معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

ثم بين دلائل ربوبيته ، فقال عز من قائل : { الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها } ، يعني : السواري ، واحدها عمود ، مثل : أديم وأدم ، وعمد أيضا جمعه ، مثل : رسول ورسل . ومعناه نفي العمد أصلا ، وهو الأصح ، يعني : ليس من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها . قال إياس بن معاوية : السماء مقببة على الأرض مثل القبة . وقيل : ترونها راجعة إلى العمد ، معناه : لها عمد ولكن لا ترونها . وزعم : أن عمدها جبل قاف ، وهو محيط بالدنيا ، والسماء عليه مثل القبة . { ثم استوى على العرش } ، علا عليه ، { وسخر الشمس والقمر } ، ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران ، { كل يجري } ، أي : يجريان على ما يريد الله عز وجل ، " لأجل مسمى " ، أي : إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا . وقال ابن عباس : أراد بالأجل المسمى درجاتها ومنازلها ينتهيان إليها لا يجاوزانها ، { يدبر الأمر } ، يقضيه وحده ، { يفصل الآيات } ، يبين الدلالات ، { لعلكم بلقاء ربكم توقنون } ، لكي توقنوا بوعده وتصدقوه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

{ 2 - 4 } { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير ، والعظمة والسلطان الدال على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ } على عظمها واتساعها بقدرته العظيمة ، { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي : ليس لها عمد من تحتها ، فإنه لو كان لها عمد ، لرأيتموها { ثُمَّ } بعد ما خلق السماوات والأرض { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } العظيم الذي هو أعلى المخلوقات ، استواء يليق بجلاله ويناسب كماله .

{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم ، { كُلِّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي } بتدبير العزيز العليم ، { لأَجَلٍ مُسَمًّى } بسير منتظم ، لا يفتران ولا ينيان ، حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم ، ونقلهم إلى الدار الآخرة التي هي دار القرار ، فعند ذلك يطوي الله السماوات ويبدلها ، ويغير الأرض ويبدلها . فتكور الشمس والقمر ، ويجمع بينهما فيلقيان في النار ، ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة ؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين .

وقوله { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ } هذا جمع بين الخلق والأمر ، أي : قد استوى الله العظيم على سرير الملك ، يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي ، فيخلق ويرزق ، ويغني ويفقر ، ويرفع أقواما ويضع آخرين ، ويعز ويذل ، ويخفض ويرفع ، ويقيل العثرات ، ويفرج الكربات ، وينفذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه ، وجرى بها قلمه ، ويرسل ملائكته الكرام لتدبير ما جعلهم على تدبيره .

وينزل الكتب الإلهية على رسله ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والأوامر والنواهي ، ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها ، { لَعَلَّكُمْ } بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية والآيات القرآنية ، { بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها ، من أسباب حصول اليقين في جميع الأمور الإلهية ، خصوصا في العقائد الكبار ، كالبعث والنشور والإخراج من القبور .

وأيضا فقد علم أن الله تعالى حكيم لا يخلق الخلق سدى ، ولا يتركهم عبثا ، فكما أنه أرسل رسله وأنزل كتبه لأمر العباد ونهيهم ، فلا بد أن ينقلهم إلى دار يحل فيها جزاؤه ، فيجازي المحسنين بأحسن الجزاء ، ويجازي المسيئين بإساءتهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

ثم أقام - سبحانه - الأدلة المتنوعة ، عن طريق المشاهدة - على كمال قدرته ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له فقال - تعالى - { الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } .

والعمد : جمع عماد ، وهو ما تقام عليه القبة أو البيت .

وجملة { ترونها } في محل نصب حال من السموات .

أى : الله - سبحانه - هو الذي رفع هذه السموات الهائلة في صنعها وفى ضخامتها ، بغير مستند يسندها ، وبغير أعمدة تعتمد عليها ، وأنتم ترون ذلك بأعينكم بجلاء ووضوح .

والمراد بقوله { رفع } أى خلقها مرتفعة منذ البداية ، وليس المراد أنه - سبحانه - رفعها بعد أن كانت منخفضة .

ولا شك أن خلق السموات على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقاً قادراً حكيماً ، هو المستحق للعبادة والطاعة .

وقوله - سبحانه - { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } معطوف على ما قبله ، وهو دليل آخر على قدرة الله - تعالى - عن طريق الغائب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك بعد أن أقام الأدلة على ذلك عن طريق الحاضر المشاهد .

وعرش الله - تعالى - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم - كما يقول الراغب - .

وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية ، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من القرآن الكريم .

والمعنى : ثم استوى على العرش استواء يليق بذاته - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ، لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين .

قال الإِمام مالك - رحمه الله - : " الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " .

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فقال : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } . والتسخير : التذليل والخضوع .

أى : أن من مظاهر فضله أنه - سبحانه - سخر ذلك وأخضع لقدتره الشمس والقمر ، بأن جعلهما طائعين لما أراده منهما من السير في منازل معينة ، ولأجل معين محدد لا يتجاوزانه ولا يتعديانه . بل يقفان عند نهاية المدة التي حددها - سبحانه - لوقوفهما وأفولهما .

قال - تعالى - { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } وتدبير الأمرك تصريفه على أحسن الوجوه وأحكمها وأكملها .

والآيات : جمع آية . والمراد بها هنا : ما يشمل الآيات القرآنية ، والبراهين الكونية الداغلة على وحدانيته وقدرته - سبحانه - .

أى : أنه - سبحانه - يقضى ويقدر ويتصرف في أمر خلقه على أكمل الوجوه وأنه - سبحانه - ينزل آياته القرآنية واضحة مفصلة ، ويسوق الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته بطرق متعددة ، وبوجوه متنوعة .

وقد فعل - سبحانه - ما فعل - من رفعه السماء بلا عمد ، ومن تسخيره للشمس والقمر ، ومن تدبيره لأمور خلقه ، ومن تفصيله للآيات لعكلم عن طريق التأمل والتفكير فيما خلق ، توقنون بلقائه ، وتعتقدون أن من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة ، لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة بعد موتكم ، لكى يحاسبكم على أعمالكم .

وقال - سبحانه - { يدبر } و { يفصل } بصيغة المضارع . وقال قبل ذلك { رَفَعَ السماوات } و { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } بصيغة الماضى . لأن التدبير للأمور ، والتفصيل للآيات ، يتجددان بتجدد تعلق قدرته - سبحانه - بالمقدورات .

وأما رفع السماوات ، وتسخير الشمس والقمر ، فهى أمور قد تمت واستقرت دفعة واحدة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

هذا هو الافتتاح الذي يلخص موضوع السورة كله ، ويشير إلى جملة قضاياها . ومن ثم يبدأ في استعراض آيات القدرة ، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره ، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس ؛ وأن يكون هناك بعث لحساب الناس . وأن من مقتضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم . وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم .

وتبدأ الريشة المعجزة في رسم المشاهد الكونية الضخمة . . لمسة في السماوات ، ولمسة في الأرضين . ولمسات في مشاهد الأرض وكوامن الحياة . .

ثم التعجيب من قوم ينكرون البعث بعد هذه الآيات الضخام ، ويستعجلون عذاب الله ، ويطلبون آية غير هذه الآيات :

( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ، ثم استوى على العرش ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسسمى ، يدبر الأمر ، يفصل الآيات ، لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) .

( وهو الذي مد الأرض ، وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ، يغشي الليل النهار . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .

( وفي الأرض قطع متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل . إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) .

( وإن تعجب فعجب قولهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ? أولئك الذين كفروا بربهم . وأولئك الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وإن ربك لشديد العقاب . ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) .

والسماوات - أيا كان مدلولها وأيا كان ما يدركه الناس من لفظها في شتى العصور - معروضة على الأنظار ، هائلة - ولا شك - حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة . وهي هكذا لا تستند إلى شيء . مرفوعة ( بغير عمد مكشوفة ترونها ) . .

هذه هي اللمسة الأولى في مجالي الكون الهائلة وهي بذاتها اللمسة الأولى للوجدان الإنساني ، وهو يقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه ؛ ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفعها بلا عمد - أو حتى بعمد - إلا الله ؛ وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد تلك البنيان الصغيرة الهزيلة القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه . ثم يتحدث الناس عما في تلك البنيان من عظمة ومن قدرة ومن إتقان ، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد ؛ وعما وراءها من القدرة الحقة والعظمة الحقة ، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان !

ومن هذا المنظور الهائل الذي يراه الناس ، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار : ( ثم استوى على العرش ) . .

فإن كان علو فهذا أعلى . وإن كانت عظمة فهذا أعظم . وهو الاستعلاء المطلق ، يرسمه في صورة على طريقة القرآن في تقريب الأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة .

وهي لمسة أخرى هائلة من لمسات الريشة المعجزة . لمسة في العلو المطلق إلى جانب اللمسة الأولى في العلو المنظور ، تتجاوران وتتسقان في السياق . .

ومن الاستعلاء المطلق إلى التسخير . تسخير الشمس والقمر . تسخير العلو المنظور للناس على ما فيه من عظمة أخاذة ، أخذت بألبابهم في اللمسة الأولى ، ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال .

ونقف لحظة أمام التقابلات المتداخلة في المشهد قبل أن نمضي معه إلى غايته . فإذا نحن أمام ارتفاع في الفضاء المنظور يقابله ارتفاع في الغيب المجهول . وإذا نحن أمام استعلاء يقابله التسخير . وإذا نحن أمام الشمس والقمر يتقابلان في الجنس : نجم وكوكب ، ويتقابلان في الأوان ، بالليل والنهار . .

ثم نمضي مع السياق . . فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير :

( كل يجري لأجل مسمى ) . .

وإلى حدود مرسومة ، ووفق ناموس مقدر . سواء في جريانهما في فلكيهما دورة سنوية ودورة يومية . أو جريانهما في مداريهما لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه . أو جريانهما إلى الأمد المقدر لهما قبل أن يحول هذا الكون المنظور .

( يدبر الأمر ) . .

الأمر كله ، على هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . . والذي يمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لا تتعداه ، لا شك عظيم التدبير جليل التقدير .

