قوله تعالى : { وأما ثمود فهديناهم } دعوناهم ، . قال مجاهد ، وقال ابن عباس : بينا لهم سبيل الهدى . وقيل : دللناهم على الخير والشر ، كقوله : { هديناه السبيل }( الإنسان-3 ) ، { فاستحبوا العمى على الهدى } فاختاروا الكفر على الإيمان ، { فأخذتهم صاعقة العذاب } أي : مهلكة العذاب ، { الهون } أي : ذي الهوان ، أي : الهوان ، وهو الذي يهينهم ويخزيهم . { بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون }
{ 17 - 18 } { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
وأما ثمود وهم القبيلة المعروفة الذين سكنوا الحجر وحواليه ، الذين أرسل اللّه إليهم صالحًا عليه السلام ، يدعوهم إلى توحيد ربهم ، وينهاهم عن الشرك وآتاهم اللّه الناقة ، آية عظيمة ، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم ، يشربون لبنها يومًا ويشربون من الماء يومًا ، وليسوا ينفقون عليها ، بل تأكل من أرض اللّه ، ولهذا قال هنا : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أي : هداية بيان ، وإنما نص عليهم ، وإن كان جميع الأمم المهلكة ، قد قامت عليهم الحجة ، وحصل لهم البيان ، لأن آية ثمود ، آية باهرة ، قد رآها صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وكانت آية مبصرة ، فلهذا خصهم بزيادة البيان والهدى .
ولكنهم -من ظلمهم وشرهم- استحبوا العمى -الذي هو الكفر والضلال- على الهدى -الذي هو : العلم والإيمان- { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } لا ظلمًا من اللّه لهم .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، حال ثمود وما نزل بهم من عذاب فقال : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ . . . }
أى : وأما قوم ثمود الذين أرسلنا إليهم نبينا صالحا ، فبينا لهم عن طريقه سبيل الرشاد وسبيل الغى ، فالمراد بالهداية هنا : البيان والإرشاد والدلالة على الخير .
{ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } أى فاختاروا الكفر على الإِيمان ، وآثروا الغى على الرشد .
فالمراد بالعمى هنا الكفر والضلال ، والمراد بالهداية الإيمان والطاعة .
{ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أى : فكانت نتيجة إيثارهم الكفر على الإِيمان وتصميمهم على ذلك . . أن أنزلنا عليهم الصاعقة التى أهلكتهم ، والعذاب المبين الذى أبادهم ، بسبب ما اكتسبوه من ذنوب وقبائح .
وقد حكى - سبحانه - ما أنزله بعاد وثمود من عذاب فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة . فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية . وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ . سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } وقد ذكر بعضهم أن الأيام النحسات التى نزل فيها العذاب على قوم عاد ، كانت فى أواخر شهر شوال ، وأن أولها كان فى يوم الأربعاء ، وآخرها - أيضا - كان فى يوم الأربعاء ، ولذا صار بعض الناس يتشاءم من هذا اليوم .
والحق أن ما ذكروه فى هذا الشأن لا دليل عليه ، ولا يلتفت إليه ، وأن ما أصاب هؤلاء إنما كان بشؤم كفرهم ومعاصيهم .
قال بعض العلماء بعد أن ذكر بعض الآثار التى ذكروها فى أن يوم الأربعاء يوم نحس : " فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه ، لأن أغلبها ضعيف ، وما صح معناه منها فالمراد ينحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم " .
وقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } قال ابن عباس ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : بينا لهم{[25653]} .
{ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } أي : بصرناهم ، وبينا لهم ، ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم {[25654]} ، فخالفوه وكذبوه ، وعقروا ناقة الله التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم ، { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } أي : بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : من التكذيب والجحود .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فبيّنا لهم سبيل الحقّ وطريق الرشد ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ : أي بيّنا لهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بيّنا لهم سبيل الخير والشرّ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بيّنا لهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال : أعلمناهم الهدى والضلالة ، ونهيناهم أن يتّبعوا الضلالة ، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ثَمُودُ فقرأته عامة القرّاء من الأمصار غير الأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق برفع ثمود ، وترك إجرائها على أنها اسم للأمة التي تعرف بذلك . وأما الأعمش فإنه ذكر عنه أنه كان يُجزي ذلك في القرآن كله إلا في قوله : وآتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فإنه كان لا يجريه في هذا الموضع خاصة من أجل أنه في خطّ المصحف في هذا الموضع بغير ألف ، وكان يوجه ثمود إلى أنه اسم رجل بعينه معروف ، أو اسم جيل معروف . وأما ابن إسحاق فإنه كان يقرؤه نصبا . وأما ثمود بغير إجراء ، وذلك وإن كان له في العربية وجه معروف ، فإن أفصح منه وأصحّ في الإعراب عند أهل العربية الرفع لطلب أما الأسماء وأن الأفعال لا تليها ، وإنما تعمل العرب الأفعال التي بعد الأسماء فيها إذا حسن تقديمها قبلها والفعل في أما لا يحسن تقديمه قبل الاسم ألا ترى أنه لا يقال : وأما هدينا فثمود ، كما يقال : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع وترك الإجراء أما الرفع فلما وصفت ، وأما ترك الإجراء فلأنه اسم للأمة .
وقوله : فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى يقول : فاختاروا العمى على البيان الذي بيّنت لهم ، والهدى الذي عرفتهم ، بأخذهم طريق الضلال على الهدى ، يعني على البيان الذي بيّنه لهم ، من توحيد الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال : اختاروا الضلالة والعمى على الهدى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال : أرسل الله إليهم الرسل بالهدى فاستحبوا العمى على الهدى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فاسْتَحَبّوا العَمَى يقول : بيّنا لهم ، فاستحبوا العمى على الهدى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى قال : استحبوا الضلالة على الهدى ، وقرأ : وَكذَلكَ زَيّنا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ . . . إلى آخر الاَية ، قال : فزين لثمود عملها القبيح ، وقرأ : أَفَمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَنا فإنّ اللّهَ يُضِلّ مَنْ يَشاءُ . . . إلى آخر الاَية .
وقوله : فَأخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذابِ الهُونِ بِمَا كانُوا يكْسِبُونَ يقول : فأهلكتهم من العذاب المذلّ المهين لهم مُهلكة أذلتهم وأخزتهم والهون : هو الهوان ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ عَذَابِ الهُونِ قال : الهوان .
وقوله : بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ من الاَثام بكفرهم بالله قبل ذلك ، وخلافهم إياه ، وتكذيبهم رسله .
وقرأ جمهور الناس : «ثمودُ » بغير حرف ، وهذا على إرادة القبيلة . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب : «ثمودٌ » بالتنوين والإجراء ، وهذا على إرادة الحي ، وبالصرف كان الأعمش يقرأ في جميع القرآن إلافي قوله : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } [ الإسراء : 59 ] لأنه في المصحف بغير ألف . وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج بخلاف ، والأعمش وعاصم «ثمودَ » بالنصب ، وهذا على إضمار فعل يدل عليه قوله : { فهديناهم } ، وتقديره عند سيبويه : مهما يكن من شيء فهدينا ثمود هديناهم ، والرفع عنده أوجه{[10055]} ، وروي عن ابن أبي إسحاق والأعمش : «ثموداً » منونة منصوبة ، وروى الفضل عن عاصم الوجهين .
وقوله تعالى : { فهديناهم } معناه : بينّا لهم ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد ، وهذا كما هي الآن شريعة الإسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين لنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالصد ، فذلك استحباب العمى على الهدى{[10056]} .
وقوله تعالى : { فاستحبوا } عبارة عن تكسبهم في العمى ، وإلا فهو بالاختراع لله تعالى ، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله تعالى : { بما كانوا يكسبون } .
