قوله تعالى : { ثم لآتينهم من بين أيديهم } ، قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : { من بين أيديهم } أي من قبل الآخرة فأشككهم فيها .
قوله تعالى : { ومن خلفهم } ، أرغبهم في دنياهم .
قوله تعالى : { وعن أيمانهم } ، أشبه عليهم أمر دينهم .
قوله تعالى : { وعن شمائلهم } ، أشهي لهم المعاصي ، وروى عطية عن ابن عباس : { من بين أيديهم } من قبل دنياهم ، يعني أزينها في قلوبهم . { ومن خلفهم } ، من قبل الآخرة فأقول : لا بعث ، ولا جنة ، ولا نار ، { وعن أيمانهم } من قبل حسناتهم ، { وعن شمائلهم } من قبل سيئاتهم . وقال الحكم : { من بين أيديهم } : من قبل الدنيا يزينها لهم ، { ومن خلفهم } : من قبل الآخرة يثبطهم عنها ، وعن أيمانهم : من قبل الحق يصدهم عنه ، { وعن شمائلهم } : من قبل الباطل يزينه لهم . وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ، ولا جنة ، ولا نار ، ومن خلفهم : من أمور الدنيا يزينها لهم ، ويدعوهم إليها ، وعن أيمانهم : من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم : زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها ، أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله ، وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم ، من حيث يبصرون ، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون ، وقال ابن جريج : معنى قوله حيث لا يبصرون ، أي لا يخطئون حيث يعلمون أنهم يخطئون ، وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون .
قوله تعالى : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } ، مؤمنين ، فإن قيل : كيف علم الخبيث ذلك ؟ قيل : قاله ظناً فأصاب ، قال الله تعالى { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ :20 ] .
{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي : من جميع الجهات والجوانب ، ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم .
ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم ، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم ، ظن وصدق ظنه فقال : { وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم ، وهو يريد صدهم عنه ، وعدم قيامهم به ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
وإنما نبهنا اللّه على ما قال وعزم على فعله ، لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا ، ونحترز منه بعلمنا ، بالطريق التي يأتي منها ، ومداخله التي ينفذ منها ، فله تعالى علينا بذلك ، أكمل نعمة .
وقوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } زيادة بيان لحرص الشيطان على إضلال بنى آدم بشتى الوسائل ، أى : آتيهم من الجهات الأربع التي اعتاد العدو أن يهاجم عدوه منها ، والمراد : لأسولنّ لهم ولأظلنّهم بحيث لا أفتر عن ذلك ولا أيأس .
وقيل إن معنى { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أى : من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية ، وما هو كذلك فكأنه بين الأيدى . { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أى من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة " وعن أيمانهم وعن شمائلهم " أى : من جهة حسناتهم وسيئاتهم بحيث أزين لهم السيئات وأزهدهم في الحسنات .
وقوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } أى : مطيعين مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله .
وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن كقوله - تعالى - :
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } ولقد وردت آيات كثيرة وأحاديث متعددة في التحذير من الشيطان وكيده ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن سبرة بن الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ؟ قال : فعصاه فأسلم . ثم قعد له بطريق الهجرة أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ؟ قال : فعصاه فأسلم . ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول - أى كالفرس المربوطة بالحبل . قال : فعصاه فهاجر . قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال . فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، قال فعصاه فجاهد : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة " .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائى وغيرهم عن عبد الله بن عمر قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسى . يقول : " اللهم إنى أسألك العفو والعافية في دينى ودنياى وأهلى ومالى . اللهم استر عوراتى وآمن روعاتى اللهم احفظنى من بين يدى ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى ومن فوقى ، وأعوذ بعظمتك ان اغتال من تحتى " .
وقوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ] }{[11601]} قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبَه عليهم أمر دينهم { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي .
وقال [ علي ]{[11602]} بن طلحة - في رواية - والعَوْفي ، كلاهما عن ابن عباس : أما { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فمن قبل دنياهم ، وأما { مِنْ خَلْفِهِمْ } فأمر آخرتهم ، وأما { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } فمن قِبَل حسناتهم ، وأما { عَنْ شَمَائِلِهِمْ } فمن قبل سيئاتهم .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : أتاهم { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فأخبرهم أنه{[11603]} لا بعث ولا جنة ولا نار { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و { عَنْ أَيْمَانِهِم } من قبل حسناتهم بَطَّاهم{[11604]} عنها { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } زين لهم السيئات والمعاصي ، ودعاهم إليها ، وأمرهم بها . آتاك يا ابن آدم من كل وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي ، والحكم بن عتيبة{[11605]} والسدي ، وابن جرير{[11606]} إلا أنهم قالوا : { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآخرة .
وقال مجاهد : " من بين أيديهم وعن أيمانهم " : حيث يبصرون ، " ومن خلفهم وعن شمائلهم " : حيث لا يبصرون .
واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر ، فالخير يصدهم عنه ، والشر يُحببه{[11607]} لهم .
وقال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ } ولم يقل : من فوقهم ؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال : موحدين .
وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم ، وقد وافق في هذا الواقع ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ سبأ : 20 ، 21 ] .
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها ، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا نَصْر بن علي ، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع ، عن يونس بن خَبَّاب ، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم - يعني نافع بن جبير - عن ابن عباس - وحدثنا عمر بن الخطاب - يعني السجستاني - حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ ، عن يونس بن خباب - عن ابن جبير بن مطعم - عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي ، وأهلي ومالي ، اللهم استر عَوْرَتي ، وآمن رَوْعَتِي{[11608]} واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بك{[11609]} اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي " . تفرد به البزار{[11610]} وحسنه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري ، حدثني جُبَير بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي : " اللهم إني أسألك العافية{[11611]} في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن رَوْعاتي ، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فَوْقِي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " . قال وكيع : يعني الخسف .
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حِبَّان ، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم ، به{[11612]} وقال الحاكم : صحيح الإسناد .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى قوله : لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من قِبَل الاَخرة ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قِبَل الدنيا ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ من قِبَل الحق ، وَعَنْ شَمائِلهمْ من قِبَل الباطل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيّنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ يقول : أشككهم في آخرتهم ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ أرغبهم في دنياهم وَعَنْ أيمانِهِمْ أشبه عليهم أمر دينهم ، وَعنْ شَمائِلِهِمْ أشهّي لهم المعاصي .
وقد رُوي عن ابن عباس بهذا الإسناد في تأويل ذلك خلاف هذا التأويل ، وذلك ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ يعني من الدنيا ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من الاَخرة ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ من قِبَل حسناتهم ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قِبَل سيئاتهم . وتحقق هذه الرواية الأخرى التي :
حدثني بها محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفهِم وعن أيمانهم وَعَنْ شَمائِلِهمْ قال : ما بين أيديهم فمن قبلهم أما ومن خلفهم فأمر آخرتهم وأما عن أيمانهم : فمن قِبَل حسناتهم وأما عن شمائلهم : فمن قِبَل سيئاتهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِم . . . الاَية ، أتاهم من بين أيديهم ، فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا ، فزينها لهم ودعاهم إليها وعن أيمانهم : من قِبَل حسناتهم بطّأهم عنها وعن شمائلهم : زيّن لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها ، أتاك يا ابن آدم من كلّ وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وقال آخرون : بل معنى قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من قِبَل دنياهم ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبَل آخرتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ قال : من بين أيديهم من قِبَل دنياهم ومن خلفهم من قِبَل آخرتهم . وَعَنْ أيمانِهِمْ من قِبَل حسناتهم ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ : من قبل سيئاتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحكم : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمَانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قال : من بين أيديهم : من دنياهم ومن خلفهم : من آخرتهم وعن أيمانهم : من حسناتهم وعن شمائلهم : : من قِبَل سيئاتهم .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ قال : من قِبل الدنيا يزينها لهم ومن خلفهم من قِبَل الاَخرة يبطّئهم عنها وعن أيمانهم : من قِبَل الحقّ يصدّهم عنه وعن شمائلهم من قِبَل الباطل يرغبهم فيه ، ويزينه لهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ثُمّ لاََتِيَنّهُم مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أما من بين أيديهم : فالدنيا أدعوهم إليها وأرغبهم فيها ومن خلفهم : فمن الاَخرة أشككهم فيها وأبعّدها عليهم وعن أيمانهم يعني الحقّ فأشككهم فيه وعن شمائلهم : يعني الباطل أخففه عليهم ، وأرغبهم فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من دنياهم أرغبهم فيها ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ آخرتهم أكفرهم بها وأزهدهم فيها ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ حسناتهم أزهدهم فيها ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ مساوىء أعمالهم أحسّنها إليهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قول الله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَعَنْ أيمَانِهِمْ قال : حيث يبصرون ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ حيث لا يبصرون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : تذاكرنا عند مجاهد قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ فقال مجاهد : هو كما قال : يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم . زاد ابن حميد ، قال : يأتيهم من ثَمّ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : قال مجاهد : فذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معناه : ثم لاَتينهم من جميع وجوه الحقّ والباطل ، فأصدّهم عن الحقّ وأحسّن لهم الباطل وذلك أن ذلك عقيب قوله : لأَقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ فأخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرهم الله أن يسلكوه ، وهو ما وصفنا من دين الله الحقّ ، فيأتيهم في ذلك من كلّ وجوهه من الوجه الذي أمرهم الله به ، فيصدّهم عنه ، وذلك من بين أيديهم وعن أيمانهم ، ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه ، فيزينه لهم ويدعوهم إليه ، وذلك من خلفهم وعن شمائلهم . وقيل : ولم يقل : «من فوقهم » لأن رحمة الله تنزل على عباده من فوقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصريّ ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ولم يقل : «من فوقهم » ، لأن الرحمة تنزل من فوقهم .
