الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

قوله تعالى : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } : هذا الجارُّ في محل نصبٍ على الحال من " السماوات " ، أي : رَفَعَهَا خاليةً مِنْ عَمَد . ثم في هذا الكلامِ وجهان ، أحدُهما : انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جميعاً ، أي : لا عَمَدَ فلا رؤيةَ ، يعني لا عَمَدَ لها فلا تُرَى . وإليه ذهب الجمهورُ . والثاني : أن لها عَمَدَاً ولكن غيرُ مرئيَّةٍ . وعن ابنِ عباس : " ما يُدْريكَ أنهما بِعَمَدْ لا تُرى ؟ " ، وإليه ذهب مجاهدٌ ، وهذا قريبٌ مِنْ قولهم : ما رأيت رجلاً صالحاً ، ونحوُه : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] [ وقوله : ] .

على لاحِبٍ لا يُهتدى بِمَنارِه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدَّم . هذا إذا قُلْنَا : إنَّ " تَرَوْنها " صفةٌ ، أمَّا إذا قلنا : إنها مستأنفةٌ -كما سيأتي- فيتعيَّن أنْ لا عَمَدَ لها البتةَ .

والعامَّةُ على فتحِ العين والميم وهو اسمُ جمعٍ ، وعبارةُ بعضِهم " إنه جمعٌ " ، نَظَرَ إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان ، أحدهما : أنه عِماد ، ونظيرُه إهاب وأَهَب . والثاني : أنه عمود كأَدِيْم وأَدَم وقضيم وقَضَم ، كذا قال الشيخ : وقال أبو البقاء : " جمع عِماد ، أو عَمود مثل : أَدِيمْ وأَدَم ، وأَفِيْق وأَفَق ، وإِهاب وأَهَب ، ولا خامسَ لها " . قلت : فجعلوا فَعُولاً كفَعِيْل في ذلك ، وفيه نظر ؛ لأنَّ الأوزانَ لها خصوصيةٌ فلا يلزمُ مِنْ جَمْعِ فَعِيل على كذا أن يُجْمع عليه فَعُول ، فكان ينبغي أن يُنَظِّروه بأنَّ فَعُولاً جُمِعَ على فَعَل .

ثم قول أبي البقاء " ولا خامسَ لها " يعني أنه لم يُجْمَعْ على فَعَل إلاَّ هذه الخمسةُ : عِماد ، وعَمُود ، وأَدِيم ، وأَفِيْق ، وإِهاب ، وهذا الحصرُ ممنوعٌ لِما ذكرْتُ لكَ مِنْ نحو : قَضِيم وقَضَم . ويُجْمعان في القِلَّة على " أَعْمِدة " .

وقرأ أبو حَيْوة ويحيى بن وثاب " عُمُد " بضمتين ، ومفرُده يحتمل أن يكونَ عِماداً كشِهاب وشُهُب ، وكِتاب وكُتُب ، وأن يكون عَمُوداً/ كرَسُول ورُسُل ، وقد قرِئ في السبع : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [ الهمزة : 9 ] بالوجهين . وقال ابن عطية في عَمَد : " اسم جمعِ عَمُود ، والبابُ في جمعه " عُمُد " بضم الحروفِ الثلاثة كرَسُوْل ورُسُل " .

قال الشيخ : " وهذا وهمٌ ، وصوابُه بضم الحرفين ؛ لأن الثالث هو حرفُ الإِعراب ، فلا تُعْتبر ضمةً في كيفية الجمع " .

والعِماد والعَمود : ما يُعَمَّد به ، أي : يُسْنَدُ ، يقال : عَمَدْتُ الحائطَ أَعْمِدُه عَمْداً ، أي : أدْعَمْتُه فاعتمد الحائطُ على العِماد . والعَمَدُ : الأساطينُ . قال النابغة :

وخَيَّسَ الجنَّ إني قد أَذِنْتُ لهمْ *** يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ

والعَمْدُ : هو قَصْدُ الشيءِ والاستنادُ إليه ، فهو ضِدُّ السهو ، وعمودُ الصبح : ابتداءُ ضوئِه تشبيهاً بعمود الحديد في الهيئة ، والعُمْدَةُ : ما يُعتمد عليه مِنْ مالٍ وغيرِهِ ، والعَميد : السيِّدُ الذي يَعْمِدُه الناسُ ، أي : يَقْصِدُونه .

قوله : { تَرَوْنَهَا } في الضميرِ المنصوبِ وجهان ، أحدهما : أنه عائدٌ على " عَمَد " وهو أقربُ مذكورٍ ، وحينئذٍ تكون الجملةُ في محل جرٍّ صفةً ل " عَمَد " ، ويجيءُ فيه الاحتمالان المتقدمان : من كونِ العَمَد موجودةً ، لكنها لا تُرى ، أو غيرَ موجودةٍ البتةَ .

والثاني : أن الضميرَ عائدٌ على " السماوات " . ثم في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها كذلك ، ولم يَذْكر الزمخشريُّ غيرَه . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِن " السماوات " ، وتكونُ حالاً مقدرة ؛ لأنها حين رَفْعِها لم نكن مَخْلُوْقِينَ ، والتقدير : رَفَعَها مَرْئيةً لكم .

وقرأ اُبَيٌّ " تَرَوْنَه " مراعاةً للفظ " عَمَدَ " إذ هو اسمُ جمعٍ . وهذه القراؤةُ رجَّح بها الزمخشريُّ كونَ الجملةِ صفةً ل " عَمَد " .

وزعم بعضُهم أنَّ " تَرَوْنَها " خبرٌ لفظاً ، ومعناه الأمر ، أي : رَوْها وانظروا إليها لتعتبروا بها . وهو بعيدٌ ، ويتعيَّنُ على هذا أن تكونَ مستأنفةً ؛ لأنَّ الطلبَ لا يقع صفةً ولا حالاً .

و " ثم " في " ثم استوى " لمجردِ العطفِ لا للترتيب ؛ لأنَّ الاستواءَ على العرش غيرُ مرتَّبٍ على رَفْع السماوات .

قوله : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ } قرأ العامَّةُ هذين الحرفين بالياء مِنْ تحتُ جَرْياً على ضميرِ اسمِ الله تعالى ، وفيهما وجهان ، أحدُهما -وهو الظاهر- : أنهما مستأنفان للإِخبارِ بذلك . والثاني : أن الأولَ حالٌ مِنْ فاعلِ " سَخَّر " ، والثاني حالٌ مِنْ فاعل " يُدَبِّر " .

وقرأ النخعي وأبان بن تغلب : " نُدَبِّرُ الأمرَ ، نُفَصِّل " بالنون فيهما ، والحسنُ والأعمشُ " نُفَصِّل " بالنون ، " يُدَبِّر " بالياء . قال المهدوي : " لم يُخْتَلَفْ في " يُدَبِّر " ، يعني أنه بالياء ، وليس كما ذَكَر لِما قدَّمْتُه عن النخعيِّ وأبان بن تغلب .