قوله تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } ، قال ابن عباس : هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده : لعنكم الله ، ولا بارك الله فيكم . قال قتادة : هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب . معناه : لو يعجل الله الناس إجابة دعائهم في الشر والمكروه استعجالهم بالخير ، أي : كما يحبون استعجالهم بالخير ، { لقضي إليهم أجلهم } ، قرأ ابن عامر ويعقوب : " لقضي " بفتح القاف والضاد ، { أجلهم } نصب ، أي : لأهلك من دعا عليه وأماته . وقال الآخرون : { لقضي } بضم القاف وكسر الضاد { أجلهم } رفع ، أي : لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعا . وقيل : إنها نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية [ الأنفال-32 ] يدل عليه قوله عز وجل : { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } ، لا يخافون البعث والحساب ، { في طغيانهم يعمهون } . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الزيادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فإنما أنا بشر فيصدر مني ما يصدر من البشر فأي المؤمنين آذيته ، أو شتمته ، أو جلدته ، أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة ، تقربه بها إليك يوم القيامة " .
{ 11 } { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
وهذا من لطفه وإحسانه بعباده ، أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه ، وبادرهم بالعقوبة على ذلك ، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لمحقتهم العقوبة ، ولكنه تعالى يمهلهم ولا يهملهم ، ويعفو عن كثير من حقوقه ، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة .
ويدخل في هذا ، أن العبد إذا غضب على أولاده أو أهله أو ماله ، ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت منه لهلكوا ، ولأضره ذلك غاية الضرر ، ولكنه تعالى حليم حكيم .
وقوله : { فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي : لا يؤمنون بالآخرة ، فلذلك لا يستعدون لها ، ولا يعلمون ما ينجيهم من عذاب الله ، { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي : باطلهم ، الذي جاوزوا به الحق والحد .
{ يَعْمَهُونَ } يترددون حائرين ، لا يهتدون السبيل ، ولا يوفقون لأقوم دليل ، وذلك عقوبة لهم {[392]} ، على ظلمهم ، وكفرهم بآيات الله .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر لطفه ورحمته بالناس ، وما جبلوا عليه من صفات وطبائع فقال - تعالى - :
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر . . . } .
قال صاحب المنار : " هاتان الآيتان في بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر ، ونفع وضر ، وشعورهم بالحاجة إلى الله - تعالى - واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها ، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين ، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث ، متمم لما قبله ، ولذلك عطف عليه .
وقوله : { يعجل } من التعجيل بمعنى طلب الشيء قبل وقته المحدد له والاستعجال : طلب التعجيل بالشيء .
والأجل : الوقت المحدد لانقضاء المدة . وأجل الإِنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره .
والمراد بالناس هنا - عند عدد من المفسرين - : المشركون الذي وصفهم الله - تعالى - قبل ذلك بأنهم لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها .
ولقد حكى القرآن في كثير من آياته ، أن المشركين قد استعجلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نزول العذاب ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وقوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والمعنى : ولو يعجل الله - تعالى - لهؤلاء المشركين العقوبة التي طلبوها ، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لأميتوا وأهلكوا جميعاً ، ولكن الله - تعالى - الرحيم بخلقه ، الحكيم في أفعاله ، لا يعجل لهم العقوبة اليت طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها ؛ فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل في الإِسلام ، ويتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال الإِمام الرازي : " فقد بين - سبحانه - في هذه الآية : أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم ، لأنه - تعالى - " لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا ، ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك ، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمناً ، وذلك يقتضي أن يعاجلهم بإيصال ذلك الشر " .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم ، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم .
ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه في تفسيرهم الإِمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يخبر - تعالى - عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم ، أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء ، ولهذا قال : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ .
. . } أي لو استجاب لهم جميع ما دعوه به في ذلك لأهلكهم .
ثم قال : ولكن لا ينبغي الإِكثار من ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم " .
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو قول الإِنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنة ، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم .
