قوله تعالى : { لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب وأنذرهم يوم الآزفة } ، يعني : يوم القيامة ، سميت بذلك لأنها قريبة إذ كل ما هو آت قريب ، نظيره قوله عز وجل : { أزفت الآزفة } ( النجم-57 ) ، أي : قربت القيامة . { إذ القلوب لدى الحناجر } ، وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر ، فلا هي تعود إلى أماكنها ، ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ويستريحوا ، { كاظمين } ، مكروبين ممتلئين خوفاً وحزناً ، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حتى يضيق به . { ما للظالمين من حميم } ، قريب ينفعهم ، { ولا شفيع يطاع } ، فيشفع فيهم .
{ 18 - 20 } { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ } أي : يوم القيامة التي قد أزفت وقربت ، وآن الوصول إلى أهوالها وقلاقلها وزلازلها ، { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } أي : قد ارتفعت وبقيت أفئدتهم هواء ، ووصلت القلوب من الروع والكرب إلى الحناجر ، شاخصة أبصارهم . { كَاظِمِينَ } لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا وكاظمين على ما في قلوبهم من الروع الشديد والمزعجات الهائلة .
{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } أي : قريب ولا صاحب ، { وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } لأن الشفعاء لا يشفعون في الظالم نفسه بالشرك ، ولو قدرت شفاعتهم ، فالله تعالى لا يرضى شفاعتهم ، فلا يقبلها .
ثم يوجه الله - تعالى أمره إلى النبى صلى الله عليه وسلم بأن يحذر كفار قريش من أهوال هذا اليوم فيقول : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ . . } .
والآزفة : القيامة . وأصل معنى الأزفة : القريبة ، وسميت القيامة بذلك لقربها ، يقال : أزف - بزنة فرح - يوم الرحيل : إذا دنا وقرب .
والحناجر : جمع حنجرة وهى الحلقوم .
وكاظمين : حال من أصحاب القلوب على المعنى . فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها .
وأصل الكظم : الحبس والإِمساك للشئ . يقال : كظم القربة إذا ملأها بالماء ، وسد فاها ، حتى لا يخرج منها شئ من الماء .
والمعنى : وأنذر - أيها الرسول الكريم - الناس ، وحذرهم من أهوال يوم عظيم قريب الوقوع ، هذا اليوم تكون قلوبهم فيه مرتفعة عن مواضعها من صدورهم . ومتشبثة بحناجرهم ، ويكونون كاظمين عليها وممسكين بها حتى لا يخرج مع أنفساهم . كما يمسك صاحب القربة فمها لكى لا يتسرب منها الماء .
فالآية الكريمة تصوير يديع لما يكون عليه الناس فى هذا اليوم من فزع شديد ، وكرب عظيم . وخوف ليس بعده خوف .
والحديث عن قرب يوم القيامة قد جاء فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { اقتربت الساعة وانشق القمر . . } وقوله - سبحانه - { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } والظاهر أن قوله هنا { يَوْمَ الأزفة } هو المفعول الثانى للإِنذار ليس ظرفا له . لأن الإِنذار والتخويف من أهوال يوم القيامة واقع فى دار الدنيا .
وقوله : { إِذِ القلوب } بدل من يوم الآزفة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت " كاظمين " بم انتصب ؟ قلت : هو حال من أصحاب القلوب على المعنى ، لأن المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها . ويجوز أن يكون حالا من القلوب ، وأن القلوب ، كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر .
وإنما جُمِع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذى هو من أفعال العقلاء ، كما قال - تعالى - : { والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ . . . } وقوله - تعالى - : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } نفى لكون هؤلاء الظالمين يوجد فى هذا اليوم من ينفعهم أو يدافع عنهم .
والحميم : هو الإِنسان الذى يحبك ويشفق عليك ويهتم بأمرك ، ومنه قيل لخاصة الرجل : حَامَّتهُ .
والشفيع : من الشفع ، بمعنى الانضمام ، يقال شفع فلان لفلان إذا انضم إليه ليدافع عنه .
أى : ليس للظالمين فى هذا اليوم قريب أو محب يعطف عليهم ، ولا شفيع يطيعهم فى الشفاعة لهم ، لأنهم فى هذا اليوم يكونون محل غضب الجميع ونقمتهم ، بسبب ظلمهم وإصرارهم على كفرهم .
فالآية الكريمة نفت عنهم الصديق الذى يهتم بأمرهم ، والشفيع الذى يشفع لهم ، والإِنسان الذى تكون له أية كلمة تسمع فى شأنهم .
ويستطرد السياق يوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى إنذار القوم بذلك اليوم ، في مشهد من مشاهد القيامة يتفرد فيه الله بالحكم والقضاء ؛ بعدما عرضه عليهم في صورة حكاية لم يوجه لهم فيها الخطاب :
( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير ) . .
والآزفة . . القريبة والعاجلة . . وهي القيامة . واللفظ يصورها كأنها مقتربة زاحفة . والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة ، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر ؛ وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم ، والكظم يكربهم ، ويثقل على صدورهم ؛ وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ * وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : وأنذر يا محمد مشركي قومك يوم الاَزفة ، يعني يوم القيامة ، أن يُوافُوا الله فيه بأعمالهم الخبيثة ، فيستحقوا من الله عقابه الأليم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : يَوْمَ الاَزِفَةِ قال : يوم القيامة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الاَزِفَةِ يوم القيامة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الاَزِفَةِ قال : يوم القيامة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وأنْذِرْهُمْ يَوْمَ الاَزِفَةِ قال : يوم القيامة ، وقرأ : آزِفَتِ الاَزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللّهِ كاشِفَةٌ .
وقوله : إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمينَ يقول تعالى ذكره : إذ قلوب العباد من مخافة عقاب الله لدى حناجرهم قد شخصت من صدورهم ، فتعلقت بحلوقهم كاظميها ، يرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع ، ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتوا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ قال : قد وقعت القلوب في الحناجر من المخافة ، فلا هي تخرج ولا تعود إلى أمكنتها .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمِينَ قال : شخصت أفئدتهم عن أمكنتها ، فنشبت في حلوقهم ، فلم تخرج من أجوافهم فيموتوا ، ولم ترجع إلى أمكنتها فتستقرّ .
واختلف أهل العربية في وجه النصب كاظِمِينَ فقال بعض نحويي البصرة : انتصابه على الحال ، كأنه أراد : إذا القلوب لدى الحناجر في هذه الحال . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : الألف واللام بدل من الإضافة ، كأنه قال : إذا قلوبهم لدى حناجرهم في حال كظمهم . وقال آخر منهم : هو نصب على القطع من المعنى الذي يرجع من ذكرهم في القلوب والحناجر ، المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين . قال : فإن شئت جعلت قطعة من الهاء التي في قوله وأنْذِرهُمْ قال : والأوّل أجود في العربية ، وقد تقدم بيان وجه ذلك .
وقوله : ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يقول : جلّ ثناؤه : ما للكافرين بالله يومئذ من حميم يحم لهم ، فيدفع عنهم عظيم ما نزل بهم من عذاب الله ، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع ، ويُجاب فيما سأل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ قال : من يعنيه أمرهم ، ولا شفيع لهم .
وقوله : يُطاعُ صلة للشفيع . ومعنى الكلام : ما للظالمين من حميم ولا شفيع إذا شفع أطيع فيما شفع ، فأجيب وقبلت شفاعته له .
الأظهر أن يكون قوله : { وأنذِرْهم } وما بعده معترضاً بين جملة { إن الله سريع الحساب } [ غافر : 17 ] وجملة { يَعْلم خائِنة الأعيُن } [ غافر : 19 ] على الوجهين الآتيين في موقع جملة { يعلم خائنة الأعين } ، فالواو اعتراضية ، والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي التذكير بالاستعداد ليوم الحساب وهو يوم الآزفة .
ويوم الآزفة يوم القيامة . وأصل الآزفة اسم فاعل مؤنث مشتق من فعل أزِف الأمر ، إذا قرب ، فالآزفة صفة لموصوف محذوف تقديره : الساعة الآزفة ، أو القيامة الآزفة ، مثل الصاخّة ، فتكون إضافة { يوم } إلى { الآزفة } ، حقيقية . f وتقدم القول في تعدية الإِنذار إلى ( اليوم ) في قوله : { لتنذر يوم التلاقي } [ غافر : 15 ] .
( و { إذْ } بدل من { يوم } فهو اسم زمان منصوب على المفعول به ، مضاف إلى جملة { القلوب لدى الحناجر } و { أل } في { القُلُوبُ } و { الحناجر } عوض عن المضاف إليه . وأصله : إذْ قلوبهم لدى حناجرهم ، فبواسطة ( أل ) عُوض تعريف الإِضافة بتعريف العهد وهو رَأي نحاة الكوفة ، والبصريون يقدرون : إذ القلوب منهم والحناجر منهم والمعنى : إذ قلوب الذين تنذرهم ، يعني المشركين ، فأمَّا قلوب الصالحين يومئذٍ فمطمئنة .
والقلوب : البضعات الصنوبرية التي تتحرك حركة مستمرة ما دام الجسم حيًّا فتدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم .
والحناجر : جمع حَنْجَرة بفتح الحاء وفتح الجيم وهي الحُلقوم . ومعنى القلوب لدى الحناجر : أن القلوب يشتدّ اضطراب حركتها من فرط الجزع مما يشاهِده أهلها من بوارق الأهوال حتى تتجاوز القلوبُ مواضعها صاعدة إلى الحناجر كما قال تعالى في ذكر يوم الأحزاب : { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] .
وكاظم : اسم فاعل من كظَم كُظُوماً ، إذا احتبسَ نفَسُه ( بفتح الفاء ) . فمعنى { كاظمين } : اكنين لا يستطيعون كلاماً . فعلى هذا التأويل لا يقدَّر ل { كاظمين } مفعول لأنه عومل معاملة الفعل اللازم . ويقال : كَظَم كظماً ، إذا سَدّ شيئاً مجرى ماء أو باباً أو طريقاً فهو كاظم ، فعلى هذا يكون المفعول مقدراً . والتقدير : كاظمينها ، أي كاظمين حناجرهم إشفاقاً من أن تخرج منها قلوبهم من شدة الاضطراب . وانتصب { كاظمين } على الحال من ضمير الغائب في قوله : { أنذرهم } على أن الحال حال مقدرة . ويجوز أن يكون حالاً من القلوب على المجاز العقلي بإسناد الكاظم إلى القلوب وإنما الكاظم أصحاب القلوب كما في قوله تعالى : { فويل لهم مما كتبت أيديهم } [ البقرة : 79 ] وإنما الكاتبون هم بأيديهم .
وجملة { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع } في موضع بدل اشتمال من جملة { القُلُوب لدَى الحناجِر } لأن تلك الحالة تقتضي أن يستشرفوا إلى شفاعة من اتخذوهم ليَشفعوا لهم عند الله فلا يُلفون صديقاً ولا شفيعاً . والحميم : المحب المشفق .
والتعريف في { الظالمين } للاستغراق ليعم كل ظالم ، أي مشرك فيشمل الظالمين المنذَرين ، ومن مضى من أمثالهم فيكون بمنزلة التذييل ولذلك فليس ذكر الظالمين من الإِظهار في مقام الإِضمار .
ووصْفُ : { شفيع } بجملة { يطاع } وصْف كاشف إذ ليس أن المراد لهم شفعاء لا تطاع شفاعتهم لظهور قلة جدوى ذلك ولكن لما كان شأن من يتعرض للشفاعة أن يثق بطاعة المشفوع عنده له . وأُتبع { شفيع } بوصف { يطاع } لتلازمهما عرفاً فهو من إيراد نفي الصفة اللازمةِ للموصوف . والمقصودُ : نفي الموصوف بضرب من الكناية التلميحية كقول ابننِ أحمر :
ولا تَرى الضبَّ بها ينْجَحِرْ {[358]}
أي لا ضبّ فيها فينجحر ، وذلك يفيد مفاد التأكيد .
والمعنى : أن الشفيع إذا لم يُطَع فليس بشفيع . والله لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا إذا أذن له فلا يشفع عنده إلا مَن يُطاع .