين، أي يصير كذلك، وأصل العشو: النظر بغير ثبت لعلة في العين، يقال منه: عشا فلان يعشو عشوا وعشوّا: إذا ضعف بصره، وأظلمت عينه، كأن عليه غشاوة... وإنما معنى الكلام: ومن لا ينظر في حجج الله بالإعراض منه عنه إلا نظرا ضعيفا، كنظر من قد عَشِي بصره نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نظمه إليه ونسلّطه عليه {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فلا يفارقه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قرىء «ومن يعش» بضم الشين وفتحها. والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عش. وإذا نظر نظر العشى ولا آفة به قيل عشا... ومعنى القراءة بالفتح: ومن يعم {عَن ذِكْرِ الرحمن} وهو القرآن... وأما القراءة بالضم فمعناها: ومن يتعام عن ذكره، أي: يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى... {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} نخذله ونخل بينه وبين الشياطين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومن يقل نظره في شرع الله ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن، أي فيما ذكر به عباده، فالمصدر إلى الفاعل.
{نقيض له شيطاناً} أي نيسر له ونعد، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح، وهذا كما يقال: إن الله يعاقب على المعصية بالتزيد في المعاصي، ويجازي على الحسنة بالتزيد من الحسنات، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: ولكنا لم نجعل ذلك؛ علماً منا بأن الناس كادوا يكونون أمة واحدة وإن كنا نقيض من جبلناه على الخير على الإيمان، لكن ينقصه ما أوتي في الدنيا من خطر في الآخرة؛ لأن من وسع عليه في دنياه، اشتغل في الأغلب عن ذكر الله فنفرت منه الملائكة ولزمته الشياطين، فساقه ذلك إلى كل سوء، ومن يتق الله فيديم ذكره يؤيده بملك فهو له معين، عطف عليه قوله معبراً عن غفلة البصيرة بالعشا الذي هو ضعف البصر تصوراً لمن ينسى ذكر الله بأقبح صورة تنفيراً عن ذلك:
{ومن يعش} أي يفعل فعل المعاشي، وهو من شاء بصره بالليل والنهار،أو عمي على قراءة شاذة وردت عن يعقوب بفتح الشين وركب الأمور متجاوزاً {عن ذكر الرحمن} الذي عمت رحمته، فلا رحمة على أحد إلا وهي منه كما فعل هؤلاء حين متعناهم وآباءهم حيث أبطرهم ذلك، وهو شيء يسير جداً، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشي بصره.
{نقيض} أي نقرر ونسلط ونقدر عقاباً.
{شيطاناً} أي شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً محيطاً به مضيقاً عليه مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل.
{فهو له قرين} مشدود به كما يشد الأسير، ملازم فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى، كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يبشره بكل خير، فذكر الله حصن حصين من الشيطان، متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث قال في القاموس: العشى مقصور: سوء البصر بالليل والنهار أو العمى، عشى كرضى ودعا، والعشوة بالضم والكسر: ركوب الأمر على غير بيان،وقال الرازي في اللوامع: وأصل اللغة أن العين والشين والحرف المعتل يدل على ظلام وقلة وضوح في الشيء.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين} أي ومن يتعام عن ذكر الله وينهمك في لذات الدنيا وشهواتها نسلط عليه شياطين الإنس والجن يزينون له أن يرتع في الشهوات، ويلغ في اللذات، فلا يألو جهدا في ارتكاب الآثام والمحرمات على ما جرت به سنتنا الكونية، كما نسلط الذباب على الأجسام القذرة ونخلق الحيات والعقارب والحشرات في المحال العفنة، لتلطف الجو وترحم الناس والحيوان، وهكذا النفوس الموسوسة للضعفاء توقعهم في الذنوب لاستعدادهم لها فينالون جزاءهم من عقاب الله وعقوبات البشر واحتقارهم لهم، إلى ما ينالهم من الأمراض الفتاكة والأدواء التي لا يجدي فيها علاج، فيكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم وأنى لهم أن تنفعهم تلك الذكرى فقد فات الأوان، ولا ينفع الندم على فائت:...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
العشى: كلال البصر عن الرؤية، وغالباً ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه؛ أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله. وقد يكون ذلك لمرض خاص. والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير...
وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك. واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه، فيلزمه، ويصبح له قرين سوء يوسوس له، ويزين له السوء. وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب، كما قضاه الله في علمه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ومن يعش} من ينظر نظراً غير متمكن في القرآن، أي من لا حظّ له إلا سماع كلمات القرآن دون تدبر وقصد للانتفاع بمعانيه، فشبه سماع القرآن مع عدم الانتفاع به بنظر الناظر دون تأمل...
معنى: {يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ} يعني: يُعرض عنه أو يتعامى ويغفل عنه، ولأنه غفل عن شيء هام لا ينبغي أن يغفل عنه أو يعرض يعاقبه الله {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} نعد له شيطاناً ونهيئ له شيطاناً {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} يعني: ملازم له يضله ويوسوس له.
قلنا: لأن الحق سبحانه الغني عن خَلْقه، وهو ربّ المؤمن وربّ الكافر، لذلك يُعين كلاً على ما يريد، فمَنْ أراد الهداية أعانه عليها وزاده منها، ومَنْ أراد الكفر ختم على قلبه بحيث لا يدخله إيمان ولا يخرج منه الكفر، لذلك أتَى هنا بصفة (الرحمن).
لذلك أكثر ما يجيء الشيطان للإنسان وقت الصلاة ليفسد عليه علاقته بربه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شيء على أساس المعايير المادية، فإن الآيات مورد البحث تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الارتباط بالدنيا والتعلق بها، ألا وهو الابتعاد عن الله سبحانه.
تقول الآية الأولى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين).
نعم، إنّ الغفلة عن ذكر الله، والغرق في لذات الدنيا، والانبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدي إلى تسلط شيطان على الإِنسان يكون قرينه دائماً، ويلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء!
من البديهي أنّه لا مجال لأن يتصور أحد معنى الجبر في هذه الآية؛ لأنّ هذه نتيجة الأعمال التي قام بها هؤلاء أنفسهم، وقد قلنا مراراً: إنّ أولى نتائج أعمال الإِنسان وخاصة الانغماس في ملاذ الدنيا، والتلوث بأنواع المعاصي هو تكوّن حجاب على القلب والسمع والبصر يبعده عن الله سبحانه ويسلط الشياطين عليه، وقد يستمرّ هذا الحال بالنسبة إليه حتى يغلق بوجهه باب الرجوع، لأنّ الشياطين والأفكار الشيطانية تكون حينئذ قد أحاطت به من كل جانب، وهذه نتيجة عمل الإِنسان نفسه، وإن كانت نسبتها إلى الله سبحانه بلحاظ كونه سبب الأسباب صحيحة أيضاً، وهذا هو نفس الشيء الذي عبّر عنه في آيات القرآن الأُخرى بعنوان تزيين الشياطين (فزين لهم الشيطان أعمالهم) أو بعنوان ولاية الشيطان (فهو وليهم اليوم).
وممّا يستحق الانتباه أن جملة (نُقَيِّض) وبالالتفات إلى معناها اللغوي، تدل على استيلاء الشياطين، كما تدل على كونهم أقراناً، وفي الوقت نفسه فقد جاءت جملة: (فهو له قرين) بعدها لتؤكّد هذا المعنى، وهو أنّ الشياطين لا يفارقون مثل هؤلاء الأفراد، ولا يبتعدون عنهم مطلقاً!
والتعبير ب«الرحمن» إشارة لطيفة إلى أنّه كيف يعرض هؤلاء عن الله الذي عمّت رحمته العامّة الجميع وشملتهم، ويغفلون عن ذكره؟ فهل يستحق أمثال هؤلاء غير هذا المصير ويكونون أقراناً للشياطين، يتبعون أوامرهم، وينفذون ما يملون عليهم؟