تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

الآية28 : وقوله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون بالغداة والعشي } { واصبر نفسك } بالغداة والعشي مع الذين يدعون ربهم ، فيكون فيه الأمر بالجلوس لهم بالغداوات والعشيات للتذكير وتعليم العلم على ما تعارف الناس الجلوس للناس كذلك في هذين الوقتين ؛ إذ ذانك الوقتان خاليان عن الأشغال التي تشغلهم عن ذلك : الغَداةَ والعَشِيُّ لما لم يجعل عليهم بعد صلاة الغداة صلاة وكذلك العصر للذكر الذي ذكرنا وتعليم ما يحتاجون في ليلهم ونهارهم .

أو أن يكون ذلك كناية عن صلاة الفجر والعصر لما جاء لهما من فضل ووعد{[11543]} لم يجيء في غيرهما من الصلوات نحو ما ذكر{ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } ( الإسراء : 78 ) وأما ما روي في العصر من الوعيد ( فهو ){[11544]} ( من فاته العصر فكأنما وتر أهله وماله ) ( مسلم626/201 ) ونحو أمر يصبر نفسه على حفظ هذين لما ذكرنا مع ذكر .

أو أن يكون لا على إرادة غدوة أو عشي ، ولكن بالكون مع أتباعه في كل وقت والصبر معهم .

وقال أهل التأويل : ذكر هذا لأن رؤساء كفار مكة سألوه أن يطرد أتباعه من عنده ، ويتخذ لهم مجلسا . فنزل قوله { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الآية ( الأنعام : 52 ) وقوله : { واصبر نفسك ) .

وقالوا في قوله : { واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته } نزل في أصحاب الكهف يقول : وأخبرهم ما سألوك مما أوحينا إليك من أخبار أصحاب الكهف ، ولا تزد{[11545]} ، ولا تنقص عليه . فإن كان في أمرهم نزل هذا فرسول الله كان لا يخبرهم إلا ما أوحي إليه ، وأُنْزِلَ عليه من أمرهم . والوجه فيه ما ذكرنا{[11546]} ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تعد عيناك عنهم } قيل : ولا تتعد عنهم إلى غيرهم وقيل : لا تصرف ، ولا ترفع عينيك عنهم ( ولا ){[11547]} تجاوزهم إلى غيرهم { تريد زينة الحياة الدنيا } هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : إن كان على تأويل أهل التأويل أنهم سألوه أن يتخذ لهم مجلسا دون أولئك فيكون تأويل قوله : { تريد زينة الحياة الدنيا } أي تريد أولئك الذين يطلبون منك مجلسا على حدة ، يريدون بذلك زينة الحياة الدنيا لا يريدون بذلك وجه الله .

والثاني : لو فعلت ما سألوك كان فعل ذلك فعل من يريد زينة الحياة الدنيا ، لأن المجلس الذي يحضره الأشراف والرؤساء إنما يراد به زينة الحياة الدنيا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } تأويل الآية على قولنا ظاهر ؛ نحن نقول على ما نطق ظاهر لآية : { من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } أي من خلقنا ظلمة الكفر بكفرهم في قلوبهم ، أو خذلناهم بكفرهم الذي فعلوا . وأما المعتزلة فإنهم قد تحيروا فيه ، وتاهوا ، وأكثروا التأويلات فيه حتى إن منهم من صرف القراءة عن وجهها ، فقال { ولا تطع من } أغفلنا بنصب اللام ، وقال{[11548]} : قلبه برفع الباء ؛ معناه : أي من غفل قلبه عن ذكرنا ، على قول المعتزلة ، على صرف الفعل إلى القلب . وكذلك قالوا في قوله : { من شر ما خلق }{[11549]} ( الفلق : 2 ) لِيَصِّحَ على مذهبهم ، ويستقيم .

ومنهم من قال : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } أي لا تطع من وجدنا قلبه غافلا ، وقال : وذلك مستقيم في اللغة .

يقال : ( قاتلناهم فما أجبناهم ){[11550]} أي ما وجدناهم جبناء ، ويقال : فسألناهم ، فما أبخلناهم ، أي ما وجدناهم بخلاء ، ونحوه من الكلام ، وهو تأويل الجبائي في ما أظن .

وقال بعضهم : { ولا تطع من أغفلنا قلبه } أي من خلينا بينه وبين ما يغفل ( عنه ){[11551]} وهو كما يقال لمن خلى عبده حتى أفسد كثيرا من الناس ؛ يقال : سلطت عبدك على الناس ، وهو لا يسلطه عليهم ، لكنه يقال له لما قدر على منعه عن ذلك والحيلولة بينه وبين ما فعل ، أضيف ذلك إليه ، فعلى ذلك قوله : { أغفلنا قلبه عن ذكرنا } أي خلينا بينهم وبين ما فعلوا ، ولم نمنعهم ؛ وهو تأويل جعفر بن حرب .

وقال بعضهم : أضاف ذلك إلى نفسه للأسباب التي أعطاهم من السعة والغنى والشرف في الدنيا . فتلك الأسباب التي أعطاهم هي التي حملتهم على ذلك ، فأضيف إليه ذلك لذلك ، وهو ما قال : { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } ( الزخرف : 32 ) وهو تأويل أبي بكر الأصم .

وقال الحسن : { أغفلنا قبله } أي خذلناهم ، وطبعنا على قلوبهم ، وهو يقول : { إن للكفر حدا ، إذا بلغ ( الكافر ){[11552]} ذلك الحد يخذله ، ويطبع على قلبه ، فلا يؤمن أبدا ، فيقال : خذله في أول حال كفره ، فهو قولنا . وإن قال لا في أول حاله ، ولكن بعد زمان ، فهو كافر مرفق{[11553]} ومؤمن مخذول على قوله . فنعود الله مما قالوا .

ثم الجواب للأول ما ذكرنا من صرف التنزيل عن وجهه وظاهره . فلو جاز لهم ذلك ( جاز ){[11554]} لغيرهم صرف جميع الآيات عن ظاهر التنزيل ، وذلك بعيد محال .

وأما تأويل الجبائي : أي وجدناهم كذا ، فإنما يسوغ له هذا إذا كان جميع حروف أفعل يُخَرَّجُ على ما يقوله في اللغة . فأما أن يقال في بعض فإن ذلك غير مستقيم .

وبعد فإنه لو كان كما ذكر لكان يقول : ولا تطع من أغفلته عن ذكرنا ، أي وجدته غافلا عن ذكرنا ، لأنه نهى عن أن يطيع من وجده غافلا . فهو لا يعلم من ( وجده الله غافلا . إنما يعلم من ){[11555]} وجده{[11556]} بنفسه غافلا .

فأما إذا ذكرنا لم يكن للنهي عما ذكر معنى . فدل أن تأويله فاسد وخبال ، وأن إضافته إليه لمعنى يكون من الله .

وأما جواب تأويل جعفر بن حرب أنه على التخلية والتسليط فهو إنما يقال لمن قال : {[11557]} سَلَّطْتَ عبدك على كذا على الذم لا على المدح ، فلا يجوز أن يقال ذلك في الله على الذم ، ويضاف إليه أيضا ذلك .

وكذلك يقال لأبي بكر حين{[11558]} قال : إنما أضاف ذلك إليه للأسباب التي ذكر أنه أعطاهم ؛ يقال له ذلك ، ويضاف على الذم : إنك أعطيت كذا حتى فعل كذا . فأما أن يقال على المدح فلا . فيبطل قوله وتأويله .

فدلت إضافة ذلك إلى نفسه أنه كان منه في ذلك معنى تستقيم إضافته إليه . وهو ما ذكرنا من خلق الظلمة في قلوبهم بكفرهم الذي اختاروا وخذلانه إياهم لما اختاروا ، وآثروا والله أعلم .

وقوله تعالى : { وكان أمره فرطا } قال بعضهم : { فرطا }{[11559]} أي ضياعا وهلاكا . وقال بعضهم : { فرطا } أي خسرانا وخسارا .

وقل أبو عوسجة { فرطا } هو من التفريط . وقال غيره : ( فرط ){[11560]} في القول ليس كما قال : إنا رؤوس من مضر إن تسلم يسلم الناس بعدنا على ما ذكر في بعض القصة . وقال أبو عبيدة{[11561]} : { فرطا } أي ندما .


[11543]:الواو ساقطة من الأصل و.م.
[11544]:ساقطة من الأصل و.م.
[11545]:ساقطة من الأصل و.م: تزيد.
[11546]:من م، في الأصل: ذكر.
[11547]:ساقطة من الأصل و.م.
[11548]:في الأصل و.م: و، وانظر معجم القراءات القرآنية ح3/361.
[11549]:من شر ما خلق بالتنوين والبناء للمجهول، انظر معجم القراءات القرآنية ح8/277.
[11550]:في الأصل: فأتيناهم فما أوجبناهم، في م: قاتلناهم فما أوجبناهم.
[11551]:ساقطة من الأصل و.م.
[11552]:ساقطة من الأصل و.م.
[11553]:في الأصل و.م: موفق.
[11554]:ساقطة من الأصل و.م.
[11555]:من م، ساقطة من الأصل.
[11556]:في الأصل و. م: وجدهم.
[11557]:في الأصل و.م: يقال.
[11558]:في الأصل و.م: حيث.
[11559]:من م،ساقطة من الأصل.
[11560]:من م ساقطة من الأصل.
[11561]:في م: عبيد.