فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

{ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ( 2 ) }

قال الزجاج : لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال :

{ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } العمد الأساطين والدعائم جمع عماد أي على غير قياس والقياس أن يجمع على عمد بضم العين والميم ، وقيل إن عمدا جمع عماد في المعنى أي أنه اسم جمع لا جمع صناعي وهو صادق بأن لا عماد أصلا وهذا هو أصح القولين أي قائمات بغير عمد تعتمد عليها ، وقيل لها عمد ولكن لا نراها ، وهذا قول مجاهد وعكرمة ، قال الزجاج : العمد قدرته التي يمسك بها السماوات وهي غير مرئية لنا ، وقرئ عمد على أنه جمع عمود يعمد به أي يسند إليه .

وجملة { تَرَوْنَهَا } مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك ، وقيل هي صفة لعمد ، وهو أقرب مذكور ورجحه الزمخشري ، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير رفع السموات ترونها بغير عمد ، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف ، قال ابن عباس : وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها وقال يقول لها عمد ، ولكن لا ترونها يعني الأعماد .

قال إياس بن معاوية : السماء مقببة على الأرض مثل القبة ، وبه قال الحسن وقتادة وجمهور المفسرين ، وعن ابن عباس قال : السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك ، قال السمين في هذا الكلام وجهان :

أحدهما : انتفاء العمد والرؤية جميعا أي لا عمد فلا رؤية يعني لا عمد لها فلا ترى ، وإليه ذهب الجمهور .

والثاني : أن لها عمدا ولكن غير مرئية .

{ ثُمَّ } هنا لمجرد العطف لا للترتيب لأن الاستواء عليه غير مرتب على رفع السموات { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق به هذا مذهب السلف ، وقال المعتزلة استولى عليه بالحفظ والتدبير أو استوى أمره وأقبل على خلق العرش ، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى ، والحق أن الاستواء على العرش صفة الله سبحانه بلا كيف كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد فالحركة المستمرة على حد من السرعة تنفع في حدوث الكائنات وبقائها { كُلٌّ } من الشمس والقمر { يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى وقت معلوم معين وهو فناء الدنيا وزوالها وقيام الساعة التي تتكور عندها الشمس وينخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر ، وقيل المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إليها لا يجاوزانها وهي سنة للشمس وشهر للقمر لا يختلف جري واحد منهما قيل وهذا هو الحق في تفسير الآية .

{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } أي أمر العالم العلوي والسفلي يعني يقضيه ويمضيه وحده ، قاله مجاهد ، والمعنى يصرفه على ما يريد وهو أمر ملكوته وربوبيته يدبره على أكمل الأحوال وأتم الأفعال لا يشغله شأن عن شأن ، وقيل يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة ، ولا وجه للتخصيص بشيء دون شيء فإن اللفظ أوسع من ذلك ، قال الكرخي : وحمل التدبير على العموم أولى من حمله على نوع من أحوال العالم كما جرى عليه جمع من المفسرين ، وهذا التدبير والإنفاذ والإمضاء هو من فوق العرش وهو ظاهر نظم القرآن الكريم .

{ يُفَصِّلُ } أي يبين { الآيَاتِ } الدالة على كمال قدرته وربوبيته ومنها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى والمراد بهذا تنبيه العباد على أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة ولهذا قال { لَعَلَّكُم } عند مشاهدة هذه الآيات { بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه .