قوله تعالى :{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم ، وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من طاعتهم أنفسهم . وقال ابن زيد : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه . وقيل : هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا أبو عامر ، أنبأنا فليح ، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته ، من كانوا ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه " .
قوله عز وجل : { وأزواجه أمهاتهم } وفي حرف أبي : وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأييد ، لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ، قال الله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وهي أخت أم المؤمنين ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ؟ قيل : كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعاً . وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء ، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم ، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن . قوله عز وجل : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } يعني : في الميراث ، قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة . قال الكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس ، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في حكم الله ، { من المؤمنين } الذين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، { والمهاجرين } يعني ذوي القرابات ، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة . قوله : { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة . وقيل : أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة ، يعني : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أي : لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ، يعني : إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة . { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } أي : كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطوراً مكتوباً . وقال القرظي : في التوراة .
{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
يخبر تعالى المؤمنين ، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه ، فالرسول أولى به من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم ، فرسول اللّه ، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا على يديه وبسببه .
فلذلك ، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس ، مع مراد الرسول ، أن يقدم مراد الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول ، بقول أحد ، كائنًا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يتقدموا بين يديه .
وهو صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين ، كما في قراءة بعض الصحابة ، يربيهم كما يربي الوالد أولاده .
فترتب على هذه الأبوة ، أن كان نساؤه أمهاتهم ، أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام ، لا في الخلوة والمحرمية ، وكأن هذا مقدمة ، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ، الذي كان قبل يُدْعَى : " زيد بن محمد " حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فقطع نسبه ، وانتسابه منه ، فأخبر في هذه الآية ، أن المؤمنين كلهم ، أولاد للرسول ، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة ، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه ، فلا يحزن ولا يأسف .
وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ، أنهن لا يحللن لأحد من بعده ، كما الله صرح{[4]} بذلك : " وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا "
{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي : الأقارب ، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ أي ]{[5]} : في حكمه ، فيرث بعضهم بعضًا ، ويبر بعضهم بعضًا ، فهم أولى من الحلف والنصرة .
والأدعياء الذين كانوا من قبل ، يرثون بهذه الأسباب ، دون ذوي الأرحام ، فقطع تعالى ، التوارث بذلك ، وجعله للأقارب ، لطفًا منه وحكمة ، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة ، لحصل من الفساد والشر ، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث ، شيء كثير .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين ، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك ، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام ، في جميع الولايات ، كولاية النكاح ، والمال ، وغير ذلك .
{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ليس لهم حق مفروض ، وإنما هو بإرادتكم ، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا ، وتعطوهم معروفًا منكم ، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : قد سطر ، وكتب ، وقدره اللّه ، فلا بد من نفوذه .
ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم صلى الله عليه وسلم ونحو أزواجه ، وما يجب للأقارب فيها بينهم ، فقال - تعالى - : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ . . . } .
أى : النبى صلى الله عليه وسلم أحق بالمؤمنين بهم من أنفسهم وأولى فى المحبة والطاعة ، فإذا ما دعاهم إلى أمر ، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه ، وجب أن يؤثروا ما دعاهم إليه ، على ما تدعوهم إليه أنفسهم ، لأنه صلى الله علي وسلم لا يدعوهم إلا إلى ما ينفعهم ، أما أنفسهم فقد تدعوهم إلى ما يضرهم .
وفى الحديث الصحيح الذى رواه الإِمام مسلم عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن مثلى ومثل أمتى ، كمثل رجل استوقد نارا ، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه - أى فى الشئ المستوقد - وأنا آخذ بِحُجزكم - أى : وأنا آخذ بما يمنعكم من السقوط كملابسكم ومعاقد الإِزار - وأنتم تقحمون فيه " أى : وأنتم تحاولون الوقوع فيما يحرقكم - . قال القرطبى : قال العلماء : الحجزة : السراويل ، والمعقد للإِزار ، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه ، وهذا مثل لاجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم فى نجاتنا ، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التى بين أيدينا ، فهو أولى بنا من أنفسنا .
وقال الإِمام ابن كثير . قد علم الله - تعالى - شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحه لهم : فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم .
وفى الصحيح " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " .
وروى البخارى عن هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة . اقرءوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه " .
وروى الإِمام أحمد عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى ، ومن ترك مالا فلورثته " .
وقال الآلوسى : وإذا كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة فى حق المؤمنين ، يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه - عليه الصلاة والسلام - عليهم أنفذ من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها .
وسبب نزول الآية - على ما قيل - ما روى من أنه صلى الله عليه وسلم أراد غزوة تبوك ، فأمر الناس بالخروج : فقال أناس منهم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنلزت . ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم ، فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى .
ثم بين - سبحانه - منزلة أزواجه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين فقال : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أى : وأزواجه صلى الله عليه وسلم بمنزلة أمهاتكم - أيها المؤمنون - فى الاحترام والإِكرام ، وفى حرمة الزواج بهن .
قالوا : وأما ما عدا ذلك كالنظر إليهن ، والخلوة بهن ، وإرثهن . فهن كالأجنبيات .
ثم بين - سبحانه - أن التوارث إنما يكون بين الأقارب فقال - تعالى - { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } .
والمراد بأولى الأرحام : الأقارب الذين تربط بينهم رابطة الرحم كالآباء والأبناء والإِخوة ، والأخوات .
وقوله : { فِي كِتَابِ الله } متعلق بقوله { أولى } أو بمحذوف على أنه حال من الضمير فى { أولى } .
والمراد بالمؤمنين والمهاجرين . من لا تربط بينهم وبين غيرهم رابطة قرابة .
قال ابن كثير : وقد أورد ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله - عز وجل - فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وذلك أنا معشر قريش ، لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإِخوان ، فواخيناهم ووارثناهم . . حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .
وشبيه بهذه الآية فى وجوب أن يكون التوارث بحسب قرابة الدم ، قوله - تعالى - فى آخر آية من سورة الأنفال : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والاستثناء فى قوله - سبحانه - : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } رجح بعضهم أنه استثناء منقطع . وقوله { أَن تفعلوا } مبتدأ ، وخبره محذوف .
والمراد بالكتاب فى قوله { كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } القرآن الكريم ، أو اللوح المحفوظ .
والمعنى : وأولو الأرحام وهم الأقارب ، بعضهم أولى ببعض فى التوارث فيما بينهم ، وفى تبادل المنافع بعضهم مع بعض ، وهذه الأولية والأحقية ثابتة فى كتاب الله - تعالى - حيث بين لكم فى آيات المواريث التى بسورة النساء ، كيفية تقسيم التركة بين الأقارب ، وهم بهذا البيان أولى فى ميراث الميت من المؤمنين والمهاجرين الذين لا تربطهم بالميت صلة القرابة .
هذا هو حكم الشرع فيما يتعلق بالتوارث ، لكن إذا أردتم - أيها المؤمنون - أن تقدموا إلى غير أقاربكم من المؤمنين معروفا ، كأن توصوا له ببعض المال فلا بأس ، ولا حرج عليكم فى ذلك .
وهذا الحكم الذى بيناه لكم فيما يتعلق بالتوارث بين الأقارب ، كان مسطورا ومكتوبا فى اللوح المحفوظ ، وفى آيات القرآن التى سبق نزولها ، فاعملوا بما شرعناه لكم ، واتركوا ما نهيناكم عنه .
قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام ، والتقدير : وأولو الأرحام بعضهم اولى ببعض فى كل شئ من الإِرث وغيره ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، من صدقة أو وصية ، فإن ذلك جائز .
وإما منقطع . والمعنى : لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به .
والإِشارة بقوله : { كَانَ ذَلِكَ } تعود إلى ما تقدم ذكره . أى : كان نسخ الميراث بالهجرة والمخالفة والمعاقدة ، ورده إلى ذوى الأرحام من القرايات { فِي الكتاب مَسْطُوراً } أى : فى اللوح المحفوظ ، أو فى القرآن مكتوبا .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد وضحت ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم ، وما يجب عليهم نحو أزواجه ، وما يجب عليهم نحو أقاربهم فيما يتعلق بالتوارث .
بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني . ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا ؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة ، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة ؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم . . وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي[ صلى الله عليه وسلم ] وتقديمها على جميع ولايات النسب ؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين :
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم ؛ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، تاركين وراءهم كل شيء ، فارين إلى الله بدينهم ، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى ، وذخائر المال ، وأسباب الحياة ، وذكريات الطفولة والصبا ، ومودات الصحبة والرفقة ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، متخلين عن كل ما عداها . وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو ، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس ، بما في ذلك الأهل والزوج والولد - المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة ، واستيلائها على القلب ، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة . وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى . فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت ، وظل آخرون فيها على الشرك . فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم . ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية ؛ وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية .
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا ، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس ، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة .
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة ، تغطي على كل العواطف والمشاعر ، وكل الأوضاع والتقاليد ، وكل الصلات والروابط . لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب ، وتربط - في الوقت ذاته - الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة ؛ فتقوم بينها مقام الدم والنسب ، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام ، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة . لا بنصوص التشريع ، ولا بأوامر الدولة ؛ ولكن بدافع داخلي ومد شعوري . يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية . وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس ، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع .
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار ، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ؛ فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم ، وفي أموالهم . وتسابقوا إلى إيوائهم ؛ وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة . إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار . وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس ، وطيب خاطر ، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري ، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة !
وآخى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار . وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد . وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم ، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها .
وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية ؛ وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد - شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام - وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة . بل بما هو أكثر . وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها .
وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف ، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة ، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها . وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية .
وإن الإسلام - مع حفاوته بذلك المد الشعوري ، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما ، مستعدة للفيضان . لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية ، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية ، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ؛ ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي ، وللنظام العادي ، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة .
ومن ثم عاد القرآن الكريم - بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار ، ووجود أسباب معقولة للارتزاق ، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى ، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم . . عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب ، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر ، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة . ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية . فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب - كما هي أصلا في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم ، بل على قرابة النفس ! : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) . . وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالنسبة لجميع المؤمنين : ( وأزواجه أمهاتهم ) . .
وولاية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول - عليه صلوات الله وسلامه - ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] أحب إليهم من أنفسهم . فلا يرغبون بأنفسهم عنه ؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته ! جاء في الصحيح : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " . وفي الصحيح أيضا أن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " . فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " الآن يا عمر " .
وليست هذه كلمة تقال ، ولكنها مرتقى عال ، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء ؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب . فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور ، وفوق ما يدرك ! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوع مشاعره ، وراض نفسه ، وخفض من غلوائه في حب ذاته ، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها ، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى ! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه ، فإن ملكه كمن في مشاعره ، وغار في أعماقه ! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ؛ ولكنه يصعبعليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها ، أو عيبا لشيء من خصائصها ، أو نقدا لسمة من سماتها ، أو تنقصا لصفة من صفاتها . وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره ! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية ؛ أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة ، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته . وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويكفي أن عمر - وهو من هو - قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي .
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم . جاء في الصحيح . . " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " . والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه ؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا .
وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال ، ولا إلى فورة شعورية استثنائية . مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء . فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته ؛ أو أن يهبه في حياته . . ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) . .
ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى ، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) . . فتقر القلوب وتطمئن ؛ وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم .
بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية ؛ وتسير في يسر وهوادة ؛ ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد .
ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان ، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة .
ولهذا قال تعالى في هذه الآية : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } .
وقال البخاري عندها : {[23214]} حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا [ محمد بن ] {[23215]} فُلَيح ، حدثنا أبي ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرؤوا إن شئتم : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عَصَبَتُه مَن كانوا . فإن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا ، فليأتني فأنا مولاه » . تفرد به البخاري{[23216]} .
ورواه أيضا في " الاستقراض " وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طرق ، عن فليح ، به مثله{[23217]} . ورواه الإمام أحمد ، من حديث أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه{[23218]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري في قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا ، فإلي . ومَنْ ترك مالا فلورثته " {[23219]} . ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل{[23220]} ، به نحوه .
وقوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام والتوقير والإعظام ، ولكن لاتجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي في المختصر ، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم . وهل يقال لمعاوية وأمثاله : خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء . ونص الشافعي على أنه يقال ذلك . وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ، فيدخل النساء{[23221]} في جمع المذكر السالم تغليبا ؟ فيه قولان : صح عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لا يقال ذلك . وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي ، رحمه الله . {[23222]}
وقد روي عن أُبي بن كعب ، وابن عباس أنهما قرآ : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " ، وروي نحو هذا عن معاوية ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والحسن : وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي . حكاه البغوي وغيره ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا ابن المبارك ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعَلِّمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ولا يستطب بيمينه " ، وكان يأمر بثلاثة أحجار ، وينهى عن الروث والرمة .
وأخرجه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن عجلان{[23223]} .
والوجه الثاني : أنه لا يقال ذلك ، واحتجوا بقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } : وقوله : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي : في حكم الله { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار . وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم ، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته{[23224]} وذوي رحمه ، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال سعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام ، رضي الله عنه ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي - من ساكني بغداد - عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله ، عز وجل ، فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } ، وذلك أنا معشر قريش لما قَدمنا المدينة ، {[23225]} قَدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ ، فواخيناهم ووارثناهم . فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخى عمر فلانا ، وآخى عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا من بني زُرَيق ، سعد الزرقي ، ويقول بعض الناس غيره . قال الزبير : وواخيت أنا كعب بن مالك ، فجئته فابتعلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى ، فوالله يا بني ، لو مات يومئذ عن الدنيا ، ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .
وقوله : { إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ذهب الميراث ، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية .
وقوله : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : هذا الحكم ، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول ، الذي لا يبدل ، ولا يغير . قاله مجاهد وغير واحد . وإن كان قد يقال{[23226]} : قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي{[23227]} ، وقضائه القدري الشرعي .
وقوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين } الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه{[9455]} ، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فعلي ، أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم }{[9456]} » ، وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤيد هذا قوله عليه السلام «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش »{[9457]} .
وشرف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات ، قال مسروق قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ، فقالت لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم . وفي مصحف أبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » ، وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » ، وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها ، فقيل له إنها في مصحف أبيّ فسأله فقررها أبيّ وأغلظ لعمر ، وقد قيل في قول لوط عليه السلام : { هؤلاء بناتي }{[9458]} [ هود : 78 ] إنما أراد المؤمنات ، أي تزوجوهن .
ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين{[9459]} ، اختلفت الرواية في صفته وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته ، ورد الله تعالى المواريث على الأنساب الصحيحة ، وقوله تعالى : { في كتاب الله } يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى : { من المؤمنين } متعلق ب { أولى } الثانية{[9460]} ، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا ، وقوله تعالى : { إلا أن تفعلوا } يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة ، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه ، والقريب الكافر يوصي له بوصية{[9461]} ، واختلف العلماء هل يجعل هو وصياً ، فجوز بعض ومنع بعض ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، وذهب مجاهد وابن زيد والرماني وغيره إلى أن المعنى إلى أوليائكم من المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم لفظ الولي أيضاً حسن كما قدمناه ، إذ ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .
و { الكتاب } الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا ، و { مسطوراً } من قولك سطوت الكتاب إذا أثبته إسطاراً ومنه قول العجاج :
«في الصحف الأولى التي كان سطراً{[9462]} » ،
{ النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
استئناف بياني أن قوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] وقوله { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوّة زيد بن حارثة للنبيء صلى الله عليه وسلم فكان بحيث يثير سؤالاً في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيئهم صلى الله عليه وسلم وهل هي علاقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبي وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم . والمعنى : أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين . و { مِنْ } تفضيلية .
ثم الظاهر أن الأنفس مراد بها جمع النفس وهي اللطيفة الإنسانية كقوله { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] ، وأن الجمع للتوزيع على كل مؤمن آيل إلى كل فرد من الأنفس ، أي : أن النبي أولى بكل مؤمن من نفس ذلك المؤمن ، أي : هو أشد ولاية ، أي : قرباً لكل مؤمن من قرب نفسه إليه ، وهو قرب معنوي يراد به آثار القرب من محبة ونصرة . ف { أولى } اسم تفضيل من الوَلْي وهو القرب ، أي : أشد قرباً . وهذا الاسم يتضمن معنى الأحقية بالشيء فيتعلق به متعلِّقه ببناء المصاحبة والملابسة . والكلام على تقدير مضاف ، أي : أولى بمنافع المؤمنين أو بمصالح المؤمنين ، فهذا المضاف حذف لقصد تعميم كل شأن من شؤون المؤمنين الصالحة .
والأنفس : الذوات ، أي : هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم . ومن هذا المعنى ما في الحديث الصحيح من قول عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم « لأنتَ أحبّ إليّ من كل شيء إلاّ من نفسي التي بين جنبَيّ » فقال له النبي صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه . فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبّ إليّ من نفسي » . ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] ، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس . والمعنى : أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض ، أي : من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 85 ] ، أي : يقتل بعضكم بعضاً ، وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] .
والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب . وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدْوَن ، ولذلك استثنى عمر بن الخطاب بادىء الأمر نفسه فقال : لأنت أحب إليّ إلا مِن نفسي التي بين جنبيّ . وعلى كلا الوجهين فالنبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم ، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه .
وسننبه عليه عند قوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } فكانت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين .
وفي الحديث : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } " ولِما علمتَ من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدّى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض ، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته ، وقد بينه قول النبي : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه ورثته من كانوا ، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه . وهذا ملاك معنى هذه الآية .
