الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ} (17)

{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم } من الجهات الأربع التي يأتي منها العدوّ في الغالب . وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه ، كقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } [ الإسراء : 64 ] .

فإن قلت : كيف قيل : { مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } بحرف الابتداء { وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ } بحرف المجاوزة ؟ قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به . فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس . وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط ، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله ، قلنا : معنى «على يمينه » أنه تمكن من جهة اليمين تمكُّن المستعلي من المستعلى عليه .

ومعنى «عن يمينه » أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له . ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ، كما ذكرنا في «تعال » . ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس ، وعلى القوس ، ومن القوس ؛ لأن السهم يبعد عنها ، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ، ويبتدئ الرمي منها . كذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه ؛ لأنهما ظرفان للفعل . ومن بين يديه ومن خلفه : لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، كما تقول : جئته من الليل ، تريد بعض الليل ، وعن شقيق : ما من صباح إلاّ قعد لي الشيطان على أربع مراصد : من بين يديّ ، ومن خلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي : أمّا من بين يدي فيقول : لا تخف ، فإن الله غفور رحيم ، فأقرأ : { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صالحا } [ طه : 82 ] وأمّا من خلفي ، فيخوّفني الضيعة على مخلفي فأقرأ : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] وأمّا من قبل يميني ، فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] . { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } قاله تظنيناً ، بدليل قوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] وقيل : سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم .