قوله : { رجال } قيل : خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد ، { لا تلهيهم } لا تشغلهم ، { تجارة } قيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات ، وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً لأنه ذكر البيع بعد هذا ، كقوله : { وإذا رأوا تجارة } يعني : الشراء ، وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه . قوله : { ولا بيع عن ذكر الله } عن حضور المساجد لإقامة الصلاة ، { وإقام } أي : لإقامة ، { الصلاة } حذف الهاء وأراد أداءها في وقتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة ، وأعاد ذكر إقامة الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه أراد بإقام الصلاة حفظ المواقيت . روى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة } . { وإيتاء الزكاة } المفروضة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها . وقيل : هي الأعمال الصالحة . { يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار } قيل : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر ، وتنفتح الأبصار من الأغطية . وقيل : تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء تخشى الهلاك وتطمع في النجاة ، وتتقلب الأبصار من هوله أي : ناحية يؤخذ بهم ذات اليمين أم ذات الشمال ، ومن أين يؤتون الكتب أم من قبل الأيمان أم من قبل الشمائل ؟ وذلك يوم القيامة . وقيل : تتقلب القلوب في الجوف فترتفع إلى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج ، وتقلب البصر شخوصه من هول الأمر وشدته .
{ رِجَالٌ } خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله وسهولته . ويدخل في ذلك ، التسبيح في الصلاة وغيرها ، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح والمساء . أي : يسبح فيها الله ، رجال ، وأي : رجال ، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ، ذات لذات ، ولا تجارة ومكاسب ، مشغلة عنه ، { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض ، فيكون قوله : { وَلَا بَيْعٌ } من باب عطف الخاص على العام ، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره ، فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا ، وباعوا ، واشتروا ، فإن ذلك ، لا محذور فيه . لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها على { ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم ، ونهاية مقصدهم ، فما حال بينهم وبينها رفضوه .
ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس ، وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها ، ويشق عليها تركه في الغالب ، وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك ، ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبا وترهيبا- فقال : { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } من شدة هوله وإزعاجه للقلوب والأبدان ، فلذلك خافوا ذلك اليوم ، فسهل عليهم العمل ، وترك ما يشغل عنه .
وقوله - تعالى - : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } مدح وتكريم لهؤلاء الرجال .
أى : يسبح الله - تعالى - فى تلك المساجد بالغدو والآصال ، رجال من شأنهم ومن صفاتهم ، أنهم لا يشغلهم ، " تجارة " مهما عظمت ، " ولا بيع " ، مهما اشتدت حاجتهم إليه " عن ذكر الله " أى : عن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده وطاعته .
ولا تشغلهم - أيضا - هذه التجارات والبيوع عن " إقام الصلاة " فى مواقيتها بخشوع وإخلاص ، وعن " إيتاء الزكاة " للمستحقين لها .
وذلك لأنهم " يخافون يوما " هائلا شديدا هو يوم القيامة الذى " تتقلب فيه القلوب والأبصار " أى تضطرب فيه القلوب والأبصار فلا تثبت من شدة الهول والفزع .
قلوب الرجال الذين ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) . . والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء . ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة ، وأداء حق العباد في الزكاة : ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) . . تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب . وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
وقوله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ، كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] ، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الجمعة : 9 ]
يقول تعالى : لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وريحها ، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم ، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم ؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق ؛ ولهذا قال : { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } أي : يقدمون طاعته ومُرَاده ومحبته على مرادهم ومحبتهم .
قال هُشَيْم : عن سَيَّار{[21263]} : [ قال ]{[21264]} حُدِّثت عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق ، حيث نودي بالصلاة ، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } {[21265]} .
وهكذا روى عَمْرو بن دينار القَهْرَمَانيّ ، عن سالم ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، أنه كان في السوق{[21266]} فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير{[21267]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر{[21268]} الصنعاني ، حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم{[21269]} حدثنا عبد الله بن بُجَيْر ، حدثنا أبو عبد رب{[21270]} قال : قال أبو الدرداء ، رضي الله عنه : إني قمت{[21271]} على هذا الدرج أبايع عليه ، أربح كل يوم ثلاثمائة دينار ، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد ، أما إني لا أقول : " إن ذلك ليس بحلال " ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } .
وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد ، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخَمَّروُا متاعهم ، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد ، فتلا سالم هذه الآية : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ثم قال : هم هؤلاء .
وكذا قال سعيد بن أبي الحسن ، والضحاك : لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها .
وقال مطر الوَرَّاق : كانوا يبيعون ويشترون ، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانُه في يده خفضه ، وأقبل إلى الصلاة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } يقول : عن الصلاة المكتوبة . وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل بن حيان .
وقال السُّدِّي : عن الصلاة في جماعة .
وعن مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة ، وأن يقيموها كما أمرهم{[21272]} الله ، وأن يحافظوا على مواقيتها ، وما استحفظهم الله فيها .
وقوله : { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } أي : يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار ، أي : من شدة الفزع وعظمة الأهوال ، كما قال تعالى { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [ غافر : 18 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ، وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [ الإنسان : 8 - 12 ] . } وقال هاهنا { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وقوله : رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : لا يشغل هؤلاء الرجال الذي يصلّون في هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة ، تجارة ولا بيع . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن حعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ . . . إلى قوله : والأبْصَارِ قال : هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم ، لا تلهيهم تجاراتهم ولا بيوعهم عن ذكر الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن دينار ، عن سالم بن عبد الله : أنه نظر إلى قوم من السّوق قاموا وتركوا بباعاتهم إلى الصلاة ، فقال هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ . . . الآية .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن سيار ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، نحو ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هُشَيم ، عن سيار ، قال : حُدثت عن ابن مسعود ، أنه رأى قوما من أهل السوق حيثُ نودي بالصلاة تركوا بِياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ .
وقال بعضهم : معني ذلك : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عن صلاتهم المفروضة عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدّثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول : عن الصلاة المكتوبة .
وقوله : وَإقامِ الصّلاةِ يقول : ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها .
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي عوف اسمه في : وَإقامِ الصّلاةِ قال : يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة .
فإن قال قائل : أو ليس قوله : وَإقامِ الصّلاةِ مصدرا من قوله أقمت ؟ قيل : بلى . فإن قال : أو ليس المصدر منه إقامة ، كالمصدر من آجرت إجارة ؟ قيل : بلى . فإن قال : وكيف قال : وَإقامِ الصّلاةِ ، أو تجيز أن نقول : أقمت إقاما ؟ قيل : ولكني أجيز : أعجبني إقام الصلاة . فإن قيل : وما وجه جواز ذلك ؟ قيل : إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال إقواما ، كما يقال : أقعدت فلانا إقعادا وأعطيته إعطاء ولكن العرب لما سكنت الواو من «أقمت » فسقطت لاجتماعها وهي ساكنة والميم ووهي ساكنة ، بنَوا المصدر على ذلك إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة ، فسقطت الأولى منهما ، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف ، كالتكثير للحرف ، كما فعلوا ذلك في قولهم : وَعَدته عِدَة ، ووزنته زِنة إذ ذهبت الواو من أوّله ، كثّروه من آخره بالهاء فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة ، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير ، وهي الهاء في آخرها لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد ، فاستغنَوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد . وقد قال بعضهم في نظير ذلك :
إنّ الخَلِيطَ أجَدّوا البَيْنَ فانْجَرَدوا *** وأخْلَفوكَ عِدَ الأمْرِ الّذِي وَعَدُوا
يريد : عدة الأمر . فأسقط الهاء من العدة لما أضافها ، فكذلك ذلك في إقام الصلاة .
وقوله : وَإيتاءِ الزّكاةِ قيل : معناه : وإخلاص الطاعة لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة . وقوله : وأوْصَانِي بالصّلاةِ والزّكاةِ ، وقوله : وَلَوْلا فَضْلُ اللّهُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ أبَدا ، وقوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا وَزَكاةً ونحو هذا في القرآن ، قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخرص .
وقوله : يخافُونَ يَوْما تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يقول : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله ، بين طمع بالنجاة وحذر بالهلاك . والأبصار : أيّ ناحية يؤخذ بهم : أذات اليمين أم ذات الشمال ؟ ومن أين يُؤْتون كتبهم : أمن قِبَل الأيمان أو من قبل الشمائل ؟ وذلك يوم القيامة . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الله بن عياش ، قال زيد بن أسلم ، في قول الله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ . . . إلى قوله : تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يوم القيامة .
ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا ، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها ، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، { وإقام } ، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء ، فجاء { إقام } ، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقاماً ، وإنما يستعمل مضافاً ، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافاً ألحقت به هاء عوضاً من المحذوف فجاء إقامة ، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأَن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد ، و { الزكاة } هنا عند ابن عباس الطاعة لله ، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال ، و «اليوم المخوف » الذي ذكره تعالى ، هو يوم القيامة ، واختلف الناس في تقلب { القلوب والأبصار } كيف هو ، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عياناً فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة ، فأما القول الأول فليس يقتضي هولاً وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم يوم القيامة وإنما هو بعده .
وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هوله ومطلعه ، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر ، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر ، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر : «بل كان قلبك في جناحي طائر »{[8732]} ومنه قول بشار كان فؤاده كرة تنزى{[8733]} ، ومنه قول الآخر : «إذا حلق النجيد وصلصل الحديد » وهذا كثير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: لا يشغل هؤلاء الرجال الذي يصلّون في هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة، تجارة ولا بيع...
وقال بعضهم: معنى ذلك: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عن صلاتهم المفروضة عليهم...
وقوله: "وَإقامِ الصّلاةِ "يقول: ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها...
وقوله: "وَإيتاءِ الزّكاةِ" قيل: معناه: وإخلاص الطاعة لله...
وقوله: "يخافُونَ يَوْما تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ" يقول: يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله، بين طمع بالنجاة وحذر بالهلاك. والأبصار: أيّ ناحية يؤخذ بهم: أذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يُؤْتون كتبهم: أمن قِبَل الأيمان أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" وهو يوم القيامة. يخبر عن شدة هول ذلك اليوم وخوفه، لا تثبت القلوب والأبصار فزعا منه وخوفا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} قال أهل المعاني: إنّما خصّ التجارات لأنّها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} قال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح، فإما أن يريد: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة، ثم خصّ البيع لأنه في الإلهاء أدخل، من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شراء شيء يتوقع فيه الربح في الوقت الثاني، لأن هذا يقين وذاك مظنون، وإمّا أن يسمى الشراء تجارة، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع، كما تقول: رزق فلان تجارة رابحة، إذا اتجه له بيع صالح أو شراء. وقيل: التجارة لأهل الجلب، اتجر فلان في كذا: إذا جلبه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}، وروي ذلك عن ابن مسعود...
{رجال} مرفوع لأنه لما قال {يسبح له فيها} فكأنه قيل من يسبح؟ فقيل يسبح رجال...لم خص الرجال بالذكر؟
والجواب: لأن النساء لسن من أهل التجارات أو الجماعات...
إنه سبحانه بيّن أن هؤلاء الرجال وإن تعبدوا بذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك موصوفون بالوجل والخوف فقال: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} وذلك الخوف إنما كان لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{رجال} أيّ رجال {لا تلهيهم تجارة} أي ببيع أو شرى أو غيرهما، يظهر لهم فيها ربح.
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلبة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه، قال: {ولا بيع} أي وإن لم يكن على وجه التجارة، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة {عن ذكر الله} أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها، فهم في كل وقت في شهود ومراقبة لمن تعرف إليهم بصفات الكمال {و} لا يلهيهم ذلك عن {إقام الصلاة} التي هي طهرة الأرواح، أعادها بعد ذكرها بالتسبيح تصريحاً بها تأكيداً لها وحثاً على حفظ وقتها لأنه من جملة مقوماتها وكذا جميع حدودها ولو بأوجز ما يكون من أدنى الكمال -بما أشار إليه حرف التاء إشعاراً بأن هذا المدح لا يتوقف على أنهى الكمال {و} لا عن {إيتاء الزكاة} التي هي زكاء الأشباح ونماؤها، وخص الرجال مع أن حضور النساء المساجد سنة شهيرة، إشارة إلى أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لما روى أبو داود في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها "والمخدع: الخزانة. وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير مساجد النساء قعر بيوتهن "ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال:"قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي"، قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.
ولما وصف الرجال المذكورين بما وصفهم به، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال: {يخافون يوماً} وهو يوم القيامة، هو بحيث {تتقلب فيه} أي لشدة هوله، تقلباً ظاهراً- بما اشار إليه إثبات التاءين {القلوب والأبصار} أي بين طمع في النجاة، وحذر من الهلاك...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض، فيكون قوله: {وَلَا بَيْعٌ} من باب عطف الخاص على العام، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على {ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}، إن اتصال هذه الآية بما قبلها إعرابا وبيانا للمعاني واضح، لأن {رجال} فاعل ل {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، وقد بين سبحانه أحوال هؤلاء الرجال وصفاتهم، فقال: {لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} أما إنهم لا تلهيهم الحياة وما فيها عن ذكر الله، فهم في ذكر لله دائم، في تجارتهم يذكرون وفي بياعاتهم يذكرون الله تعالى، فذكر الله يجب أن تملأ به القلوب، لا يغفلون عن ذكره أبدا، وإذا ذكر الله تعالى في معاملاته الإنسانية كان في طهارة دائمة فلا يغش، ولا يداهن، ولا يبخس الناس أشياءهم، والصلاة شرعت في أوقاتها الخمس لدوام ذكر الله تعالى، فصلاة الفجر لملء النفس بذكر الله، فيقبل على الحياة، وهو ممتلئ بذكر الله تعالى، حتى إذا ابتدأ القلب يصدأ جاءت الظهر فجعلته وطهرته بذكر الله، حتى صلاة الأصيل ثم صلاة العشاءين، ويختم اليوم بتسبيح الله تعالى، وامتلاء الناس بذكره، ويستمر ذكر الله فيهم، ولا تلهيهم تجارة ولا بياعات، ولا أعمال الحياة عن ذكر الله أبدا؛ لأنهم في ذكر دائم بعبادة الله تعالى وخصوصا الصلاة، ولذا ذكر الصلاة وإقامتها، فقال تعالى: {وإقام الصلاة} وهذا من عطف الخاص على العام، وإقام الصلاة الإتيان بها مقومة مستقيمة بذكر الله تعالى في كل أركانها وكل عباراتها. والصلاة كما أشرنا تهذيب الروح واتصالها بالله، والمصلي وهو واقف لإقامتها يحس بأنه واقف في الحضرة الربانية، والله يراه وهو العليم بما في الصدور، وما تخفي الأنفس، وهؤلاء لا تلهيهم مطالب الحياة وغاياتها عن إيتاء الزكاة، وهي التعاون الاجتماعي الذي تقوم على دعائمه الحياة الإنسانية في الإسلام.
وإن الأساس للخلاص الكامل للمؤمن هو الإيمان بالبعث والنشور والقيامة والحساب، فإن ذلك يجعل الإنسان يحس بأن لحياته معنى وغاية، ولم يخلق عبثا أو سدى، بل إن له يوما يحاسب فيه على ما قدم وما كسب، ولذا قال في أوصاف الرجال الذين يعمرون مساجد الله {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}، أي يخافون يوم الفزع الأكبر، و {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} تضطرب، والتقلب التحول أي بمعنى تتحول وتنتقل من مكانها ثم تعود، وتكون في تحول ثم عودة، وهذا يدل على اضطرابها، وفزعها أشد ما يكون الفزع، وإن تقلب القلوب يكون بين الطمع والخوف، والرجاء والهلع، وتقلب الأبصار يكون بأن تتقلب حدقة العين في الحركة من الخوف، وهذا يدل على فزع واضطراب مستمر، كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم... (110)} [الأنعام].
وقد وصف هؤلاء الذين يعمرون بيوت الله بالذكر والتسبيح بأنهم:
} رجال لا تليهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار: {
قلنا: إن التجارة هي قمة حركة الحياة؛ لأنها واسطة بين منتج زارع أو صانع وبين مستهلك، وهي تقتضي البيع والشراء، وهما قمة التبادلات، وهؤلاء الرجال لم تلههم التجارة عن ذكر الله لأنهم عرفوا ما في الزمن المستقطع للصلاة من بركة تنثر في الزمن الباقي.
أو نقول: إن التجارة لم تلههم عن ذكر الله في ذاتها، فهم حال تجارتهم لا يغفلون عن ذكر الله، وقد كنا في الصغر نسمع في الأسواق بين البائع والمشتري، يقول أحدهما للآخر: وحد الله، صل على النبي، مدح النبي، بالصلاة على النبي، كل هذه العبارات انقرضت الآن من الأسواق والتعاملات التجارية وحل محلها قيم وعبارات أخرى تعتمد على العرض والإعلان، بل الغش والتدليس. ولم نعد نسمع هذه العبارات، حتى إذا لم يتم البيع كنت تسمع البائع يقول: كسبنا الصلاة على النبي، فهي في حد ذاتها مكسب حتى لو لم يتم البيع.
{وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} الصلاة لأنها تأخذ وقتا من العمال، وكثيرا ما ينشغل المرء بعمله وتجارته عن إقامة الصلاة ظانا أنها ستضيع عليه الوقت، وتفوت عليه مصالح كثيرة، وكذلك ينظر إلى الزكاة على أنها تنقص من ماله، وهذه نظرة خاطئة حمقاء؛ لأن الفلاح الذي يخرج من مخزنه أردبا من القمح ليزرع به أرضه: الأحمق يقول: المخزن نقص أردبا، أما العاقل فيثق أن هذا الأردب سيتضاعف عند الحصاد أضعافا مضاعفة.
أو: أن الله تعالى يفيض عليه من أنواره، فيبارك له في وقته، وينجز من الأعمال في الوقت المتبقى ما لا ينجزه تارك الصلاة، أو: يرزقه بصفقة رابحة تأتيه في دقائق، ومن حيث لا يحتسب، والبركة كما قلنا قد تكون سلبا وقد تكون إيجابا، وهذه كلها أنوار وتجليات يفيض الله بها على الملتزم بمنهجه.
ثم يقول سبحانه في صفات هؤلاء الرجال: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} ذلك لأنهم يتاجرون لهدف أسمى وأخلد، فأهل الدنيا إنما يتاجرون لصيانة دنياهم، أما هؤلاء فيتاجرون مع الله تجارة لن تبور، تجارة تصون الدنيا وتصون الآخرة.
وإذا قست زمن دنياك بزمن أخراك لوجدته هباء لا قيمة له، كما أنه زمن مظنون لعمر مظنون، لا تدري متى يفاجئك فيه الموت، أما الآخرة فحياة يقينية باقية دائمة، وفي الدنيا يفوتك النعيم مهما حلا وطال، أما الآخرة فنعيمها دائم لا ينقطع.
إذن: فهم يعملون للآخرة {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار}: واليوم في ذاته لا يخاف منه، وإنما يخاف ما فيه، كما يقول الطالب: خفت يوم الامتحان، واليوم يوم عادي لا يخاف منه، إنما يخاف مما سيحدث في هذا اليوم، فالمراد: يخافون عذاب هذا اليوم.
ومعنى {تتقلب فيه القلوب والأبصار} يعني: رجفة القلب واضطراب حركته، وما ينتابه من خفقان شديد، ونحن نرى ما يصيب القلوب من ذلك لمجرد أحداث الدنيا، فما بالك بهول الآخرة، وما يحدث من اضطراب في القلب؟.
كذلك تضطرب الأبصار وتتقلب هنا وهناك؛ لأنها حين ترى الفزع الذي يخيفها تتقلب، تنظر هنا وتنظر هنا علها ترى ما يطمئنها أو يخفف عنها ما تجد، لكن هيهات فلن ترى إلا فزعا آخر أشد وأنكى.