أما الإِمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين ، ورجح الأول منهما فقال : " قوله : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر . . . } وهم الذين لا يرجون لقاء الله - تعالى - المذكورون في قوله { الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا . . . } والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء . . . " وأخرج ابن جرير عن قتادة : أنه قال : " هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره ، أن يستجاب له ، وفيه حمل الناس على العموم ، والمختار الأول ، ويؤيده ما قيل : من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والذى يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى ، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا ، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك ، وحتى لو صح ما قيل أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وقوله { استعجالهم بالخير } منصوب على المصدرية ، والأصل : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، فحذف تعجيلا وصفته المضافة ، وأقيم المضاف إليه مقامها .
ثم بين - سبحانه - ما يشير إلى الحكمة في عدم تعجيل العقوبة فقال : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
والطغيان : مجاوزة الحد في كل شيء ، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده .
ويعمهون : من العمه ، يقال : عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه .
أي : لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات ، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم القيامة ، على سبيل الإِمهال والاستدراج في الدنيا في طغيانهم يتحيرون ويترددون ، بحيث تلتبس عليهم الأمور فلا يعرفون الخير من الشر .
بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول اللّه [ ص ] وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به ؛ ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من اللّه ورحمة . ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلا ، فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها . فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة . ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم ؛ ويلوح لهم بمثل هذا المصير ؛ ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء . .
( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون . وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون . ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ، لننظر كيف تعملون ) .
ولقد كان المشركون العرب يتحدون رسول الله [ ص ] أن يعجل لهم العذاب . . ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) . وورد في غيرها : ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات )كما حكى القرآن الكريم قولهم : ( وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) . .
وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله . . وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم ، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعهم بالمكذبين قبلهم . فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين ، فيقوم عليها ، وينطلق في الأرض بها . وكان ذلك بعد فتح مكة ، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة !
غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي . لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر !
والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى : إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله ، استعجالهم بالخير الذي يطلبونه . . لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم ، وعجل بأجلهم ! ولكنه يستبقيهم لما أجلهم له . . ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما وراءه . فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون ، حتى يأتيهم الأجل المرسوم .
هذه الآية قال مجاهد نزلت في دعاء الرجل على نفسه أو ماله أو ولده ونحو هذا ، فأخبر الله تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم ، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر ، تقديرها ولا يفعل ذلك ولكن يذر الذين لا يرجون فاقتضب القول وتوصّل إلى هذا المعنى بقوله { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } فتأمل هذا التقدير تجده صحيحاً ، و { استعجالهم } نصب على المصدر ، والتقدير مثل استعجالهم ، وقيل : التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم ، وهذا قريب من الأول ، وقيل إن هذه الآية نزلت في قوله { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء }{[6035]} وقيل نزلت في قوله { آتنا بما تعدنا }{[6036]} وما جرى مجراه ، وقرأ جمهور القراء «لقُضي » على بناء الفعل للفاعل ورفع «الأجلُ » وقرأ ابن عامر وحده{[6037]} وعوف وعيسى بن عمر ويعقوب ، «لقضى » على بناء الفعل للفاعل ونصب «الأجلَ » ، وقرأ الأعمش : «لقضينا » ، و «الأجل » في هذا الموضع أجل الموت ، ومعنى قضى في هذه الآية أكمل وفرغ ، ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
وعليهما مسرودتان قضاهما*** داودُ أوْ صَنَعُ السوابغِ تبع{[6038]}
وأنشد أبو علي في هذا المعنى : [ الطويل ]
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها*** فوائح في أكمامها لم تفتق{[6039]}
وتعدّى «قضى » في هذه الآية ب «إلى » لما كان بمعنى فرغ ، وفرغ يتعدى بإلى ويتعدى باللام ، فمن ذلك قول جرير :
ألانَ فقد فرغت إلى نُمَير*** فصرت على جماعتها عذابا{[6040]}
ومن الآخر قوله عز وجل { سنفرغ لكم أيه الثقلان }{[6041]} وقرأ الأعمش{[6042]} : «فنذر الذين لا يرجون لقاءنا » ، و { يرجون } في هذا الموضع على بابها والمراد الذين لا يؤمنون بالبعث فهم لا يرجون لقاء الله ، والرجاء مقترن أبداً بخوف ، «والطغيان » الغلو في الأمر وتجاوز الحد ، و «العمه » الخبط في ضلال ، فهذه الآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في الناس ، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة فيحملهم أحياناً سوء الخلق على الدعاء في الشر ، فلو عجل لهم لهلكوا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير}... يقول الله: ولو استجيب لهم في الشر، كما يحبون أن يستجاب لهم في الخير، {لقضي إليهم أجلهم} في الدنيا بالهلاك إذا. {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا}، فنذرهم لا يخرجون أبدا، فذلك قوله: {في طغيانهم يعمهون}... يعني في ضلالتهم يترددون لا يخرجون منها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ" إجابة دعائهم في الشّرّ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال "اسْتِعْجالَهُمْ بالخَيْرِ "يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به، "لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ" يقول: لهلكوا وعجل لهم الموت، وهو الأجل. وعني بقوله: "لَقُضِيَ": لفرغ إليهم من أجلهم وتبدّى لهم...
"فَنَذَرُ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا" يقول: فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، "فِي طُغْيانِهِمْ" يقول: في تمرّدهم وعتوّهم، "يَعْمَهُونَ" يعني: يتردّدون. وإنما أخبر جلّ ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله.
... عن مجاهد: "وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ" قال: قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: اللهمّ لا تبارك فيه والعنه فلو يعجل الله الاستجابة لهم في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) كأن الآية على الإضمار، كأنه قال (ولو يعجل الله للناس الشر) إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه (لقضي إليهم أجلهم) لأنه ليس يذكر في ظاهر الآية استعجالهم الشر، إنما يذكر تعجيله الخير ولكن فيه ما ذكرنا من الإضمار إضمار الاستعجال، وهو ما ذكرنا في غير آية من القرآن استعجالهم العذاب كقوله: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) [النحل: 1] وقوله: (وأمطرنا عليها حجارة) الآية [هود: 82] ونحو ذلك. كانوا يستعجلون العذاب استعجال تضرع، فيقول: لو عجل لهم العذاب إذا استعجلوه كما يعجل لهم الخير إذا استعجلوه (لقضي إليهم أجلهم) يقول: لهلكوا، أو فنوا. هذا التأويل في أهل الكفر خاصة عند استعجالهم العذاب استعجال تضرع وسؤال، ويشبه أن يكون هذا في جملة الخلق على غير تصريح السؤال، ولكن عند ارتكابهم الشر يقول: (ولو يعجل الله للناس الشر) باكتسابهم الشر وبارتكابهم إياه وقت اكتسابهم كما يعجل لهم الخير وقت اكتسابهم الخير (لقضي إليهم أجلهم) لهم جزاء شرهم وقت اكتسابهم الشر كما يعجل لهم جزاء خيرهم؛ لكان ما يستوجبون بارتكابهم الشر وقت فعلهم إياه (لقضي إليهم أجلهم) لكنه لم يجعل لهم ذلك، وأخره إلى المدة التي جعل لآجالهم. ويمكن وجه آخر، وهو ما يدعو بعضهم على بعض باللعن والخزي، ويقول الرجل عند شدة الغضب: اللهم العن فلانا، اللهم اخزه ونحو ذلك من الدعوات. يقول: لو عجل لهم هذا كما يعجل لهم عند دعاء بعضهم بالرحمة والسعة (لقضي إليهم أجلهم) يكون هذا على وجوه ثلاثة:
أحدها: استعجال سؤال وتضرع وهو الذي ذكرنا. والثاني: بأفعالهم وارتكابهم الشر وقت ارتكابهم.
والثالث: في الأسباب التي بها يرتكبون، ويفعلون...
(فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون) هو ما ذكرنا أن من حكمته ألا يعاقب أحدا من الكفرة في الكفر بصنعه الذي صنع، وقد يعجل لهم جزاء خيراتهم في الدنيا لما ساق إليهم من أنواع النعم. ولكن من حكمته أن يؤخر عقوبتهم إلى يوم القيامة. فذلك تأويله، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أصله {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر} تعجيله لهم الخير، فوضع {استعجالهم بالخير} موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم، والمراد أهل مكة. وقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، يعني: ولو عجلنا لهم الشرّ الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لأميتوا وأهلكوا. وقرئ: «لقضى إليهم أجلهم» على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجلّ، وتنصره قراءة عبد الله: «لقضينا إليهم أجلهم»
فإن قلت: فكيف اتصل به قوله: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وما معناه؟ قلت: قوله: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله} متضمن معنى نفي التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشرّ، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم {فِي طغيانهم} أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاماً للحجّة عليهم.
المسألة الأولى: أن الذي يغلب على ظني أن ابتداء هذه السورة في ذكر شبهات المنكرين للنبوة مع الجواب عنها:
فالشبهة الأولى: أن القوم تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمدا عليه السلام بالنبوة، فأزال الله تعالى ذلك التعجب بقوله: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} ثم ذكر دلائل التوحيد ودلائل صحة المعاد. وحاصل الجواب أنه يقول: إني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد، وقد دللت على صحتها، فلم يبق للتعجب من نبوتي معنى.
والشبهة الثانية: للقوم أنهم كانوا أبدا يقولون: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بما ذكره في هذه الآية. فهذا هو الكلام في كيفية النظم.
ومن الناس من ذكر فيه وجوها أخرى:
فالأول: قال القاضي: لما بين تعالى فيما تقدم الوعد والوعيد أتبعه بما دل على أن من حقهما أن يتأخرا عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصولهما في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف.
والثاني: ما ذكره القفال: وهو أنه تعالى لما وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وكانوا عن آيات الله غافلين؛ بين أن من غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلا منهم وسفها...
المسألة السادسة: المراد من استعجال هؤلاء المشركين الخير هو أنهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله تعالى بكشفها، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في آيات كثيرة كقوله: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وقوله: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هاتان الآيتان في بيان شأن من شؤون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر، ونفع وضر، وشعورهم فيه بالحاجة إلى الله تعالى، واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها، واستعجالهم الأمور قبل أوانها، وهو تعريض بالمشركين وحجة على ما يأتون من شرك، وما ينكرون من أمر البعث، متمم لما قبله، ولذلك عطفه عليه.
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} تعجيل الشيء: تقديمه على أوانه المضروب أو المقدر له أو الموعود به، والاستعجال به: طلب التعجيل، والعجل من غرائز الإنسان القابلة للتأديب والتثقيف كي لا تطغى به فتورده الموارد. قال تعالى: {ويَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11]، وقال تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37]، فأما استعجاله بالخير والحسنة فلشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها، وأما استعجاله بالضر والسيئة فلا يكون لذاته؛ بل لسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز، وقلما يكون مقصودا بنفسه إلا للنجاة مما هو شر منه، كما يفعل اليائسون من الحياة، أو النجاة من ذل وخزي أو ألم لا يطاق إذ يتقحمون المهالك أو يبخعون أنفسهم انتحارا.
قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} الذي يستعجلونه به، كاستعجال مشركي مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب- الذي أنذرهم نزوله بهم إجمالا- بما قصه عليهم في هذه السورة وغيرها من سنة الله تعالى في أقوام الرسل المعاندين، وهو عذاب الاستئصال، وفيما دونه من عذاب الدنيا، كخزيهم والتنكيل بهم ونصره عليهم، أو قيام الساعة، وعذاب الآخرة. وقد حكى الله تعالى كل ذلك عنهم كقوله: {ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} [الرعد: 6] الآية، {ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ولَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ ولَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً} [العنكبوت: 53] وتقدم قوله: {وإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُو الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وقال في الساعة {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ويَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] وفي العذاب {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54] وكل هذه الضروب من الاستعجال كانوا يقصدون بها تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغة في التكذيب واستهزاء بالوعيد وقوله:
{اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْر} معناه كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه لذاته بدعاء الله تعالى، أو بمحاولة الأسباب التي يظنون أنها قد تأتي به قبل أوانه.
{لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} قرأ ابن عامر ويعقوب الجملة بالبناء للفاعل، أي لقضى الله إليهم أجلهم، وقرأها الجمهور بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل، وقضاء الأجل إليهم انتهاؤه إليهم بإهلاكهم قبل وقته الطبيعي، كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم. ولكن الله تعالى أرحم بهم من أنفسهم، وقد بعث رسوله محمدا خاتم النبيين رحمة للعالمين، بالهداية الدائمة إلى يوم الدين، وقضى بأن يؤمن به قومه من العرب، ويحملوا دينه إلى جميع أمم العجم، وأن يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا بما يكون تأديبا لسائرهم، بما بينه بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ ويَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14] الآية، ويؤخر سائر الكافرين منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة، فهو لا يقضي إليهم أجلهم بإهلاكهم واستئصالهم، لأن هذا العذاب إذا نزل يكون عاما؛ بل يذرهم وما هم فيه إلى نهاية أجالهم وذلك قوله:
{فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الطغيان مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان، هذا هو الأصل، وطغيان السيل والبحر والدم مستعار منه. والعمه (كالتعب) التردد والتحير في الأمر أو في الشر. والمعنى فنترك الذين لا يرجون لقاءنا- ممن تقدم ذكرهم- فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب يترددون فيه متحيرين، لا يهتدون سبيلا للخروج منه، لا نعجل لهم العذاب في الدنيا باستئصالهم، حتى يأتي أمر الله تعالى في جماعتهم بنصر رسوله عليهم، وفي أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض، ومأواهم النار وبئس المصير، إلا من تاب وآمن منهم، أي هذه سنتنا فيهم لا نعجل شيئا قبل أوانه المقدر له بمقتضى علمنا وحكمتنا.
وفي الآية وجه عام غير خاص بالكافرين تقديره: ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه بذنوبهم المقتضية له -من ظلم وفساد في الأرض وفسوق- لأهلكهم، كما قال في آية أخرى {ولَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بما كسبوا مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [النحل: 61] الآية، ويدخل في المعنى هنا دعاؤهم على أنفسهم عند اليأس، ودعاء بعضهم على بعض عند الغضب، لو يعجله الله لهم لأهلكهم أيضا، وما دعاء الكافرين بربهم- أو بنعمه عليهم- فيما يخالف شرعه وسننه في خلقه إلا من ضلال) أي ضياع لا يستجيبه الله لهم، لحمله ورحمته بهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله.. وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعهم بالمكذبين قبلهم. فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين، فيقوم عليها، وينطلق في الأرض بها. وكان ذلك بعد فتح مكة، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة! غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي. لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والظاهر أن المشركين كانوا من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعاً سريعاً، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم، ويسوون بينهم وبين المشعوذين والمتحدّين بالبطولة والعجائب، فكانوا لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وركبوا رؤوسهم ولم تصبهم بأثر ذلك مصائب من عذاب شامل أو موتان عام ازدادوا غروراً بباطلهم وإحالة لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلاً من قبل الله تعالى. وقد دلت آيات كثيرة من القرآن على هذا...
وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطأوا مجيء النصر للنبيء عليه الصلاة والسلام وأصحابه كما جاء في الحديث: أنَّ المسلمين قالوا: ألا تستنصر. وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفُرون به. فلما جاءت آيات هذه السورة بقوارع التهديد للمشركين أعقبت بما يزيل شبهاتهم ويطمئن نفوس المؤمنين بما يجمَعه قوله: {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليْهم أجلهم}.
وهو إجمال ينبئ بأن الله جعل نظام هذا العالم على الرفق بالمخلوقات واستبقاء الأنواع إلى آجال أرادها، وجعل لهذا البقاء وسائل الإمداد بالنعم التي بها دوام الحياة، فالخيرات المُفاضة على المخلوقات في هذا العالم كثيرة، والشرور العارضة نادرة ومعظمها مسبب عن أسباب مجعولة في نظام الكون وتصرفات أهله، ومنها ما يأتي على خلاف العادة عند محل آجاله التي قدرها الله تعالى بقوله: {لكل أمة أجل} [يونس: 49] وقوله: {لكل أجل كتاب} [الرعد: 38].
