فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

ثم شرح سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } قد تقدّم في الأنعام نهيه صلى الله عليه وسلم عن طرد فقراء المؤمنين بقوله : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] وأمره سبحانه ههنا بأن يحبس نفسه معهم ، فصبر النفس هو حبسها ، وذكر الغداة والعشي كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات ، وقيل : في طرفي النهار ، وقيل المراد : صلاة العصر والفجر . وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن وابن عامر ( بالغدوة ) بالواو ، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو . قال النحاس : وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول : الغدوة ، ومعنى { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } : أنهم يريدون بدعائهم رضي الله سبحانه ، والجملة في محل نصب على الحال ، ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي : لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم . قال الفراء : معناه لا تصرف عيناك عنهم ، وقال الزجاج : لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة ، واستعماله بعن لتضمنه معنى النبوّ ، من عدوته عن الأمر ، أي : صرفته منه ، وقيل : معناه : لا تحتقرهم عيناك { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } أي : مجالسة أهل الشرف والغنى ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : حال كونك مريداً لذلك ، هذا إذا كان فاعل تريد هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الفاعل ضميراً يعود إلى العينين ، فالتقدير : مريدة زينة الحياة الدنيا ، وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز ، وتوحيد الضمير للتلازم كقول الشاعر :

لمن زحلوقة زل *** بها العينان تنهلّ

{ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } أي : جعلناه غافلاً بالختم عليه ، نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه ، فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله ، ومع هذا فهم ممن اتبع هواه وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } أي : متجاوزاً عن حدّ الاعتدال ، من قولهم : فرس فرط : إذا كان متقدماً للخيل فهو على هذا من الإفراط . وقيل هو : من التفريط ، وهو التقصير والتضييع . قال الزجاج : ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه .

/خ31