قوله تعالى : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } : هذا الجارُّ في محل نصبٍ على الحال من " السماوات " ، أي : رَفَعَهَا خاليةً مِنْ عَمَد . ثم في هذا الكلامِ وجهان ، أحدُهما : انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جميعاً ، أي : لا عَمَدَ فلا رؤيةَ ، يعني لا عَمَدَ لها فلا تُرَى . وإليه ذهب الجمهورُ . والثاني : أن لها عَمَدَاً ولكن غيرُ مرئيَّةٍ . وعن ابنِ عباس : " ما يُدْريكَ أنهما بِعَمَدْ لا تُرى ؟ " ، وإليه ذهب مجاهدٌ ، وهذا قريبٌ مِنْ قولهم : ما رأيت رجلاً صالحاً ، ونحوُه : { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] [ وقوله : ] .
على لاحِبٍ لا يُهتدى بِمَنارِه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم . هذا إذا قُلْنَا : إنَّ " تَرَوْنها " صفةٌ ، أمَّا إذا قلنا : إنها مستأنفةٌ -كما سيأتي- فيتعيَّن أنْ لا عَمَدَ لها البتةَ .
والعامَّةُ على فتحِ العين والميم وهو اسمُ جمعٍ ، وعبارةُ بعضِهم " إنه جمعٌ " ، نَظَرَ إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان ، أحدهما : أنه عِماد ، ونظيرُه إهاب وأَهَب . والثاني : أنه عمود كأَدِيْم وأَدَم وقضيم وقَضَم ، كذا قال الشيخ : وقال أبو البقاء : " جمع عِماد ، أو عَمود مثل : أَدِيمْ وأَدَم ، وأَفِيْق وأَفَق ، وإِهاب وأَهَب ، ولا خامسَ لها " . قلت : فجعلوا فَعُولاً كفَعِيْل في ذلك ، وفيه نظر ؛ لأنَّ الأوزانَ لها خصوصيةٌ فلا يلزمُ مِنْ جَمْعِ فَعِيل على كذا أن يُجْمع عليه فَعُول ، فكان ينبغي أن يُنَظِّروه بأنَّ فَعُولاً جُمِعَ على فَعَل .
ثم قول أبي البقاء " ولا خامسَ لها " يعني أنه لم يُجْمَعْ على فَعَل إلاَّ هذه الخمسةُ : عِماد ، وعَمُود ، وأَدِيم ، وأَفِيْق ، وإِهاب ، وهذا الحصرُ ممنوعٌ لِما ذكرْتُ لكَ مِنْ نحو : قَضِيم وقَضَم . ويُجْمعان في القِلَّة على " أَعْمِدة " .
وقرأ أبو حَيْوة ويحيى بن وثاب " عُمُد " بضمتين ، ومفرُده يحتمل أن يكونَ عِماداً كشِهاب وشُهُب ، وكِتاب وكُتُب ، وأن يكون عَمُوداً/ كرَسُول ورُسُل ، وقد قرِئ في السبع : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [ الهمزة : 9 ] بالوجهين . وقال ابن عطية في عَمَد : " اسم جمعِ عَمُود ، والبابُ في جمعه " عُمُد " بضم الحروفِ الثلاثة كرَسُوْل ورُسُل " .
قال الشيخ : " وهذا وهمٌ ، وصوابُه بضم الحرفين ؛ لأن الثالث هو حرفُ الإِعراب ، فلا تُعْتبر ضمةً في كيفية الجمع " .
والعِماد والعَمود : ما يُعَمَّد به ، أي : يُسْنَدُ ، يقال : عَمَدْتُ الحائطَ أَعْمِدُه عَمْداً ، أي : أدْعَمْتُه فاعتمد الحائطُ على العِماد . والعَمَدُ : الأساطينُ . قال النابغة :
وخَيَّسَ الجنَّ إني قد أَذِنْتُ لهمْ *** يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ
والعَمْدُ : هو قَصْدُ الشيءِ والاستنادُ إليه ، فهو ضِدُّ السهو ، وعمودُ الصبح : ابتداءُ ضوئِه تشبيهاً بعمود الحديد في الهيئة ، والعُمْدَةُ : ما يُعتمد عليه مِنْ مالٍ وغيرِهِ ، والعَميد : السيِّدُ الذي يَعْمِدُه الناسُ ، أي : يَقْصِدُونه .
قوله : { تَرَوْنَهَا } في الضميرِ المنصوبِ وجهان ، أحدهما : أنه عائدٌ على " عَمَد " وهو أقربُ مذكورٍ ، وحينئذٍ تكون الجملةُ في محل جرٍّ صفةً ل " عَمَد " ، ويجيءُ فيه الاحتمالان المتقدمان : من كونِ العَمَد موجودةً ، لكنها لا تُرى ، أو غيرَ موجودةٍ البتةَ .
والثاني : أن الضميرَ عائدٌ على " السماوات " . ثم في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها كذلك ، ولم يَذْكر الزمخشريُّ غيرَه . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِن " السماوات " ، وتكونُ حالاً مقدرة ؛ لأنها حين رَفْعِها لم نكن مَخْلُوْقِينَ ، والتقدير : رَفَعَها مَرْئيةً لكم .
وقرأ اُبَيٌّ " تَرَوْنَه " مراعاةً للفظ " عَمَدَ " إذ هو اسمُ جمعٍ . وهذه القراؤةُ رجَّح بها الزمخشريُّ كونَ الجملةِ صفةً ل " عَمَد " .
وزعم بعضُهم أنَّ " تَرَوْنَها " خبرٌ لفظاً ، ومعناه الأمر ، أي : رَوْها وانظروا إليها لتعتبروا بها . وهو بعيدٌ ، ويتعيَّنُ على هذا أن تكونَ مستأنفةً ؛ لأنَّ الطلبَ لا يقع صفةً ولا حالاً .
و " ثم " في " ثم استوى " لمجردِ العطفِ لا للترتيب ؛ لأنَّ الاستواءَ على العرش غيرُ مرتَّبٍ على رَفْع السماوات .
قوله : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ } قرأ العامَّةُ هذين الحرفين بالياء مِنْ تحتُ جَرْياً على ضميرِ اسمِ الله تعالى ، وفيهما وجهان ، أحدُهما -وهو الظاهر- : أنهما مستأنفان للإِخبارِ بذلك . والثاني : أن الأولَ حالٌ مِنْ فاعلِ " سَخَّر " ، والثاني حالٌ مِنْ فاعل " يُدَبِّر " .
وقرأ النخعي وأبان بن تغلب : " نُدَبِّرُ الأمرَ ، نُفَصِّل " بالنون فيهما ، والحسنُ والأعمشُ " نُفَصِّل " بالنون ، " يُدَبِّر " بالياء . قال المهدوي : " لم يُخْتَلَفْ في " يُدَبِّر " ، يعني أنه بالياء ، وليس كما ذَكَر لِما قدَّمْتُه عن النخعيِّ وأبان بن تغلب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.