عَطَف على حقوق النبي صلى الله عليه وسلم حقوقَ أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبي عليه الصلاة والسلام فجعَل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله { وما جعَل أزواجَكُم اللاء تظّهرون منهنّ أمهاتكم } [ الأحزاب : 4 ] .
وأما ما عدا حكم التزوج من وجوه البر بهن ومواساتهن فذلك راجع إلى تعظيم أسباب النبي صلى الله عليه وسلم وحرماته ولم يزل أصحاب النبي والخلفاء الراشدون يتوخّون حُسن معاملة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويؤثرونهنّ بالخير والكرامة والتعظيم . وقال ابن عباس عند حمل جنازة ميمونة : « هذه زوج نبيئكم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا » رواه مسلم . وكذلك ما عدا حكم الزواج من وجوه المعاملة غير ما يرجع إلى التعظيم . ولهذه النكتة جيء بالتشبيه البليغ للمبالغة في شبههن بالأمهات للمؤمنين مثل الإرث وتزوج بناتهن ، فلا يُحسب أن تركاتهن يرثها جميع المسلمين ، ولا أن بناتهن أخوات للمسلمين في حرمة التزوج بهن .
وأما إطلاق وصف خال المؤمنين على الخليفة معاوية لأنه أخو أم حبيبة أم المؤمنين فذلك من قبيل التعظيم كما يقال : بنُو فلان أخوال فلان ، إذا كانوا قبيلة أمه .
والمراد بأزواجه اللآتي تزوجهنّ بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين ، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيّي : أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين ؟ فقالوا : ننظر ، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه ، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب ، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين ، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين .
ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة ، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجَونية وهي أسماء بنت النعمان الكِندية فلا تعتبرمن أمهات المؤمنين .
وذكر ابن العربي أن امرأة كان عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت في خلافة عمر فهَمَّ عمر برجمها . فقالت : لِمَ وما ضرَب عليّ النبي حجاباً ولا دُعيت أمَّ المؤمنين ؟ فكفَّ عنها . وهذه المرأة هي ابنة الجَون الكندية تزوجها الأشعث بن قيس . وهذا هو الأصح وهو مقتضى مذهب مالك وصححه إمام الحرمين والرافعي من الشافعية . وعن مقاتل : يحرم تزوج كل امرأة عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يبن بها . وهو قول الشافعي وصححه في « الروضة » ، واللآء طلّقهنُ الرسول عليه الصلاة والسلام بعد البناء بهن فاختلف فيهن على قولين ، قيل : تثبت حرمة التزوج بهن حفظاً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : لا يثبت لهن ذلك ، والأول أرجح . وقد أُكد حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } [ الأحزاب : 53 ] ، وبتحريم تزوج إحداهن على المؤمنين بقوله ( تعالى ) : { ولا أن تنكِحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً } [ الأحزاب : 53 ] . وسيجيء بيان ذلك عند ذكر هاتين الآيتين في أواخر هذه السورة .
وروي أن ابن مسعود قرأ بعدها : وهو أب لهم . وروي مثله عن أُبَيّ بن كعب وعن ابن عباس . وروي عن عكرمة : كان في الحرف الأول « وهو أبوهم » .
ومحملها أنها تفسير وإيضاح وإلا فقد أفاد قوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أكثر من مفاد هذه القراء .
{ وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الكِتَابِ مَسْطُوراً }
أعقب نسخ أحكام التبنّي التي منها ميراث المتبنِّي مَن تبناه والعكس بإبطال نظيره وهو المَواخاة التي كانت بين رجال من المهاجرين مع رجال من الأنصار وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نزل بالمدينة مع من هاجر معه ، جعل لكل رجل من المهاجرين رجلاً أخاً له من الأنصار فآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد ، وبين الزبير وكعب بن مالك ، وبين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع ، وبين سلمان وأبي الدرداء ، وبين عثمان بن مظعون وأبي قتادة الأنصاري ؛ فتوارث المتآخون منهم بتلك المؤاخاة زماناً كما يرث الإخوة ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، كما نسخ التوارث بالتبنّي بآية { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] ، فبينت هذه الآية أن القرابة هي سبب الإرث إلا الانتساب الجعلي .