فهذه الجملة معطوفة على جملة {إن الذين لا يرجون لقاءنا} [يونس: 7] الآية، فحيث ذكر عذابهم الذي هم آيلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمةً من حكم تصرف الله في هذا الكون. والقرينة على اتصال هذه الجملة بجملة {إن الذين لا يرجون لقاءنا} [يونس: 7] قولُه في آخر هذه {فنذَر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون}.
فبينت هذه الآية أن الرفق جعله الله مستمراً على عباده غير منقطع عنهم لأنه أقام عليه نظام العالم إذْ أراد ثَبات بنائِه، وأنه لم يقدّر توازيَ الشر في هذا العالم بالخير لطفاً منه ورفقاً، فالله لطيف بعباده، وفي ذلك منة عظيمة عليهم، وأن الذين يستحقون الشر لو عُجل لهم ما استحقوه لبطل النظام الذي وضع عليه العالم. والناس: اسم عام لجميع الناس، ولكن لما كان الكلام على إبطال شبهة المشركين وكانوا المستحقين للشرّ كانوا أولَ من يتبادر من عموم الناس، كما زاده تصريحاً قوله: {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون}.
وقد جاء نظم الآية على إيجاز محكم بديع، فذُكر في جانب الشر {يُعَجل} الدال على أصل جنس التعجيل ولو بأقل ما يتحقق فيه معناه، وعبر عن تعجيل الله الخيرَ لهم بلفظ {استعجالهم} الدال على المبالغة في التعجيل بما تفيده زياد السين والتاء لغير الطلب إذ لا يظهر الطلب هنا، وهو نحو قولهم: استأخر واستقدم واستجلَب واستقام واستبان واستجاب واستمتع واستكبر واستخفى وقوله تعالى: {واستغشوا ثيابهم} [نوح: 7]. ومعناه: تعجّلهم الخيرَ، كما حمله عليه في « الكشاف» للإشارة إلى أن تعجيل الخير من لدُنه. فليس الاستعجال هنا بمعنى طلب التعجيل لأن المشركين لم يسألوا تعجيل الخير ولا سألوه فحصل، بل هو بمعنى التعجل الكثير..
والباء في قوله: {بالخير} لتأكيد اللصوق، كالتي في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]. وأصله: استعجالهم الخير، فدلَّت المبالغة بالسين والتاء وتأكيد اللصوق على الامتنان بأن الخير لهم كثير ومكين. وقد كثر اقتران مفعول فعل الاستعجال بهذه الباء ولم ينبهوا عليه في مواقعه المتعددة..
وقد جعل جواب (لو) قوله: {لقضي إليهم أجلهم}، وشأن جواب (لو) أن يكون في حيز الامتناع، أي وذلك ممتنع لأن الله قدَّر لآجال انقراضهم ميقاتاً معيَّناً {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} [الحجر: 5]. والقضاء: التقدير...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...وليس الشر هنا ما يفسد أو يضر إنما يراد به ما يسوؤهم ولو كان عدلا وجزاء وفاقا لما يفعلون، والمعنى ولو كان الله يعجل لهم ما يسوؤهم ويهددهم به وينذر من عذاب أليم –كالرجفة أو ريح فيها عذاب أليم أو يجعل عالي الأرض سافلها أو يغرق كغرق قوم نوح- لانتهت آجالهم..
والخير الذي يستعجلون الله وأنفسهم فيه ليس هو الخير في ذاته ولكنه الخير لأنفسهم – سواء أكان حلالا أو كان حراما...
{يعمهون} أي يتخبطون ويتحيرون، ومنشأ الحيرة أن فطرهم تدعوهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ولكنهم يطمسونها بأهوائهم وملذاتهم وسلوكهم، فهم في حيرة نفسية...
...لقد صان الحق سبحانه عباده بوضع رقابة على الدعاء؛ وأنت تعتقد أن دعاءك بخير، ولكن رقابة الحق سبحانه التي تعلم كل شيء أزلا تكاد أن تقول لك: لا، ليس خيرا. وانتظر الخير بعدم استجابة دعائك؛ لأنه القائل سبحانه: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} (البقرة 216).