قوله عز وجل : { واصبر نفسك } الآية ، نزلت في عيينة بن حصن الفراري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم ، وعنده جماعة من الفقراء ، فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها ، وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها ، فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها ، فإن أسلمنا أسلم الناس ، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك ، أو اجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً ، فأنزل الله عز وجل : { واصبر نفسك } أي : احبس يا محمد نفسك { مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي } طرفي النهار { يريدون وجهه } أي : يريدون الله ، لا يريدون به عرضاً من الدنيا . قال قتادة نزلت في أصحاب الصفة ، وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع ، يصلون صلاة وينتظرون أخرى ، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " . { ولا تعد } أي : لا تصرف ولا تتجاوز { عيناك عنهم } ، إلى غيرهم { تريد زينة الحياة الدنيا } أي : طلب مجالسة الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا . { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } أي : جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا ، يعني : عيينة ابن حصن . وقيل : أمية بن خلف ، { واتبع هواه } أي : مراده في طلب الشهوات { وكان أمره فرطاً } قال قتادة و مجاهد : ضياعاً . وقيل : معناه ضيع عمره وعطل أيامه . وقيل : ندماً . وقال مقاتل بن حيان : سرفاً . وقال الفراء : متروكاً . وقيل : باطلاً . وقيل : مخالفاً للحق . وقال الأخفش : مجاوزاً للحد . قيل : معنى التجاوز في الحد ، هو قول عيينة : إن أسلمنا أسلم الناس ، وهذا إفراط عظيم .
{ 28 } { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }
يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وغيره أسوته ، في الأوامر والنواهي -أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين { الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } أي : أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله ، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها ، ففيها الأمر بصحبة الأخيار ، ومجاهدة النفس على صحبتهم ، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد ، ما لا يحصى .
{ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي : لا تجاوزهم بصرك ، وترفع عنهم نظرك .
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فإن هذا ضار غير نافع ، وقاطع عن المصالح الدينية ، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا ، فتصير الأفكار والهواجس فيها ، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة ، فإن زينة الدنيا تروق للناظر ، وتسحر العقل ، فيغفل القلب عن ذكر الله ، ويقبل على اللذات والشهوات ، فيضيع وقته ، وينفرط أمره ، فيخسر الخسارة الأبدية ، والندامة السرمدية ، ولهذا قال : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } غفل عن الله ، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره .
{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي : صار تبعا لهواه ، حيث ما اشتهت نفسه فعله ، وسعى في إدراكه ، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه ، فهو قد اتخذ إلهه هواه ، كما قال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الآية . { وَكَانَ أَمْرُهُ } أي : مصالح دينه ودنياه { فُرُطًا } أي : ضائعة معطلة . فهذا قد نهى الله عن طاعته ، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به ، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به ، ودلت الآية ، على أن الذي ينبغي أن يطاع ، ويكون إماما للناس ، من امتلأ قلبه بمحبة الله ، وفاض ذلك على لسانه ، فلهج بذكر الله ، واتبع مراضي ربه ، فقدمها على هواه ، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته ، وصلحت أحواله ، واستقامت أفعاله ، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه ، فحقيق بذلك ، أن يتبع ويجعل إماما ، والصبر المذكور في هذه الآية ، هو الصبر على طاعة الله ، الذي هو أعلى أنواع الصبر ، وبتمامه تتم باقي الأقسام . وفي الآية ، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار ، لأن الله مدحهم بفعله ، وكل فعل مدح الله فاعله ، دل ذلك على أن الله يحبه ، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به ، ويرغب فيه .
ثم ساقت السورة الكريمة لونا من الأدب السامى ، والتوجيه العالى ، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون ، وأمرت النبى صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم ، فقال - تعالى - : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . } وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت فى أشراف قريش ، حين طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود . وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك . . وأمره أن يصبر نفسه فى الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
وصبر النفس معناه : حبسها وتثبيتها على الشئ ، يقال : صبرَت فُلانا أصْبِره صَبْراً ، أى : حبسته .
والغداة : أول النهار . والعشى . آخره .
