ولما ذكر تعالى أنّ { أكثر الناس لا يؤمنون } ذكر عقبه ما يدّل على صحة التوحيد والمعاد بأمور أحدها قوله تعالى : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } ، أي : سواري جمع عمود كأدم وأديم أو عماد كأهب وإهاب ، والعمود جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل ، { ترونها } ، أي : وأنتم ترون السماء مرفوعة بغير عمد من تحتها تسندها ولا من فوقها علاقة تمسكها ، فالعمد منفية بالكلية ، قال إياس بن معاوية : السماء مقبية على الأرض مثل القبة ففي ذلك دلالة عظيمة على وحدانية الله تعالى ؛ لأنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي ، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذاتها فهذا برهان باهر على وجود الإله القادر القاهر ، وقيل : الضمير راجع إلى العمد ، أي : أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم ، ومن قال بهذا القول يقول : أن عمدها على جبل قاف وهو جبل من زمرّد محيط بالدنيا والسماء عليه مثل القبة وهذا قول مجاهد وعكرمة ، قال الرازي : وهذا التأويل في غاية السقوط ، لأنّ السماوات لما كانت مستقرّة على جبل قاف فأي دلالة تبقى فيها على وجود الإله .
تنبيه : الله مبتدأ ، والذي رفع السماوات خبره ، ويجوز أن يكون الموصول صفة ، والخبر يدبر الأمر .
ثانيها : قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } بالحفظ والتدبير والقهر والقدرة ، أي : أنّ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وتدبيره وفي الاحتياج إليه وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما فيه كفاية .
وثالثها : قوله تعالى : { وسخر } ، أي : ذلل { الشمس والقمر } لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد { كل } منهما { يجري } في فلكه { لأجل مسمى } ، أي : إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات ، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله { إذا الشمس كورت } [ التكوير ، 1 ] ، { وإذا النجوم انكدرت } [ التكوير ، 2 ] ، { وإذا السماء انشقت } [ الانشقاق ، 1 ] ، { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار ، 1 ] وعن ابن عباس للشمس وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم أنها تعودمرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى ، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً ، فالمراد بقوله تعالى : { كل يجري لأجلٍ مسمى } هذا ، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيراً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك . ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال : { يدبر الأمر } ، أي : يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل ، وتكليف العباد ، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك ؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عز وجل ، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى ، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن ، عن شأن فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، فلا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات .
ولما كان هذا بياناً شافياً لا لبس فيه قال تعالى : { يفصل } ، أي : يبين { الآيات } التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار .
ولما كان هذا التدبير وهذا التفصيل دالاً على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله { لعلكم } يا أهل مكة { بلقاء ربكم } بالبعث { توقنون } فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته ، يروى أنّ واحداً قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة ، فقال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة ، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد ، وإن كان الخلق عاجزين عنه ، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن ، عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن .
تنبيه : اليقين صفة من صفات العلم ، وهي فوق المعرفة والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.