ومن تدبيره الأمر أنه ( يفصل الآيات ) وينظمها وينسقها ، ويعرض كلا منها في حينه ، ولعلته ، ولغايته ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) حين ترون الآيات مفصلة منسقة ، ومن ورائها آيات الكون ، تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة ، وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من تدبير وتقدير وإحكام . . ذلك كله يوحي بأن لا بد من عودة إلى الخالق بعد الحياة الدنيا ، لتقدير أعمال البشر ، ومجازاتهم عليها . فذلك من كمال التقدير الذي توحي به حكمة الخلق الأول عن حكمة وتدبير .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

{ الله الذي فع السماوات والأرض بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } .

استئناف ابتدائي هو ابتداء المقصود من السورة وما قبله بمنزلة الديباجة من الخطبة ، ولذا تجد الكلام في هذا الغرض قد طال واطّرد .

ومناسبَة هذا الاستئناف لقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لأن أصل كفرهم بالقرآن ناشىء عن تمسكهم بالكفر وعن تطبعهم بالاستكبار والإعراض عن دعوة الحق .

والافتتاح باسم الجلالة دون الضمير الذي يعود إلى { ربك } [ الرعد : 1 ] لأنه معيّن به لا يشتبه غيره من آلهتهم ليكون الخبر المقصود جارياً على معيّن لا يحتمل غيره إبلاغاً في قطع شائبة الإشراك .

و { الذي رفع } هو الخبر . وجُعل اسم موصول لكون الصلة معلومة الدلالة على أن من تثبت له هو المتوحد بالربوبية إذ لا يستطيع مثل تلك الصلة غير المتوحد ولأنه مسلم له ذلك { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ لقمان : 25 ] .

والسماوات تقدمت مراراً ، وهي الكواكب السيارة وطبقات الجو التي تسبح فيها .

ورفعها : خلقها مرتفعة ، كما يقال : وَسّعْ طوقَ الجُبة وضيّقْ كمها ، لا تريد وسعه بعد أن كان ضيقاً ولا ضيقه بعد أن كان واسعاً وإنما يراد اجْعَلْه واسعاً واجعله ضيقاً ، فليس المراد أنه رفعها بعد أن كانت منخفضة .

والعَمَد : جمع عماد مثل إهاب وأهَب ، والعماد : ما تقام عليه القبة والبيت . وجملة { ترونها } في موضع الحال من { السماوات } ، أي لا شبهة في كونها بغير عمد .

والقول في معنى { ثم استوى على العرش } تقدم في سورة الأعراف وفي سورة يونس .

وكذلك الكلام على { سخر الشمس والقمر } في قوله تعالى : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره في سورة الأعراف ( 54 ) .

والجري : السير السريع . وسير الشمس والقمر والنجوم في مسافات شاسعة ، فهو أسرع التنقلات في بابها وذلك سيرها في مداراتها .

واللام للعلة . والأجل : هو المدة التي قدرها الله لدوام سيرها ، وهي مدة بقاء النظام الشمسي الذي إذا اختل انتثرت العوالم وقامت القيامة .

والمسمّى : أصله المعروف باسمه ، وهو هنا كناية عن المعيّن المحدّد إذ التسمية تستلزم التعيين والتمييز عن الاختلاط .

{ يُدَبَّرُ الامر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } .

جملة { يدبر الأمر } في موضع الحال من اسم الجلالة . وجملة { يفصل الآيات } حال ثانية تُرك عطفها على التي قبلها لتكون على أسلوب التعداد والتوقيف وذلك اهتمام باستقلالها . وتقدم القول على { يدبر الأمر } عند قوله : { ومن يدبر الأمر } في سورة يونس ( 3 ) .

وتفصيل الآيات تقدم عند قوله : { أحكمت آياته ثم فصلت } في طالعة سورة هود ( 1 ) .

ووجه الجمع بينهما هنا أن تدبير الأمر يشمل تقدير الخلق الأول والثاني فهو إشارة إلى التصرف بالتكوين للعقول والعوالم ، وتفصيل الآيات مشير إلى التصرف بإقامة الأدلة والبراهين ، وشأن مجموع الأمرين أن يفيد اهتداء الناس إلى اليقين بأن بعد هذه الحياة حياة أخرى ، لأن النظر بالعقل في المصنوعات وتدبيرها يهدي إلى ذلك ، وتفصيلَ الآيات والأدلة ينبه العقول ويعينها على ذلك الاهتداءِ ويقرّبه .

وهذا قريب من قوله في سورة يونس : { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذّكرون إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً إنه يبدأُ الخلق ثم يعيده } [ يونس : 3 ] . وهذا من إدماج غرض في أثناء غرض آخر لأن الكلام جار على إثبات الوحدانية . وفي أدلة الوحدانية دلالة على البعث أيضاً .

وصيغ { يدبر } و { يفصل } بالمضارع عكس قوله : { الله الذي رفع السماوات } لأن التدبير والتفصيل متجدّد متكرر بتجدد تعلق القدرة بالمقدورات . وأما رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر فقد تم واستقرّ دفعة واحدة .