والمعنى : عليك - أيها الرسول الكريم - أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك { الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } أى : يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات ، فى الصباح والمساء ، ويداومون على ذلك ، دون أن يريدوا شيئا من وراء هذه العبادة ، سوى رضا الله - تعالى - عنهم ورحمته بهم .
وفى تخصيص الغداة والعشى بالذكر : إشعار بفضل العبادة فيهما : لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور الدنيوية غالبا .
ويصح أن يكون ذكر هذين الوقتين المقصود به مداومة العبادة . وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله : قوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } أى : يعبدونه دائما . وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام . وهى نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن . يريدون به ضرب جميع البدن . وأبقى غير واحد اللفظين على ظاهرهما أى : يعبدونه فى طرفى النهار .
وقوله : { يريدون وجهه } مدح لهم بالإِخلاص والبعد عن الرياء والمباهاة . . فهم لا يتقربون إلى الله - تعالى - بالطاعات من أجل دينا يصيبونها . أو من أجل إرضاء الناس .
وإنما هم يبتغون بعبادتهم رضا الله - تعالى - وحده ، لا شيئا آخر من حظوظ الدنيا .
وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . } نهى له صلى الله عليه وسلم - عن الغفلة عنهم ، بعد أمره بحبس نفسه عليهم .
والفعل { تَعْدُ } بمعنى تصرف . يقال عداه عن الأمر عدوا إذا صرفه عنه وشغله .
أى : احبس نفسك مع هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه - سبحانه - ولا تصرف عيناك النظر عنهم ، وتتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء ، طمعا فى إسلامهم .
فالمراد بإرادة الحياة الدنيا الحرص على مجالسة أهل الغنى والجاه حبا فى إيمانهم .
وجملة { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } فى موضع الحال من الضمير المضاف إليه فى قوله { عيناك } ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } نهى آخر مؤكد لما قبله من حبس نفسه صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المؤمنين الفقراء ، وعدم صرف نظره عنهم إلى غيرهم من المتغطرسين الأغنياء .
والفرط - بضم الفاء والراء - : مجاوزة الحد ، ونبذ الحق والصواب ، واتباع الباطل والضلال . أى : ولا تطع - أيها الرسول الكريم - فى تنحية المؤمنين الفقراء عن مجلسك أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها ، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغى على الرشد . والذين كان أمرهم . فرطا أى : مخالفا للحق ، ومجاوزا للصواب ، ومؤديا للضياع والخسران .
قال ابن جرير - " بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى قوله - تعالى - : { فرطا } : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال معناه : ضياعا وهلاكا . من قولهم : أفرط فلان فى هذا الأمر إفراطاً ، إذا أسرف فيه . وتجاوز قدره . وكذلك قوله : { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } . معناه : وكان أمر هذا الذى أغفلنا قلبه عن ذكرنا فى الرياء والكبر واحتقار أهل الإِيمان سرفا قد تجاوز حده ، فضيع بذلك الحق وهلك " .
فالآية الكريمة تسوق للناس توجيها حكيما فى بيان القيم الحقيقية للناس ؛ وهى أنها تتمثل فى الإِيمان والتقوى ، لا فى الغنى والجاه .
فالمؤمن الصادق فى إيمانه ، الكريم فى أخلاقه . . هو الذى يحرص على مخالطة أهل الإِيمان والتقوى . ولا يمنعه فقرهم من مجالستهم ومصاحبتهم ومؤانستهم والتواضع لهم ، والتقدم إليهم بما يسرهم ويشرح صدورهم .
ولقد ربى النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا الخلق الكريم ، روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدى قال : " مر رجل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : " ما رأيك فى هذا ؟ " فقال : رجل من أشرف الناس ، هذا والله حرىٌّ إن خطب أن يزوج ، وإن شفع أن يشفع . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر : فقال له صلى الله عليه وسلم : " ما رأيك فى هذا " ؟ فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا والله حرى إن خطب أن لا يزوج ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " "
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَاصْبِرْ يا محمد نَفْسَكَ مَعَ أصحابك الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها يُرِيدُونَ بفعلهم ذلك وَجْهَهُ لا يريدون عرضا من عرض الدنيا .
