فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ} (36)

قوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن } يقال : عشوت إلى النار : قصدتها ، وعشوت عنها : أعرضت عنها ، كما تقول : عدلت إلى فلان ، وعدلت عنه ، وملت إليه ، وملت عنه ، كذا قال الفراء ، والزجاج ، وأبو الهيثم ، والأزهري . فالمعنى : ومن يعرض عن ذكر الرحمن . قال الزجاج : معنى الآية أن من أعرض عن القرآن ، وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ، ويلازمه قريناً له ، فلا يهتدى مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين . وقال الخليل : العشو : النظر الضعيف ، ومنه :

لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره *** إذا الريح هبت والمكان جديب

والظاهر أن معنى البيت : القصد إلى النار لا النظر إليها ببصر ضعيف كما قال الخليل ، فيكون دليلاً على ما قدّمنا من أنه يأتي بمعنى : القصد ، وبمعنى : الإعراض ، وهكذا ما أنشده الخليل مستشهداً به على ما قاله من قول الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد خير نار عندها خير موقد

فإن الظاهر أن معناه : تقصد إلى ضوء ناره ، لا تنظر إليها ببصر ضعيف . ويمكن أن يقال : إن المعنى في البيتين : المبالغة في ضوء النار وسطوعها ، بحيث لا ينظرها الناظر إلاّ كما ينظر من هو معشي البصر لما يلحق بصره من الضعف عندما يشاهده من عظم وقودها . وقال أبو عبيدة والأخفش : إن معنى { وَمَن يَعْشُ } ومن تظلم عينه ، وهو نحو قول الخليل ، وهذا على قراءة الجمهور { ومن يعش } بضم الشين من عشا يعشو . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة : { ومن يعش } بفتح الشين ، يقال : عشي الرجل يعشى عشياً : إذا عمى ، ومنه قول الأعشى :

رأت رجلاً غايب الوافدين *** ومختلف الخلق أعشى ضريرا

وقال الجوهري : والعشا مقصور مصدر الأعشى : وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ، والمرأة عشواء . وقرئ " يعشو " بالواو على أن " من " موصولة غير متضمنة معنى الشرط . قرأ الجمهور : { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً } بالنون وقرأ السلمي ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب ، وعصمة عن عاصم ، والأعمش بالتحتية مبنياً للفاعل ، وقرأ ابن عباس بالتحتية مبنياً للمفعول ورفع شيطان على النيابة { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أي : ملازم له لا يفارقه ، أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه ، بل يتبعه في جميع أموره ، ويطيعه في كلّ ما يوسوس به إليه .

/خ45