السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

ولما ذكر تعالى أنّ { أكثر الناس لا يؤمنون } ذكر عقبه ما يدّل على صحة التوحيد والمعاد بأمور أحدها قوله تعالى : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } ، أي : سواري جمع عمود كأدم وأديم أو عماد كأهب وإهاب ، والعمود جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل ، { ترونها } ، أي : وأنتم ترون السماء مرفوعة بغير عمد من تحتها تسندها ولا من فوقها علاقة تمسكها ، فالعمد منفية بالكلية ، قال إياس بن معاوية : السماء مقبية على الأرض مثل القبة ففي ذلك دلالة عظيمة على وحدانية الله تعالى ؛ لأنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي ، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذاتها فهذا برهان باهر على وجود الإله القادر القاهر ، وقيل : الضمير راجع إلى العمد ، أي : أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم ، ومن قال بهذا القول يقول : أن عمدها على جبل قاف وهو جبل من زمرّد محيط بالدنيا والسماء عليه مثل القبة وهذا قول مجاهد وعكرمة ، قال الرازي : وهذا التأويل في غاية السقوط ، لأنّ السماوات لما كانت مستقرّة على جبل قاف فأي دلالة تبقى فيها على وجود الإله .

تنبيه : الله مبتدأ ، والذي رفع السماوات خبره ، ويجوز أن يكون الموصول صفة ، والخبر يدبر الأمر .

ثانيها : قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } بالحفظ والتدبير والقهر والقدرة ، أي : أنّ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وتدبيره وفي الاحتياج إليه وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما فيه كفاية .

وثالثها : قوله تعالى : { وسخر } ، أي : ذلل { الشمس والقمر } لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد { كل } منهما { يجري } في فلكه { لأجل مسمى } ، أي : إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات ، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله { إذا الشمس كورت } [ التكوير ، 1 ] ، { وإذا النجوم انكدرت } [ التكوير ، 2 ] ، { وإذا السماء انشقت } [ الانشقاق ، 1 ] ، { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار ، 1 ] وعن ابن عباس للشمس وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم أنها تعودمرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى ، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً ، فالمراد بقوله تعالى : { كل يجري لأجلٍ مسمى } هذا ، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيراً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك . ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال : { يدبر الأمر } ، أي : يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل ، وتكليف العباد ، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك ؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عز وجل ، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى ، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن ، عن شأن فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، فلا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات .

ولما كان هذا بياناً شافياً لا لبس فيه قال تعالى : { يفصل } ، أي : يبين { الآيات } التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار .

ولما كان هذا التدبير وهذا التفصيل دالاً على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله { لعلكم } يا أهل مكة { بلقاء ربكم } بالبعث { توقنون } فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته ، يروى أنّ واحداً قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة ، فقال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة ، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد ، وإن كان الخلق عاجزين عنه ، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن ، عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن .

تنبيه : اليقين صفة من صفات العلم ، وهي فوق المعرفة والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك .