قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً } . يعني مكة وقيل : الحرم أي ذا أمن يأمن فيه أهله .
قوله تعالى : { وارزق أهله من الثمرات } . إنما دعا بذلك لأنه كان بواد غير ذي زرع ، وفي القصص أن الطائف كانت من بلاد الشام بأردن ، فلما دعا إبراهيم عليه السلام هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى قلعها من أصلها ، وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه ، فمنها أكثر ثمرات مكة .
قوله تعالى : { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } . دعاء للمؤمنين خاصة .
قوله تعالى : { قال } . الله تعالى .
قوله تعالى : { ومن كفر فأمتعه } . قرأ ابن عامر فأمتعه خفيفاً بضم الهمزة والباقون مشدداً ومعناهما واحد .
قوله تعالى : { قليلاً } . أي سأرزق الكافر أيضاً قليلاً إلى منتهى أجله ، وذلك أن الله تعالى وعد الرزق للخلق كافة مؤمنهم وكافرهم ، وإنما قيد بالقلة لأن متاع الدنيا قليل .
قوله تعالى : { ثم أضطره } . أي ألجئه في الآخرة .
قوله تعالى : { إلى عذاب النار وبئس المصير } . أي المرجع يصير إليه .
قال مجاهد : وجد عند المقام كتاب فيه : " أنا الله ذو بكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر ، وحرمتها يوم خلقت السماوات والأرض ، وحففتها بسبعة أفلاك حنفاء ، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل ، مبارك لها في اللحم والماء " .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
أي : وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت ، أن يجعله الله بلدا آمنا ، ويرزق أهله من أنواع الثمرات ، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين ، تأدبا مع الله ، إذ كان دعاؤه الأول ، فيه الإطلاق ، فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم .
فلما دعا لهم بالرزق ، وقيده بالمؤمن ، وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر ، والعاصي والطائع ، قال تعالى : { وَمَنْ كَفَرَ } أي : أرزقهم كلهم ، مسلمهم وكافرهم ، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله ، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة ، وأما الكافر ، فيتمتع فيها قليلا { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } أي : ألجئه وأخرجه مكرها { إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } أي : أضرع إليك يا إلهي أن تجعل الموضع الذي فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس ، ويأمنون فيه من الخوف ، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان .
والمشار إليه بقوله : { هذا } مكة المكرمة . والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة .
والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد ، وإنما يلحقان أهل البلد .
قال الإِمام الرازي : وإنما قال هنا { بَلَداً آمِناً } على التنكير ، وقال في سورة إبراهيم { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } على التعريف لوجهين :
الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً .
والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة .
والثاني : أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً ، فقوله : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } تقديره : أجعل هذا البلد بلداً آمنا كقولك : كان اليوم يوماً حاراً ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفة بالحرارة ، لأأن التنكير يدل على المبالغة فقوله : رب اجعل هذا البلد بلداً آمنا معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن . وأما قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلا طلب الامن لا طلب المبالغة .
أما الدعوة الثانية التي توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن في قوله :
{ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } .
أي : كما أسألك يا إلهي أن تجعل هذا لبلد بلداً آمنا . أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم ، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك .
وقوله : " ارزق " مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره .
والثمرات : جمع ثمرة ، وهي ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات . وإنما طلب إبراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلدا آمناً ، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن ، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة ، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة .
وقال في دعائه : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون ، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه ، لذا أتبع قوله : { وارزق أَهْلَهُ } بقوله : { مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا { مَنْ آمَنَ } هو المقصود بطلب الرزق .
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإِيمان بين سكان مكة ، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإِيمان ، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدباً مع الله - تعالى - إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإِجابة ، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } فقال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإِجراء رزق الله عليهم .
واقتصر على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمنين لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإِيمان بكتب الله ورسله وملائكته .
ثم بين - سبحانه - مصير الكافرين فقال : { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } .
الضمير في ( قال ) يعود إلى الله - تعالى - ومن في قوله ( من كفر ) منصوب بفعل مقدر دلي عليه " فأمتعه " والمعنى : قال الله وأرزق من كفر وايراد المتكلم قولا من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر مألوف في اللغة العربية ، ويحسن موقعه عندما يقتضي المقام إيجازاً في القول ، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلباً لأن يقال : قال الله أرزق من آمن ومن كفر .
{ فَأُمَتِّعُهُ } : من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به . و { قَلِيلاً } : وصف لمصدر محذوف في النظم ، والمعنى : أمتعه تمتيعاً قليلا . ووصف التمتع في الدنيا بالقلة ، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع .
و { أَضْطَرُّهُ } أي الجثة وأسوقه بعد متاعه في الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الإِنفكاك عنه وجملة " ثم اضطره إلى عذاب النار " احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا .
{ وَبِئْسَ } فعل يستعمل لذم المرفوع بعده ، وهو ما يسميه النحاة بالمخصوص بالذم ، ووردت هنا لذم النار المقدرة في الجملة ، والمعنى : بئس المصير النار . أي أنها مصير سيء كما قال تعالى في آية أخرى .
{ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير ، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى :
{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة في الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإِيمان على وجه يشبه الإِلجاء . وقد قضت حكمته - تعالى - أن يكون الإِيمان اختيارياً حتى ينساق الإِنسان من طريق النظر في أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ، قَالَ : وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنا } : واذكروا إذ قال إبراهيم : ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، يعني بقوله : آمنا : آمنا من الجبابرة وغيرهم أن يسلطوا عليه ، ومن عقوبة الله أن تناله ، كما تنال سائر البلدان ، من خسف ، وانتقال ، وغرق ، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن الحرم حُرّم بحياله إلى العرش ، وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط ، قال الله له : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمان الطوفان حين أغرق الله قوم نوح رفعه وطهّره ولم تصبه عقوبة أهل الأرض ، فتتبع منه إبراهيم أثرا فبناه على أساس قديم كان قبله .
فإن قال لنا قائل : أَوَ ما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان ؟
قيل له : لقد اختُلِف في ذلك ، فقال بعضهم : لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه ، منذ خلقت السموات والأرض . واعتلوا في ذلك بما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، قال : سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلاً من هُذيل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : «يا أَيّها النّاسُ إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا يَحِلّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِها دَما ، أوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرا . ألا وَإِنّهَا لاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلّ لِي إِلاّ هَذِهِ السّاعَةَ عصي عليّ أَهْلُها . ألا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ على حالِهَا بالأمْسِ . ألا لِيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغَائِبَ ، فمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها ، فقولوا : إنّ الله قَدْ أَحَلّهَا لرسولِهِ ولم يُحِلّها لكَ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير جميعا ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة حين افتتحها : «هَذِهِ حَرَمٌ حَرّمَهَا اللّهُ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَخَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الأخْشَبَيْنِ ، لَمْ تَحِلّ لأحَدٍ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي ، أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ » .
قالوا : فمكة منذ خلقت حَرَمٌ آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة .
قالوا : وقد أخبرَت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها .
قالوا : ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة ، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجُدوب والقحُوط ، وأن يرزق ساكنه من الثمرات ، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } .
قالوا : وإنما سأل ربه ذلك ، لأنه أسكن فيه ذرّيته ، وهو غير ذي زَرْعٍ ولا ضَرْع ، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا ، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه .
قالوا : وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم ، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه ، وهو القائل حين حله ، ونزله بأهله وولده : { رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ } ؟ قالوا : فلو كان إبراهيم هو الذي حرّم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال : «عند بيتك المحرّم » ، عند نزوله به ، ولكنه حرّم قبله ، وحرّم بعده .
وقال آخرون : كان الحرم حلالاً قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره ، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه ، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .
قالوا : والدليل على ما قلنا من ذلك ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ بَيْتَ اللّهِ وأَمّنَهُ ، وإني حَرّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لابَتَيْها لا يُصَادُ صَيْدُها وَلا تُقْطَعُ عِضَاهُها » .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا عبد الرحيم الرازي ، سمعت أشعث ، عن نافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللّهِ وَخَلِيلَهُ ، وإني عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ ، وَإِنّ إِبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ وإني حَرّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عِضَاهَا وَصَيْدَها ، وَلاَ يُحْمَلُ فِيها سِلاحٌ لِقِتالٍ ، وَلا يُقْطَعُ مِنْها شَجَرٌ إلا لعَلَفِ بَعِيرٍ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إِبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ ، وإني أُحَرّمُ المَدِينَةَ مَا بَيْتَ لاَبَتَيْها » . وأما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب .
قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال : { رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا }ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض ، فليس لأحد أن يدّعي أن الذي سأله من ذلك الأمان له من بعض الأشياء دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها .
قالوا : وأما خبر أبي شريح وابن عباس فخبران لا تثبت بهما حجة لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها ، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرّمها يوم خلق السموات والأرض بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، ولكن بمنعه من أرادها بسوء ، وبدفعه عنها من الاَفات والعقوبات ، وعن ساكنيها ما أحلّ بغيرها وغير ساكنيها من النقمات فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله ، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل ، فسأل حينئذٍ إبراهيم ربه إيجاد فرض تحريمها على عباده على لسانه ، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه ، يستنّون بها فيها ، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلاً ، وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدى به ، فأجابه ربه إلى ما سأله ، وألزم عباده حينئذٍ فرض تحريمه على لسانه ، فصارت مكة بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده ، ومحرّمة بدفع الله عنها بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام ، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها ، واستحلال صيدها وعضاهها ، بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ » لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به ، دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكِلاءة والحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه ، لزم العباد فرضه دون غيره .
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين ، أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ » . وخبر جابر وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اللّهُمّ إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ » وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الاَخر كما ظنه بعض الجهال .
وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها ، وقد جاء الخبران اللذان رُويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه .
وقول إبراهيم عليه السلام : { رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ } ، فإنه إن يكن قال قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه ، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرّمه بحياطته إياه وكلاءته من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك . وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد ، فلا مسألة لأحد علينا في ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } .
وهذه مسألة من إبراهيم ربه أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات دون كافريهم . وخصّ بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين لما أعلمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده ، والظالم الذي لا يدرك ولايته . فلما أعلم أن من ذرّيته الظالم والكافر ، خصّ بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة المؤمن منهم دون الكافر ، وقال الله له : إني قد أجبت دعاءك ، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم ، فأمتعه به قليلاً . وأما «مَنْ » في قوله : مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فإنه نصب على الترجمة والبيان عن الأهل ، كما قال تعالى : يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتَالِ فِيهِ بمعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وكما قال تعالى ذكره : { ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } بمعنى : ولله حجّ البيت على من استطاع إليه سبيلاً .
وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك لأنه حلّ بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل ، فسأل أن يرزق أهله ثمرا ، وأنه يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه نقل الله الطائف من فلسطين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا هشام ، قال : قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ نقل الله الطائف من فلسطين .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً .
اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول وفي وجه قراءته ، فقال بعضهم : قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره ، وتأويله على قولهم :
{ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } برزقي من الثمرات في الدنيا إلى أن يأتيه أجله . وقرأ قائل هذه المقالة ذلك : { فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } بتشديد التاء ورفع العين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، عن أُبيّ بن كعب في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ اضْطَرّهُ إِلَى عَذَابِ النّارِ } قال : هو قول الربّ تعالى ذكره .
حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق لما قال إبراهيم : { رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية ، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف أمره ، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كان منهم ظالم لا ينال عهده ، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله : وَمَنْ كَفَرَ فإني أرزق البرّ والفاجر فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً .
وقال آخرون : بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمَن على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام ، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلاً ، ثم اضْطَرّهُ إلى عذاب النار بتخفيف «التاء » وجزم «العين » وفتح «الراء » من اضْطَرّه ، وفصل «ثم اضطره » بغير قطع ألفها ، على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال أبو العالية : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } يقول : ومن كفر فأرزقه أيضا ثم اضطره إلى عذاب النار .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل ، ما قاله أُبيّ بن كعب وقراءته ، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك ، وشذوذ ما خالفه من القراءة . وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهُو ، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله .
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : قال الله : يا إبراهيم قد أجبت دعوتك ، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم ، ثم اضطرّ كفارهم بعد ذلك إلى النار .
وأما قوله : { فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } يعني : فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة ، فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره . وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه .
وقال بعضهم : تأويله : فأمتعه بالبقاء في الدنيا . وقال غيره : فأمتعه قليلاً في كفره ما أقام بمكة ، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عنها . وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه لما وصفنا .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { ثُمّ أضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها ، كما قال تعالى ذكره : { يَوْمَ يُدَعّونَ إلى نارِ جَهَنّمَ دَعّا } .
ومعنى الاضطرار : الإكراه ، يقال : اضطررت فلانا إلى هذا الأمر : إذا ألجأته إليه وحملته عليه . فذلك معنى قوله : { ثُمّ اضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } أدفعه إليها ، وأسوقه سحبا وجرّا على وجهه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبِئْسَ المَصِير } .
قد دللنا على أن «بِئْس » أصله «بَئِس » من البؤس ، سُكّن ثانيه ونقلت حركة ثانية إلى أوله ، كما قيل للكَبِد كِبْدٌ ، وما أشبه ذلك . ومعنى الكلام : وساء المصير عذاب النار ، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها . وأما المصير فإنه مفعل من قول القائل : صرت مصيرا صالحا ، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار .
عطف على { وإذ جعلنا البيت مثابة } [ البقرة : 125 ] لإفادة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا ، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة ، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنيناً إلى أحوالهم ، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله ، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا : { ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } [ البقرة : 125 ] .
واسم الإشارة في قوله : { هذا بلداً } مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان الذي عليه امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء ، أوا لذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء ، فإن الاستحضار بالذات مغن عن الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم الإشارة حينئذ واضح .
وأصل أسماء الإشارة أن يستغنى بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبييناً لفظياً لأن الإشارة بيان ، وقد يزيدون الإشارة بياناً فيذكرون بعد اسم الإشارة اسماً يعرب عطف بيان أو بدلاً من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا الرجل يقول كذا ، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتماداً على حضور المراد من اسم الإشارة . وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو الواقع عند الدعاء ، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلداً آمناً ورزق أهله من الثمرات ، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا ترى أنه لما جعل البلد مفعولاً ثانياً استغنى عن بيان اسم الإشارة ، وفي سورة إبراهيم ( 35 ) لما جعل { آمناً } مفعولاً ثانياً بين اسم الإشارة بلفظ ( البلد ) ، فحصل من الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمناً .
والبلد المكان المتسع من الأرض المتحيز عامراً أو غامراً ، وهو أيضاً الأرض مطلقاً ، قال صَنَّان اليشكري :
لَكِنَّه حَوْضُ مَن أَوْدَى بإخْوَتِهِ *** رَيْبُ المَنونِ فأضحى بَيْضَة البلد
يريد بيضة النعام في أدحيّ النعام أي محل بيضه ، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى أهلها بها وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة والظاهر أن دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر ، ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصاً لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولاً بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه ، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطوراً والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات .
والآمن اسم فاعل من أمن ضد خاف ، وهو عند الإطلاق عدم الخوف من عدو ومن قتال وذلك ما ميز الله مكة به من بين سائر بلاد العرب ، وقد يطلق الأمن على عدم الخوف مطلقاً فتعين ذكر متعلقه ، وإنما يوصف بالأمن ما يصح اتصافه بالخوف وهو ذو الإدراكية ، فالإخبار بآمنا عن البلد إما بجعل وزن فاعل هنا للنسبة بمعنى ذا أمن كقول النابغة : * كليني لهم يا أميمة ناصب * أي ذي نصب ، وإما على إرادة آمنا أهله على طريقة المجاز العقلي لملابسة المكان . ثم إن كان المشار إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضاً فيها بيت أو بيتان . فالتقدير في الكلام اجعل هذا المكان بلداً آمناً أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة .
وإن كان المشار إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام « الكشاف » هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له وأما حكاية دعوته في سورة إبراهيم ( 35 ) بقوله : { اجعل هذا البلد آمناً } فتلك دعوة له بعد أن صار بلداً .
ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة فإن أمن البلاد والسبُلِ يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها ، وهو يستتبع التعمير والإقبالَ على ما ينفع والثروةَ فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة ، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام .
والثَّمَرات جمع ثَمَرة وهي ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له ، وكأن اسمه منتسب من اسم التمر بالمثناة فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمرَ الرَّطب وبالمثناة التمر اليابس .
وللثمرة جموع متعددة وهي ثَمَر بالتحريك وثِمَار ، وثُمر ، بضمتين ، وأَثمار ، وأثامير ، قالوا : ولا نظير له في ذلك إلا أَكمة جُمعت على أَكَم وإِكَامٍ وأُكُم وآكام وأكاميم .
والتعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عُرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء مِن التي للتبعيض ، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه .
وقوله : { من آمن منهم بالله } بدل بعضٍ من قوله { أهله } يفيد تخصيصه لأن أهله عام إذ هو اسم جمع مضاف وبَدل البعض مخصص .
وخَصَّ إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيُوع الإيمان لساكِنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان ، فجَعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثاً لهم على الإيمان ، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالاً أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : { ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] فقال : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] أن غير المؤمنين ليسوا أهلاً لإجراء رزق الله عليهم وقد أعقب الله دعوته بقوله : { ومن كفر فأمتعه قليلاً } .
ومقصد إبراهيم من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال ، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر قرناً .
وجملة ؛ { قال ومن كفر فأمتعه } جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة ، وضمير { قال } عائد إلى الله ، فمن جوز أن يكون الضمير في { قال } لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله : { فأمتعه } .
وقوله : { ومن كفر } الأظهر أنه عطف على جملة : { وارزق أهلَه } باعتبار القَيد وهو قوله : { من آمن } فيكون قوله : { ومن كفر } مبتدأ وضُمن الموصول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على طريقة شائعة في مثله ، لما قدمناه في قوله : { ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] أن عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادراً من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلاً على حصول الغرض من الإنشاء والزيادة عليه ، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرَهم ، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم .
ومعنى ( أمتعه ) أَجعلُ الرزقَ له متاعاً ، و { قليلاً } صفة لمصدر محذوف لبعد قوله : { فأمتعه } والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله : { ثم أضطره إلى عذاب النار } .
وفي هذه الآية دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنِعَم الدنيا ، وقال الأشعري لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في الدنيا ملاذ على وجه الاستدراج ، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري والماتريدي ، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظياً وإن عده السبكي في عداد الخلاف المعنوي .
وقوله : { ثم أضطره إلى عذاب النار } احتراس من أن يَغتر الكافر بأنَّ تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذُكر العذاب هنا .
و ( ثم ) للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجُمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى العذاب متأخراً عن تمتيعه بالمتاع القليل .
والاضطرار في الأصل الالتجاء وهو بوزن افتعل مطاوع أَضره إذا صيره ذا ضرورة أي حاجة ، فالأصل أن يكون اضطر قاصراً لأن أصل المطاوعة عدم التعدي ولكن الاستعمال جاء على تعديته إلى مفعول وهو استعمال فصيح غيرُ جار على قياسٍ يقال اضطرَّهُ إلى كذا أي ألجأه إليه ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان ( 24 ) : { نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } .
وقوله : { وبئس المصير } تذييل والواو للاعتراض أو للحال والخبر محذوف هو المخصوص بالذم وتقديره هي .