إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

{ واصبر نَفْسَكَ } احبِسها وثبِّتها مصاحِبةً { مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } أي دائبين على الدعاء في جميع الأوقاتِ ، وقيل : في طرفي النهار ، وقرئ بالغُدوة على أن إدخال اللام عليها وهي علمٌ في الأغلب على تأويل التنكيرِ بهم ، والمرادُ بهم فقراءُ المؤمنين مثلُ صُهيبٍ وعمارٍ وخبابٍ ونحوِهم رضي الله عنهم ، وقيل : أصحابُ الصُّفَّة وكانوا نحو سبعِمائة رجل ، قيل : إنه قال قومٌ من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحِّ هؤلاء المواليَ الذين كأن ريحَهم ريحُ الضأن حتى نجالسَك كما قال قومُ نوحٍ عليه السلام : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } فنزلت . والتعبيرُ عنهم بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخَصلة الداعيةِ إلى إدامة الصحبة { يُرِيدُونَ } بدعائهم ذلك { وَجْهَهُ } حالٌ من المستكنِّ في يدْعون أي مريدين لرضاه تعالى وطاعته .

{ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي لا يجاوِزْهم نظرُك إلى غيرهم ، مِن عدَاه أي جاوزه ، واستعمالُه بعن لتضمينه معنى النبوِّ أو لا تصرِفْ عيناك النظرَ عنهم إلى غيرهم ، من عدَوتُه عن الأمر أي صرفتُه عنه على أن المفعولَ محذوفٌ لظهوره ، وقرئ ولا تُعْدِ عينيك من الإعداء والتعدية ، والمرادُ نهيُه عليه السلام عن الازدراء بهم لرثاثة زِيِّهم طموحاً إلى زِيّ الأغنياء { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } أي تطلب مجالسةَ الأشراف والأغنياءِ وأصحابِ الدنيا ، وهي حالٌ من الكاف على الوجه الأولِ من القراءة المشهورة ومن الفاعل على الوجه الثاني منها ، وضمير تريد للعينين وإسنادُ الإرادةِ إليه مجازٌ وتوحيدُه للتلازم كما في قوله : [ الهزج ]

لمن زُحْلوفةٌ زُل *** بها العينان تنهلُّ{[517]}

ومن المستكنّ في الفعل على القراءتين الأخيرتين { وَلاَ تُطِعِ } في تنحية الفقراءِ عن مجالسك { مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي جعلناه غافلاً لبطلان استعدادِه للذكر بالمرة أو وجدناه غافلاً ، كقولك : أجبَنْتُه وأبخلتُه إذا وجدتُه كذلك أو هو مِنْ أَغفلَ إبِلَه أي لم نسمِّه بالذكر { عَن ذِكْرِنَا } كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراءِ عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقاتِ ، وفيه تنبيهٌ على أن الباعثَ له على ذلك الدعاءِ غفلةُ قلبه عن جناب الله سبحانه وجهته وانهماكُه في الحسيات حتى خفيَ عليه أن الشرفَ بحِلْية النفس لا بزينة الجسد ، وقرئ أغفلَنا قلبُه ، على إسناد الفعل إلى القلب أي حسِبَنا غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة ، من أغفلتُه إذا وجدتُه غافلاً { واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ضيَاعاً وهلاكاً أو متقدماً للحق والصواب نابذاً له وراءَ ظهره ، من قولهم : فرسٌ فرُطٌ أي متقدِّمٌ للخيل أو هو بمعنى الإفراط والتفريطِ فإن الغفلةَ عن ذكره سبحانه تؤدّي إلى إتباع الهوى المؤدِّي إلى التجاوز والتباعُدِ عن الحق والصواب ، والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة .


[517]:البيت لامرئ القيس في ملحق ديوانه ص 472، وجمهرة اللغة ص 59، وخزانة الأدب 7/556، والدرر 1/150، ولسان العرب (ألل،زلل)؛ وهمع الهوامع 1/50، والزحلوقة والزحلوفة (بالفاء والقاف): آثار انزلاق الصبيان من أعلى التل إلى أسفله. أو هي من ألعاب الصبيان انظر لسان العرب (زحلف).