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ في سورة الأنعام ، والصواب من
القول في ذلك عندنا ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . والقرّاء على قراءة ذلك : بالغَدَاة والعَشِيّ ، وقد ذُكر عن عبد الله بن عامر وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه : «بالغدوة والعشيّ » ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة ، لأن غدوة معرّفة ، ولا ألف ولا لام فيها ، وإنما يعرّف بالألف واللام ما لم يكن معرفة فأما المعارف فلا تعرّف بهما . وبعد ، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء ، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها ، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة وإنما تقول العرب : أتيتك غداة الجمعة ، ولا تقول : أتيتك غدوة الجمعة ، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القرّاء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك ، وللعلة التي بيّنا من جهة العربية .
وقوله : وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار ، ولا تجاوزهم إليه وأصله من قولهم : عدوت ذلك ، فأنا أعدوه : إذا جاوزته . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ قال : لا تجاوزهم إلى غيرهم .
حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول : لا تتعدّهم إلى غيرهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : واصْبِرْ نَفْسِكَ . . . الاَية ، قال : قال القوم للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا ، فجانبهم يا محمد ، وجالس أشراف العرب ، فنزل القرآن وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاة والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ولا تحقرهم ، قال : قد أمروني بذلك ، قال : وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطا .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ، أن هذه الاَية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بضع أبياته وَاصْبْر نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فخرج يلتمس ، فوجد قوما يذكرون الله ، منهم ثائر الرأس ، وجافّ الجلد ، وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم ، فقال : «الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ لِي فِي أُمّتي مَنْ أمرني أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ » ورُفعت العينان بالفعل ، وهو لا تعد .
وقوله : تُرِيدُ زِينَة الحَياةَ الدّنيْا يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تعدُ عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين ، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك ، وقال بعضهم : بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام ، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال ، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا ، قالوا : فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عليه : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثم كان يقوم إذا أراد القيام ، ويتركهم قعودا ، فأنزل الله عليه وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ . . . الاَية وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدّنيْا يريد زينة الحياة الدنيا : مجالسة أولئك العظماء الأشراف ، وفد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام .
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، وكان قارىء الأزد عن أبي الكنود ، عن خباب في قصة ذكرها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدّنيْا قال : تجالس الأشراف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرت أن عيينة بن حصن قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم : لقد آذاني ريح سلمان الفارسي ، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه ، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه ، فنزلت الاَية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أنه لما نزلت هذه الاَية قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «الحَمْدِ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ فِي أُمّتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدّنيْا قال : تريد أشراف الدنيا .
حدثنا صالح بن مسمار ، قال : حدثنا الوليد بن عبد الملك ، قال : سليمان بن عطاء ، عن مسلمة بن عبد الله الجهنيّ ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم ، فقالوا : يا نبيّ الله ، إنك لو جلست في صدر المسجد ، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف ، ولم يكن عليهم غيرها جلسنا إليك وحادثناك ، وأخذنا عنك فأنزل الله : وَاتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبّكَ لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجدَ مِنْ دُونهِ مُلْتَحَدا ، حتى بلغ إنّا أعْتَدْنا للظّالِمِينَ نارا يتهدّدهم بالنار فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله ، فقال : «الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَمْ يُمتْنِي حتى أمَرَنِي أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رجِالٍ مِنْ أُمّتِي ، مَعَكُمُ المَحيْا وَمَعَكُمُ المَماتُ » .
وقوله : وَلا تُطعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ عنك ، عن ذكرنا ، بالكفر وغلبة الشقاء عليه ، واتبع هواه ، وترك اتباع أمر الله ونهيه ، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه ، وهم فيما ذُكر : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم .
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا قال : عيُينة ، والأقرع .
وأما قوله : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وكان أمره ضياعا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال ابن عمرو في حديثه قال : ضائعا . وقال الحرث في حديثه : ضياعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ضياعا .
وقال آخرون : بل معناه : وكان أمره ندما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بدل بن المحبر ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، عن داود فُرُطا قال : ندامة .
وقال آخرون : بل معناه : هلاكا . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن عمرو ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال : هلاكا .
وقال آخرون : بل معناه : خلافا للحق . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال : مخالفا للحقّ ، ذلك الفُرُط .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : ضياعا وهلاكا ، من قولهم : أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا : إذا أسرف فيه وتجاوز قدره ، وكذلك قوله : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا معناه : وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر ، واحتقار أهل الإيمان ، سرفا قد تجاوز حدّه ، فَضَيّع بذلك الحقّ وهلك . وقد :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : قيل له : كيف قرأ عاصم ؟ فقال كانَ أمْرُهُ فُرُطا قال أبو كريب : قال أبو بكر : كان عُيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا .
{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } .
هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف ، فهو مشارك لقوله : { واتل ما أوحى إليك من كتاب } [ الكهف : 27 ] . الآية وتقدم في سورة الأنعام ( 52 ) عند قوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناساً أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتَوْا إلى مجالسة النبي واستمعوا القرآن ، فاقترحوا عليْه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش ، فرد الله عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة .
وما هنا آكدُ إذْ أمرَه بملازمتهم بقوله : واصبر نفسك } ، أي احبسها معهم حبس ملازمة . والصبر : الشد بالمكان بحيث لا يفارقه . ومنه سميت المَصْبورة وهي الدابة تشد لتُجعل غَرضاً للرمي . ولتضمين فعل ( اصبر ) معنى الملازمة علق به ظرف ( مع ) .
و{ الغداة } قرأه الجمهور بألف بعد الدال : اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس . والعَشي : المساء . والمقصود أنهم يدعون الله دعاءً متخللاً سائر اليوم والليلة . والدعاء : المناجاة والطلب . والمراد به ما يشمل الصلوات .
والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم ، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة . وقرأ ابن عامر { بالغَدْوَةِ } بسكون الدال وواو بعد الدال مفتوحة وهو مرادف الغداة .
وجملة { يريدون وجهه } في موضع الحال . ووجه الله : مجاز في إقباله على العبد .
ثم أكّد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم .
وظاهر { ولا تعد عيناك عنهم } نَهْي العينين عن أن تَعْدُوَا عن الذين يدعون ربهم ، أي أن تُجاوزاهم ، أي تبعُدَا عنهم . والمقصود : الإعراض ، ولذلك ضمن فعل العَدْو معنى الإعراض ، فعدي إلى المفعول ب ( عن ) وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال : عداه ، إذا جاوزه . ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما ، فيؤول إلى معنى : ولا تعدّي عينيك عنهم . وهو إيجاز بديع .
وجملة { تريد زينة الحياة الدنيا } حال من كاف الخطاب ، لأن المضاف جزء من المضاف إليه ، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت .
وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة وجعلوا همّهم الصور الظاهرة .
{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }
هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون . والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تُجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم .
وما صدق ( مَن ) كل من اتصف بالصلة ، وقيل نزلت في أمية بن خَلَف الجُمَحي ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة قريش .
والمراد بإغفال القلب جعله غافلاً عن الفكر في الوحدانية حتى راج فيه الإشراك ، فإن ذلك ناشىء عن خلقة عقول ضيفة التبصر مسوقة بالهوى والإلف .
وأصل الإغفال : إيجاد الغفلة ، وهي الذهول عن تذكر الشيء ، وأريد بها هنا غفلة خاصة ، وهي الغفلة المستمرة المستفادة من جعل الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في خِلقة تلك القلوب ، وما بالطبع لا يتخلف .
وقد اعتضد هذا المعنى بجملة { واتبع هواه } ، فإن اتباع الهوى يكون عن بصيرة لا عن ذهول ، فالغفلة خلقة في قلوبهم ، واتباع الهوى كسب من قدرتهم .
والفُرُط بضمتين : الظلم والاعتداء . وهو مشتق من الفُروط وهو السبق لأن الظلم سبْق في الشر .
وزيادة فعل الكون للدلالة على تمكن الخبر من الاسم ، أي حالة تمكن الإفراط والاعتداء على الحق .