وقوله تعالى : { العذاب الهون } وصف بالمصدر ، والمعنى الذي معه هوان وإذلال .
بقية التفصيل الذي في قوله : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا } [ فصلت : 15 ] .
ولما كان حال الأمتين واحداً في عدم قبول الإرشاد من جانب الله تعالى كما أشار إليه قوله تعالى : { لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً } [ فصلت : 14 ] كان الإِخبار عن ثمود بأن الله هَداهم مقتضياً أنه هدَى عاداً مثل ما هدى ثمود وأن عاداً استحبوا العَمى على الهدى مثل ما استحبت ثمود . والمعنى : وأما ثمودُ فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض .
فالمراد بالهداية هنا : الإرشاد التكليفي ، وهي غير ما في قوله : { ومن يهد اللَّه فما له من مضل } [ الزمر : 37 ] فإن تلك الهداية التكوينية لمقابلته بقوله : { وَمَن يضْلل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 33 ] .
واستحبوا العمى معناه : أحبّوا ، فالسين والتاء للمبالغة مثلهما في قوله : { فاستكْبُروا في الأرضضِ بغيرِ الحَقِّ } [ فصلت : 15 ] ، أي كان العمى محبوباً لهم . والعمى : هنا مستعار للضلال في الرأي ، أي اختاروا الضلال بكسبهم . وضُمن ( استحبوا ) معنى : فَضَّلوا ، وَهَيَّأ لهذا التضمين اقترانُه بالسين والتاء للمبالغة لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات فلذلك عدّي ( استحبوا ) بحرف { على } ، أي رجحوا باختيارهم . وتعليق { عَلَى الهدى } بفعل ( استحبوا ) لتضمينه معنى : فضّلوا وآثروا .
وفُرع عليه { فَأَخَذَتْهُم صاعقة العَذَابِ الهُونِ } ، وكان العقاب مناسباً للجُرم لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى ، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى ، فكان جزاؤهم بالصاعقة لأنها تُعمِي أبصارهم في حين تهلكهم قال تعالى : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } [ البقرة : 20 ] .
والأخذ : مستعار للإصابة المهلكة لأنها اتصال بالمُهلَك يُزيله من الحياة فكأنه أخذ باليد .
والصاعقة : الصيْحة التي تنشأ في كهربائية السحاب الحامل للماء فتنقدح منها نار تهلك ما تصيبه . وإضافة { صاعقة } إلى { العَذَابِ } للدلالة على أنها صاعقة تُعَرّف بطريق الإضافة إذ لا يُعرِّفَ بها إلا ما تضاف إليه ، أي صاعقة خارقة لمعتاد الصواعق ، فهي صاعقة مسخرة من الله لعذاب ثمود ، فإن أصل معنى الإضافة أنها بتقدير لام الاختصاص فتعريف المضاف لا طريق له إلا بيان اختصاصه بالمضاف إليه .
و { العذاب } هو : الإِهلاك بالصعق ، ووصف ب { الهُونِ } كما وصف العذاب بالخزي في قوله : { لنُذيقَهُم عَذَابَ الْخِزي } [ فصلت : 16 ] ، أي العذاب الذي هو سبب الهُون . و { الهُون } : الهوان وهو الذل ، ووجه كونه هَواناً أنه إهلاك فيه مذلة إذ استُؤْصلوا عن بكرة أبيهم وتُركوا صرعى على وجه الأرض كما بيناه في مهلك عاد . أي أخذتهم الصاعقة بسبب كسبهم في اختيارهم البقاء على الضلال بإعراضهم عن دعوة رسولهم وعن دلالة آياته .
ويعلم من قوله في شأن عاد { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى } [ فصلت : 16 ] أن لثمود عذاباً في الآخرة لأن الأمتين تماثلتا في الكفر فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم . وهذا مُحسِّن الاكتفاء ، وهو محسِّن يرجع إلى الإيجاز .