لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ} (17)

وقوله تعالى إخباراً عن إبليس { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } قال ابن عباس : من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيهم ، ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها ، وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم ، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي . وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم . وقال ابن عباس في رواية عنه : من بين أيديهم يعني من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم ، ومن خلفهم من قبل الآخرة ، فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم ، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يسعى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه . وقال الحكم بن عتبة : من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها . أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى . وقال مجاهد : يأيتهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون ، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون . ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون ، وقيل : من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمالهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه ، وقال شقيق البلخي : ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما بين يدي فيقول : لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ، وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين ، وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون . وقيل إن ذكر هذه الجهات الرضع إنما أريد بها التأكيد والمبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك ، ومعنى الآية على هذا القول : ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات وقوله { ولا تجد أكثرهم شاكرين } يعني ولا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم . وقال ابن عباس : معناه ولا تجد أكثرهم موحدين .

فإن قلت : كيف علم الخبيث إبليس حتى قال ولا تجد أكثرهم شاكرين ؟

قلت : قاله ظناً فأصاب منه قوله تعالى ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل إنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين القبائح وعلم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة وقيل إنه رآه مكتوباً في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين والقطع والله أعلم بمراده .