فالمراد بأولي الأرحام : الإخوة الحقيقيون . وعبر عنهم بأولي الأرحام لأن الشقيق مقدم على الأخ للأب في الميراث وهم الغالب ، فبينت الآية أن أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث من ولاية المتآخين المهاجرين والأنصار فعمَّ هذا جميع أولي الأرحام وخُصص بقوله { من المؤمنين والمهاجرين } على أحد وجهين في الآيتين في معنى { مِن } وهو بمنزلة العام الوارد على سبب خاص وهو مطلق في الأولوية والمطلق من قبيل المجمل ، وإذ لم يكن معه بيان فمحمل إطلاقه محمل العموم ، لأن الأولوية حال من أحوال أولي الأرحام وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ، فالمعنى : أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في جميع الولايات إلا ما خصصه أو قيَّده الدليل .
والآية مبيّنة في أن القرابة الحقيقية أرجح من الأخوة الجعلية ، وهي مجملة في تفصيل ذلك فيما بين أولي الأرحام ، وذلك مفصل في الكتاب والسنة في أحكام المواريث . وتقدم الكلام على لفظ { أولوا } عند قوله تعالى { واتقون يا أولي الألباب } في سورة البقرة ( 197 ) .
ومعنى { في كتاب الله } فيما كتبه ، أي : فرضه وحكم به . ويجوز أن يراد به القرآن إشارة إلى ما تضمنته آية المواريث ، وقد تقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الأنفال . وتقدم الكلام في توريث ذوي الأرحام إن لم يكن للميت وارث معلوم سهمه .
و { أولوا الأرحام } مبتدأ ، و { بعضهم } مبتدأ ثان و { أوْلَى } خبرُ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول ، و { في كتاب الله } متعلق ب { أوْلى } .
وقوله { من المؤمنين والمهاجرين } يجوز أن يتعلق باسم التفضيل وهو { أولى } فتكون { مِن } تفضيلية . والمعنى : أولوا الأرحام أولى بإرث ذوي أرحامهم من إرث أصحاب ولاية الإيمان والهجرة بتلك الولاية ، أي : الولاية التي بين الأنصار والمهاجرين . وأريد بالمؤمنين خصوصُ الأنصار بقرينة مقابلته بعطف { والمهاجرين } على معنى أصحاب الإيمان الكامل تنويهاً بإيمان الأنصار لأنهم سبقوا بإيمانهم قبل كثير من المهاجرين الذين آمنوا بعدهم فإن الأنصار آمنوا دَفعة واحدة لمّا أبلغهم نقباؤهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إياهم بعد بيعة العقبة الثانية . قال تعالى : { والذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم } [ الحشر : 9 ] أي : من قبل كثير من فقراء المهاجرين عدا الذين سبق إيمانهم . فالمعنى : كل ذي رحم أولى بإرث قريبه من أن يرثه أنصاري إن كان الميت مهاجراً ، أو أن يرثه مهاجر إن كان الميت من الأنصار ، فيكون هذا ناسخاً للتوارث بالهجرة الذي شرع بآية الأنفال ( 72 ) : { والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولاَيَتهم من شيء حتى يهاجروا } فتوارث المسلمون بالهجرة فكان الأعرابي المسلم لا يرث قريبه المهاجر ، ثم نسخ بآية هذه السورة . ويجوز أن يكون قوله { من المؤمنين } ظرفاً مستقرّاً في موضع الصفة ، أي : وأولوا الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين ، بعضهم أولى ببعض ، أي : لا يرث ذو الرحم ذا رحمه إلا إذا كانا مؤمنيْن ومهاجرين ، فتكون الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة الذي شرع عند قدوم المهاجرين إلى المدينة ، فلما نزلت هذه الآية رجعوا إلى مواريثهم فبينت هذه الآية أن القرابة أولى من الحلف والمواخاة ، وأيّاً مَّا كان فإن آيات المواريث نسخت هذا كله . ويجوز أن تكون { من } بيانية ، أي : وأولوا الأرحام المؤمنون والمهاجرون ، أي : فلا يرث أولوا الأرحام الكافرون ولا يرث من لم يهاجر من المؤمنين لقوله تعالى : { والذين كَفَروا بعضُهم أولياء بعض } [ الأنفال : 73 ] ثم قال : { والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] .
والاستثناء بقوله { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } منقطع ، و { إلا } بمعنى ( لكنْ ) لأن ما بعد { إلا } ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف . وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أُبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبَقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء .
وجملة { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } تذييل لهذه الأحكام وخاتمة لها مؤذنة بانتهاء الغرض من الأحكام التي شُرعت من قوله { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] إلى هنا ، فالإشارة بقوله { ذلك } إلى المذكور من الأحكام المشروعة فكان هذا التذييل أعمّ مما اقتضاه قوله { بعضهم أوْلَى ببعض في كتاب الله } . وبهذا الاعتبار لم يكن تكريراً له ولكنه يتضمنه ويتضمن غيره فيفيد تقريره وتوكيده تبعاً وهذا شأن التذييلات .
والتعريف في { الكِتَاب } للعهد ، أي : كتاب الله ، أي : ما كتبه على الناس وفرضه كقوله { كتابُ الله عليكم } [ النساء : 24 ] ، فاستعير الكتاب للتشريع بجامع ثبوته وضبطه التغيير والتناسي ، كما قال الحارث بن حلزة :
حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء
ومعنى هذا مثل قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأنفال ( 75 ) . فالكتاب : استعارة مكنية وحرف الظرفية ترسيخ للاستعارة .
والمسطور : المكتوب في سطور ، وهو ترشيح أيضاً للاستعارة وفيه تخييل للمكنية .
وفعل كان } في قوله { كان ذلك } لتقوية ثبوته في الكتاب مسطوراً ، لأن { كان } إذا لم يقصد بها أن اسمها اتصف بخبرها في الزمن الماضي كانت للتأكيد غالباً مثل { وكان الله غفوراً رحيماً } [ الأحزاب : 4 ] أي : لم يزل كذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين} في الطاعة له {من أنفسهم} من بعضهم لبعض...
{وأزواجه أمهاتهم} ولا يحل لمسلم أن يتزوج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا.
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} يعني في المواريث {من المؤمنين} يعني الأنصار.
{والمهاجرين} الذين هاجروا إليهم بالمدينة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"النبيّ" محمد "أولى بالمؤمنين"، يقول: أحقّ بالمؤمنين به من أنفسهم، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم... حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا فليح، عن هلال بن عليّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وأنا أوْلَى النّاسِ بِهِ فِي الدّنْيا والآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: "النّبِيّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ "وأيّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَعَصَبَتِهِ مَنْ كانُوا، وَإنْ تَرَكَ دَيْنا أوْ ضياعا فَلْيأْتِني وأنا مَوْلاهُ»...
وقوله: "وأزْوَاجُهُ أمّهاتُهُمْ" يقول: وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم، في أنهن يحرم عليهن نكاحهن من بعد وفاته، كما يحرمُ عليهم نكاح أمهاتهم. عن قتادة"...وأزْوَاجُهُ أُمّهاتُهُمْ" يعظّم بذلك حقهنّ...
وقوله: "وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهاجِرِينَ" يقول تعالى ذكره: وأولو الأرحام الذين وَرّثْتُ بعضهم من بعض، هم أولى بميراث بعض من المؤمنين والمهاجرين أن يرث بعضهم بعضا، بالهجرة والإيمان دون الرحم...
عن قتادة:... لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابيّ المسلم لا يرث من المهاجرين شيئا، فأنزل الله هذه الآية، فخلط المؤمنين بعضهم ببعض، فصارت المواريث بالملل...
فمعنى الكلام على هذا التأويل: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بالهِجرة، وقد يحتمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من المؤمنين والمهاجرين، أوْلى بالميراث، ممن لم يؤمن، ولم يهاجر.
وقوله: "إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: إلاّ أن توصوا لذوي قرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة... وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلاّ أن تمسكوا بالمعروف بينكم بحقّ الإيمان والهجرة والحلف، فتؤتونهم حقهم من النصرة والعقل عنهم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن توصوا إلى أوليائكم من المهاجرين وصية...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: معنى ذلك: إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخَى بينهم وبينكم من المهاجرين والأنصار، معروفا من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم، وما أشبه ذلك، لأن كلّ ذلك من المعروف الذي قد حثّ الله عليه عباده.
وإنما اخترت هذا القول، وقلت: هو أولى بالصواب من قيل من قال: عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك، لأن القريب من المشرك، وإن كان ذا نسب فليس بالمولى، وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بين المؤمن والمشرك، وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا منهم وليا بقوله: "لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ" وغير جائز أن ينهاهم عن اتخاذهم أولياء، ثم يصفهم جلّ ثناؤه بأنهم لهم أولياء... ومعنى الكلام: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين، إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين ليسوا بأولِي أرحام منكم معروفا.
وقوله: "كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورا" يقول: كان أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض "في كتاب الله": أي في اللوح المحفوظ "مسطورا" أي مكتوبا...
