تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا}، يعني: مكة...
{وارزق أهله} من المقيمين بمكة.
{من الثمرات من آمن منهم بالله}: من صدق منهم بالله.
{واليوم الآخر} وصدق بالله أنه واحد لا شريك له، وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، فأما مكة فجعلها الله أمنا، وأما الرزق، فإن إبراهيم اختص بمسائلته الرزق للمؤمنين.
{قال ومن كفر فأمتعه}، أي قال الله عز وجل: والذين كفروا أرزقهم أيضا مع الذين آمنوا، ولكنها لهم متعة من الدنيا.
{قليلا ثم أضطره} ألجئه إن مات على كفره
{إلى عذاب النار وبئس المصير}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنا}: واذكروا إذ قال إبراهيم: ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا، يعني بقوله:"آمنا": آمنا من الجبابرة وغيرهم أن يسلطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان، من خسف، وانتقال، وغرق، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره... فإن قال لنا قائل: أَوَ ما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان؟
قيل له: لقد اختُلِف في ذلك، فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والأرض. واعتلوا في ذلك بما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، قال: سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلاً من هُذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: «يا أَيّها النّاسُ إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا يَحِلّ لأمرئ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِها دَما، أوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرا. ألا وَإِنّهَا لاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلّ لِي إِلاّ هَذِهِ السّاعَةَ عصي عليّ أَهْلُها. ألا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ على حالِهَا بالأمْسِ. ألا لِيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغَائِبَ، فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها، فقولوا: إنّ الله قَدْ أَحَلّهَا لرسولِهِ ولم يُحِلّها لكَ».
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير جميعا، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة حين افتتحها: «هَذِهِ حَرَمٌ حَرّمَهَا اللّهُ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَخَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الأخْشَبَيْنِ، لَمْ تَحِلّ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي، أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ».
قالوا: فمكة منذ خلقت حَرَمٌ آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة.
قالوا: وقد أخبرَت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها.
قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجُدوب والقحُوط، وأن يرزق ساكنه من الثمرات، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ}.
قالوا: وإنما سأل ربه ذلك، لأنه أسكن فيه ذرّيته، وهو غير ذي زَرْعٍ ولا ضَرْع، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه.
قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه، وهو القائل حين حله، ونزله بأهله وولده: {رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ}؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرّم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال: «عند بيتك المحرّم»، عند نزوله به، ولكنه حرّم قبله، وحرّم بعده.
وقال آخرون: كان الحرم حلالاً قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك ما:
حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ بَيْتَ اللّهِ وأَمّنَهُ، وإني حَرّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لابَتَيْها لا يُصَادُ صَيْدُها وَلا تُقْطَعُ عِضَاهُها»... وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب.
قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال: {رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا} ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض، فليس لأحد أن يدّعي أن الذي سأله من ذلك الأمان له من بعض الأشياء دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرّمها يوم خلق السموات والأرض بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها ما أحلّ بغيرها وغير ساكنيها من النقمات فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل، فسأل حينئذٍ إبراهيم ربه إيجاد فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه، يستنّون بها فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلاً، وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدى به، فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذٍ فرض تحريمه على لسانه، فصارت مكة بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرّمة بدفع الله عنها بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها، بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ» لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به، دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكِلاءة والحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، لزم العباد فرضه دون غيره.
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين، أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ». وخبر جابر وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللّهُمّ إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ» وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الاَخر كما ظنه بعض الجهال.
وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها، وقد جاء الخبران اللذان رُويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه.
وقول إبراهيم عليه السلام: {رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ}، فإنه إن يكن قال قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرّمه بحياطته إياه وكلاءته من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك. وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد، فلا مسألة لأحد علينا في ذلك.
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}:
وهذه مسألة من إبراهيم ربه أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات دون كافريهم. وخصّ بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين لما أعلمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده، والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أعلم أن من ذرّيته الظالم والكافر، خصّ بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة المؤمن منهم دون الكافر، وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قليلاً. وأما «مَنْ» في قوله: "مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ "فإنه نصب على الترجمة والبيان عن الأهل، كما قال تعالى: "يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتَالِ فِيهِ "بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وكما قال تعالى ذكره: {ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} بمعنى: ولله حجّ البيت على من استطاع إليه سبيلاً.
وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك لأنه حلّ بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل، فسأل أن يرزق أهله ثمرا، وأنه يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم.
"قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً":
اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول وفي وجه قراءته؛ فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره، وتأويله على قولهم: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً} برزقي من الثمرات في الدنيا إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك: {فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً} بتشديد التاء ورفع العين... قال ابن إسحاق: لما قال إبراهيم: {رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كان منهم ظالم لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله: وَمَنْ كَفَرَ فإني أرزق البرّ والفاجر فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً.
وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمَن على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلاً، ثم اضْطَرّهُ إلى عذاب النار بتخفيف «التاء» وجزم «العين» وفتح «الراء» من اضْطَرّه، وفصل «ثم اضطره» بغير قطع ألفها، على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل، ما قاله أُبيّ بن كعب وقراءته، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهُو، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم اضطرّ كفارهم بعد ذلك إلى النار.
وأما قوله: {فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً} يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة، فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه.
وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا. وقال غيره: فأمتعه قليلاً في كفره ما أقام بمكة، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه لما وصفنا.
