المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }( 126 )

وقوله تعالى : { وإذا قال إبراهيم } الآية ، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد العيش ، و { اجعل } لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء ، و { آمناً } معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلات( {[1242]} ) التي تحل بالبلاد .

وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفراً لا ماء فيه ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره ، ونبتت فيها أنواع الثمرات .

وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين ، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعاً وأنزلها بوجّ( {[1243]} ) ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف( {[1244]} ) .

واختلف في تحريم مكة متى كان ؟ فقالت فرقة : جعلها الله حراماً يوم خلق السموات والأرض ، وقالت فرقة : حرمها إبراهيم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح( {[1245]} ) ، والثاني قاله أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عنه : «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها حرام »( {[1246]} )

ولا تعارض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه ، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان ، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور( {[1247]} ) ، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه ، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضاً من قبل الله تعالى من نافذ قضائه وسابق علمه ، و { من } بدل من قوله { أهله } ، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه . ( {[1248]} )

وقوله تعالى : { ومن كفر } الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما : هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم ، وقرؤوا «فأمتّعه » بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء ، «ثم أضطُّره » بقطع الألف وضم الراء ، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر ، فإنه قرأ «فأمْتِعه » بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء ، { ثم أضطره } بقطع الألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه » كما قرأ ابن عامر «ثم إضطره » بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال ، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه » «ثم نضطره »( {[1249]} ) ، و { من } شرط والجواب في { فأمتعه } ، وموضع { من } رفع على الابتداء والخبر( {[1250]} ) ، ويصح أن يكون موضعها نصباً على تقدير وأرزق من كفر ، فلا تكون شرطاً .

وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هذا القول هو من إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وقرؤوا «فأَمْتعه » بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره » بوصل الألف وفتح الراء ، وقرئت بالكسر ، ويجوز فيها الضم ، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره » بإدغام الضاد في الطاء ، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطُره » بضم الطاء .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين( {[1251]} ) .

و { قليلاً } معناه مدة العمر ، لأن متاع الدنيا قليل ، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال : متاعاً قليلاً : وإما لزمان ، كأنه قال : وقتاً قليلاً أو زمناً قليلاً ، و { المصير } مفعل كموضع من صار يصير : و «بيس » أصلها بئس ، وقد تقدمت في «بيسما »( {[1252]} ) ، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلاً ، لأنه فان منقض ، وأصل المتاع الزاد ، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله ، قال الشاعر [ سليمان بن عبد الملك ] : [ الطويل ]

وَقَفْتُ على قَبْرٍ غريبٍ بقفرةٍ . . . متاع قليل من حبيبٍ مفارقِ( {[1253]} )

ومنه تمتيع الزوجات( {[1254]} ) ، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره .


[1242]:- جمع مثلة وهي العقوبة، ومنه قوله تعالى: (وقد خلت من قبلهم المثلات) أي أنواع العذاب التي أصابت القرون الماضية.
[1243]:- بلد بالطائف، وقيل: هو الطائف، وقيل: واد بالطائف، انظر القاموس.
[1244]:- يعني أن الطائف قطعة من الشام ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام.
[1245]:- أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس وغيره.
[1246]:- خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وفي اللسان: اللابة: هي الأرض، ألبستها حجارة سود، (عن الأصمعي)، والجمع لابات.
[1247]:- وحاصله أنه لا منافاة بين الأحاديث التي أثبتت أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وبين الأحاديث التي أثبتت أن إبراهيم حرمها، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل حرما آمنا عند الله من قبل بناء إبراهيم عليه السلام، كما أن رسول الله كان مكتوبا عند الله خاتم النبيئين وأن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه. وأجاب شيخ التفسير الإمام (ط) رحمه الله بأنها كانت حراما، إلا أن الله لم يتعبد الخلق بذلك فلما سأله إبراهيم عليه السلام حرمها وتعبدهم بذلك، وكل من الجوابين له موضع حسن.
[1248]:- أي لما سبق من قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) فدعا هنا للمؤمنين دون الظالمين تأدبا مع الله تبارك وتعالى.
[1249]:- تعددت القراءات في هذا المقام، وحاصل ذلك أن قراءة السبعة، وقراءة ابن وثاب، وقراءة أبي بن كعب، وقراءة ابن محيص، وقراءة يزيد بن أبي حبيب- هذه القراءات كلها تدل على الخبرية في الفعلين معا- وأن القول من الله تعالى لإبراهيم- وأما قراءة ابن عباس ومجاهد وغيرهما فهي على الأمر في الفعلين معا، ويكون القول عليها من إبراهيم عليه السلام، وهذه القراءة شاذة، ويأباها السياق، ولا يقبلها نظم الكلام، والله أعلم. وقد خلط ابن عطية رحمه الله في عرض القراءات فتأمل.
[1250]:- عبارة أبي حيان: "ومن يحتمل أن تكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: وأرزق من كفر فأمتعه، ويكون فأمتعه معطوفا على ذلك الفعل المحذوف- ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء إما موصولا وإما شرطا، والفاء جواب الشرط أو الداخلة في خبر الموصول لشبهه باسم الشرط، وهو توضيح لما قاله ابن عطية رحمه الله، الذي قد يأتي أحيانا بشيء من الإجحاف والإلفاف في كلامه".
[1251]:- مبني على قراءة الأمر، وهي قراءة ابن عباس ومن معه.
[1252]:- ابن عطية وأكثر علماء المغرب العربي يميلون إلى التسهيل و التخفيف، ويعدون عدم الهمز أولى من الهمز.
[1253]:- هذا البيت تقدم عند قوله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) وقد أنشده سليمان بن عبد الملك بعد دفن ولده أيوب- ومن المعروف أن الوقوف على القبر آخر ما يكون من الأعمال بين الأقارب والأنساب.
[1254]:- فإنه يكون في آخر الحياة الزوجية عند الطلاق.