وأما قوله : ولاَ تَجد أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فإنه يقول : ولا تجد رب أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتك التي أنعمت عليهم كتكرمتك أباهم آدم بما أكرمته به ، من إسجادك له ملائكتك ، وتفضيلك إياه عليّ ، وشكرهم إياه طاعتهم له بالإقرار بتوحيده ، واتباع أمره ونهيه . وكان ابن عباس يقول في ذلك بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ يقول : موحدين .
{ ثم لآتيتنهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم } أي من جميع الجهات الأربع . مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع ، ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش الناس . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ، ومن خلفهم من قبل الدنيا ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم . ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم . وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما موجة إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ، ونظيره قولهم جلست عن يمينه . { ولا تجد أكثرهم شاكرين } مطيعين ، وإنما قاله ظنا لقوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } لما رأى فيهم مبدأ الشر متعددا ومبدأ الخير واحداً ، وقيل سمعه من الملائكة .
هذا توكيد من إبليس في أنه يجد في إغواء بني أدم ، وهذا لم يكن حتى علم إبليس أن الله يجعل في الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات .
قال القاضي أبو محمد : ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا ، فعبر عن ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم ، وفي اللفظ تجوز ، وهذا قول جماعة من المفسرين ، وقال ابن عباس فيما روى عنه : أراد بقوله { من بين أيديهم } الآخرة { ومن خلفهم } الدنيا { وعن أيمانهم } الحق ، { وعن شمائلهم } الباطل ، وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه : { من بين أيديهم } هي الدنيا { ومن خلفهم } هي الآخرة { وعن أيمانهم } الحسنات { وعن شمائلهم } السيئات . وقال مجاهد : من «بين أيديهم وعن أيمانهم » : معناه حيث يبصرون «ومن خلفهم وعن شمائلهم » حيث لا يبصرون .
وقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } أخبر أن سعايته تفعل ذلك ظناً منه وتوهماً في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك ، قال ابن عباس وقتادة : إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل الله له سبيلاً إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه ، وما ظنه إبليس صدقه الله عز وجل . ومنه قوله : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } فجعل أكثر العالم كفرة ، ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : «يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم أخرج بعث النار ، فيقول : يا رب وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة » ونحوه مما يخص أمة محمد عليه السلام : «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود » .
قال القاضي أبو محمد : وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده ، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس ، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء ، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض ، وهذا فيه بعد ، و { شاكرين } معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن ، قاله ابن عباس وغيره .
جملة : { ثم لأتيناهم } ( ثمّ ) فيها للتّرتيب الرّتبي ، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها ، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء ، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل .
وكما ضُرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق ، كذلك مُثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه ، فهو يأتيه من بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته ، فالكلام تمثيل ، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلاّ من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه ، وليست الجهات الأربع المذكوره في الآية بحقيقه ، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم ، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلاّ المهاجمة .
وعُلِّق { بين أيديهم } و { خلفهم } بحرف ( مِن ) وعلّق { أيمانهم } و { شمالهم } بحرف عن جرياً على ما هو شائع في « لسان العرب » في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات ، وأصل ( عن ) في قولهم : عن يمينه وعن شماله المجاوزة : أي من جهة يمينه مجاوِزا له ومجافياً له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( عن ) بمعنى على ، فكما يقولون : جلس على يمينه يقولون : جلس عن يمينه ، وكذلك ( مِن ) في قولهم مِن بين يديه أصلها الابتداء يقال : أتاه من بين يديه ، أي من المكان المواجه له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( من ) بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف فلذلك جُرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل عند ، لأنّ وجود ( مِن ) كالعدم ، وقد قال الحريري في « المقامة النّحويّة » ( مَا منصوبٌ على الظرف لا يَخفِضه سوى حرف : « فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة » .
والأيمان جمع يمين ، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس ، تعارفه النّاس ، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه ، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك . وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى : { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } [ الصافات : 28 ] . وقال امرؤ القيس :
عَلَى قَطَنٍ بالشَّيْمِ أيْمَنُ صَوبه
لذلك قال أيمّة اللّغة سمّيت بلاد اليَمَن يَمَناً لأنّه عن يمين الكعبة ، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبِلٍ مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان ، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة ( يَمِين ) ، ولا أن اليُمْن أصل لها أو فرع عنها ، والأيمان جمع قياسي .
والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالاً لمستقبللِ مشرِق الشّمس ، وهو جمع على غير قياس .
وقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلاّ القليل من النّاس ، وقد عَلِم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات .
وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] ووجهُ هذه الكناية ، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس ، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر ، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أنّ المشركين بالله قد أتَوا أمراً شنيعاً إذ لم يشكروا نعمه الجمّة عليهم .