وقال آخرون: معنى ذلك: كان ذلك في الكتاب مسطورا: لا يرث المشرك المؤمن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين}، يحتمل:... هو أولى أن يعظم، ويحترم، ويطاع من غيره، أو أن يكون أولى في الرحمة والشفقة لهم أي أرحم بهم، وأشفق من أنفسهم، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة حين قال: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وليس من الناس من يعز عليه ما يفعله من الإثم.
أو أن يجوز {أولى بالمؤمنين} أي أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم محبة الاختيار والإيثار، ليس محبة الميل من القلب، لأن ميل القلب يكون بالطبع، وذكر في الخبر: (ليس يؤمن أحدكم حتى أكون أنا أحب إليه من نفسه وولده وأهله) [البخاري 15] أو كلام نحو هذا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال ابن عبّاس وعطا: يعني إذا دعاهم النبيّ (عليه السلام) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم...
وقال أبو بكر الورّاق: لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى.
وقال بسام بن عبدالله العراقي: لأنَّ أنفسهم تحترس من نار الدُّنيا، والنبيّ يحرسهم من نار العُقبى.
وقيل: إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقالت الحكماء: لاِنَّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة من هذا: تقديم سُنته على هواك، والوقوفُ عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار من تتوسل سبباً ونسباً على أعِزَّتِكَ ومَن والاكَ.
{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}: ليكن الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك بالأقارب، وصلةُ الرحِم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار، ولكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين} في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وقال مجاهد: كل نبيّ فهو أبو أمّته. ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين...
{مِنَ المؤمنين والمهاجرين} يجوز أن يكون بياناً لأولى الأرحام، أي: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية. أي: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين...} أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذكر الله تعالى أنه {أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت.
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا} إشارة إلى الميراث، وقوله: {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا} إشارة إلى الوصية، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نهى سبحانه عن التبني، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وأمه، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك: {النبي} أي الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال {أولى بالمؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية {من أنفسهم} فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل الملوك بل أعظم بهذا السبب الرباني، فأيّ حاجة له إلى السبب الجسماني.
{وأزواجه} أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته {أمهاتهم} أي المؤمنين من الرجال خاصة دون النساء، لأنه لا محذور من جهة النساء، وذلك في الحرمة والإكرام، والتعظيم والاحترام، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الأحكام، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص، لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من حق الوالد على ولده، وهو حي في قبره و هذا أمر جعله الله وهو الذي إذا جعل شيئاً كان، لأن الأمر أمره والخلق خلقه، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم، ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً: {كان ذلك} أي الحكم العظيم {في الكتاب} أي القرآن في آخر سورة الأنفال {مسطوراً} بعبارة تعمه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
خلاصة ذلك: إنه تعالى علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني، ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم.. وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي [صلى الله عليه وسلم] وتقديمها على جميع ولايات النسب؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه [صلى الله عليه وسلم] وجميع المؤمنين.
وولاية النبي [صلى الله عليه وسلم] ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول -عليه صلوات الله وسلامه- ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه [صلى الله عليه وسلم] أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". وفي الصحيح أيضا أن عمر -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال [صلى الله عليه وسلم]: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي. فقال [صلى الله عليه وسلم]:"الآن يا عمر".
وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته. وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويكفي أن عمر -وهو من هو- قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي [صلى الله عليه وسلم] كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي.
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم. جاء في الصحيح.. والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأنفس: الذوات، أي: هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} [آل عمران: 164]، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس. والمعنى: أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض، أي: من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85]، أي: يقتل بعضكم بعضاً، وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء: 29]، والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب.
والمراد بأزواجه اللآتي تزوجهنّ بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيّي: أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين؟ فقالوا: ننظر، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين، ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجَونية وهي أسماء بنت النعمان الكِندية فلا تعتبر من أمهات المؤمنين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
والظاهر من سياق الآية أنها لا تتحدث عن جانب التعاطف الذي يكلِّف المسلمين بتقديم أنفسهم فداءً عن نفسه إذا دار الأمر بينهم وبينه، وليست في مقام الأمر بطاعتهم له، أو في مقام تفضيل حكمه على حكم بعضهم على بعض، بل هي في مقام إثبات الولاية له عليهم، بحيث يملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم، لتأكيد جانب الحاكمية عليهم من قِبَله في ما جعله الله له من ولاية إلى جانب ما جعله له من النبوّة، وذلك من خلال التعبير عن المسألة من خلال فاعليته فيهم وسلطته عليهم بأكثر من سلطتهم على أنفسهم.