تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

27

المفردات :

واصبر نفسك : احبسها وثبتها .

بالغداة والعشي : أي : في طرفي النهار ، وخصهما بالذكر ؛ لأنهما محل الغفلة ، وفيهما يشتغل الناس بأمور دنياهم .

وجهه : رضاه وطاعته ؛ لأن من رضي عن شخص يقبل عليه ، ومن غضب عليه يعرض عنه .

ولا تعد عيناك عنهم : لا تصرف عيناك عنهم إلى أبناء الدنيا ، والمراد : لا تحتقرهم ، وتصرف النظر إلى غيرهم لرثاثة منظرهم .

تريد زينة الحياة الدنيا : تطلب مجالسة ما لم يكن مثلهم من الأغنياء ، وأصحاب الثراء .

أغفلنا قلبه : جعلناه غافلا .

فرطا : تفريطا وتضييعا لما يجب عليه أن يتبعه من أمر الدين .

28- { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } .

لقد جاء الإسلام ؛ ليسوي بين الناس أمام الله ، فالخلق كلهم عيال الله ، يتفاضلون عنده بالتقوى ، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح ، وكان كفار قريش وأغنياؤها ، يطلبون من النبي أن يطرد الفقراء عن مجلسه ، أو يجعل للأغنياء مجلسا خاصا بهم ، فإذا دخل هؤلاء الأغنياء في الإسلام ؛ دخل خلفهم خلق كثير من الأتباع لهم ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه ، بالاستجابة لهذا العرض ، أو فكر فيه .

فنزل القرآن الكريم ؛ يحثه على رفض هذا العرض ؛ فالإسلام دين الوحدة والجماعة ، وإذا دخل الإيمان في القلب ؛ أحب المؤمن بربه ، وأحب إخوانه المؤمنين ، وهانت عليه مظاهر الحياة ، والإسلام لا يحرم الغنى ولا المال ولا الجاه ، ما دام صاحبها يقدم أوامر الله وواجباته ؛ ولكن الإسلام يحرم أن يكون المال والجاه ، هما الهدف من هذه الحياة ؛ لأنهما في وضعهما الصحيح وسيلة إلى مرضاة الله ، والهدف الأساسي هو مرضاة الله وطاعته .

{ وصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } .

يقول القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم : صاحب وجالس هؤلاء المؤمنين ، الذين أخلصوا أنفسهم لله ، وتوجهوا إليه بالدعاء في الصباح والمساء .

{ ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } .

لا تتحول عنهم ، ولا تنصرف عنهم ، ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمع بها الأغنياء ، أصحاب زينة الحياة الدنيا .

قال ابن عباس : لا تجاوزهم إلى غيرهم ؛ تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة .

{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } .

أي : لا تطع كلام الذين سألوك : طرد المؤمنين ؛ فقلوبهم غافلة عن ذكر الله وقد شغلوا عن الدين وعبادة ربهم بالدنيا .

{ واتبع هواه وكان أمره فرطا } .

لقد اتبعوا أهوائهم ، أهواء الجاهلية ، فالناس عندهم قسمان قسم : غني قوي بسلطان ووجاهة ، وهؤلاء يحكمون ويفكرون ويملكون ، وهم أهل الوجاهة والسيادة . وقسم : فقير ضائع ، لا يجوز أن يفكر ولا أن يجلس مع الأغنياء .

فلما جاء الإسلام ؛ رفض هذا المنطق ؛ وبين : أن الناس أمام الله سواء ؛ يتفاضلون عنده بالتقوى ويدركون ثوابه بالعمل الصالح .

{ وكان أمره فرطا } . أي : كان أمره ضياعا ، وهلاكا ، ودمارا .

قال ابن جرير الطبري :

{ وكان أمره فرطا } .

معناه : وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر واحتقر أهل الإيمان ، سرفا قد تجاوز حده ؛ فضيع بذلك الحق وهلك .

من هدي السنة

روى الشيخان عن سهيل بن سعد الساعدي قال : مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : ( ما رأيك في هذا ؟ ) فقال رجل من أشرف الناس : هذا والله حري إن خطب أن يزوّج ، وإن شفع أن يشفّع ؛ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل آخر من فقراء المسلمين فقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل : ( ما رأيك في هذا ؟ ) قال يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين . هذا والله حري إن خطب ألا يزوّج ، وإن شفع ألا يشفّع ، وإن قال ألا يسمع لقوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا )30 .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله ، لا يريدون بذلك إلا وجهه ؛ إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورا لكم ؛ قد بُدّلت سيئاتكم حسنات )31 .