{ثُمّ أضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ}: ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها، كما قال تعالى ذكره: {يَوْمَ يُدَعّونَ إلى نارِ جَهَنّمَ دَعّا}.
ومعنى الاضطرار: الإكراه، يقال: اضطررت فلانا إلى هذا الأمر: إذا ألجأته إليه وحملته عليه. فذلك معنى قوله: {ثُمّ اضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ} أدفعه إليها، وأسوقه سحبا وجرّا على وجهه.
{وَبِئْسَ المَصِير}: قد دللنا على أن «بِئْس» أصله «بَئِس» من البؤس، سُكّن ثانيه ونقلت حركة ثانية إلى أوله. ومعنى الكلام: وساء المصير عذاب النار، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها. وأما المصير فإنه مفعل من قول القائل: صرت مصيرا صالحا، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} لما علم أن المكان ليس بمكان ثمر ولا عشب دعا، وسأل ربه أن يرزق أهله عطفا على أهله وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق.
احدها: أنه لما أمرهما بتطهير البيت من الأصنام والأوثان، ظن أنه لا يجعل لسوى أهل الإيمان هنالك مقاما، فخصهم بالدعاء وسؤال الرزق.
والثاني: أنه أراد أن يجعل آية من آيات الله ليرغب الكفار إلى دين الله، فيصيروا أمة واحدة، فكان كقوله: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمان} الآية [الزخرف: 33]. ووجه آخر:...لما كان قيل له {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] فلعله خشي أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان.
{ومن كفر فأمتعه قليلا} بالنعم، لأن الدنيا دار محنة لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق ولا إلى الولي من العدو في الدنيا. وأما الآخرة فهي دار جزاء ليست بدار محنة، فتوجب النظر إلى المستحق.
ومعنى قوله: {قليلا} لأن الدنيا كلها قليل. ثم الامتحان على وجهين: امتحان بالنعم، وامتحان بالشدائد...
وقوله: {وبئس المصير} أي بئس ما صاروا إليه]...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ليجمع لأهله الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله جلّ ذكره: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا}. السؤال إذا لم يكن مشوبًا بحظِّ العبد كان مستجابًا، ولم يكن سؤال إبراهيم هذا لحظِّ نفسه، وإنما كان لِحقِّ ربِّه عزَّ وجلَّ. ولمَّا حفظ شرط الأدب طلب الرزق لمن آمن منهم على الخصوص أجيب فيهم وفي الذين لم يؤمنوا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم خصّ إبراهيم صلوات الله عليه المؤمنين حتى ردّ عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة فعرّف الفرق بينهما، لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له. والمعنى: وأرزق من كفر فأمتعه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اجعل} لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء، واختلف في تحريم مكة متى كان؟ فقالت فرقة: جعلها الله حراماً يوم خلق السموات والأرض، وقالت فرقة: حرمها إبراهيم. قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح، والثاني قاله أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عنه: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها حرام» ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضاً من قبل الله تعالى من نافذ قضائه وسابق علمه،
{قليلاً} معناه مدة العمر، لأن متاع الدنيا قليل، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال: متاعاً قليلاً: وإما لزمان، كأنه قال: وقتاً قليلاً أو زمناً قليلاً،
و {المصير} مفعل كموضع من صار يصير: و «بيس» أصلها بئس...
و [أمتعه] معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلاً، لأنه فان منقض، وأصل المتاع الزاد، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله... ومنه تمتيع الزوجات.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
والمتعة: أخذ الحظ من لذة ما يشتهي.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من أحوال إبراهيم عليه السلام التي حكاها الله تعالى ههنا، قال القاضي: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: {رب اجعل هذا بلدا آمنا} لا يمكن إلا بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} وإن كان متأخرا في التلاوة فهو متقدم في المعنى...
[و] المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمنا كثير الخصب، وهذا مما يتعلق بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها. والجواب عنه من وجوه،
(أحدها): أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمنا وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى، وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.
(وثانيها): أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة.
(وثالثها): لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة...
[و] إنما قال في هذه السورة: {بلدا آمنا} على التنكير وقال في سورة إبراهيم: {هذا البلد آمنا} على التعريف لوجهين.
(الأول): أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع} فقال: ههنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة...
(الثاني): أن تكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المكان بلدا، فقوله: {اجعل هذا بلدا آمنا} تقديره: اجعل هذا البلد بلدا آمنا...
لأن التنكير يدل على المبالغة، فقوله: {رب اجعل هذا بلدا آمنا} معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: {رب اجعل هذا البلد آمنا} فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة...
وأما قوله: {وارزق أهله من الثمرات} فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم، فاستجاب الله تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء، أما قوله: {من آمن منهم} فهو يدل من قوله: {أهله} يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة، وهو كقوله: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}
واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوما كفارا بقوله: {لا ينال عهدي الظالمين} لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس أما النص فقوله تعالى: {فلا تأس على القوم الكافرين}. وأما القياس فمن وجهين:
(الوجه الأول): أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، قال الله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} فصار ذلك تأديبا في المسألة، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم أن الله تعالى أعلمه بقوله: {فأمتعه قليلا} الفرق بين النبوة ورزق الدنيا، لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين، لأنه لابد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار، أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق، فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه، ومن كفر فالنار مستقره ومأواه.
(الوجه الثاني): يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب...
{ومن كفر فأمتعه قليلا}... والمعنى أن الله تعالى كأنه قال: إنك وإن كنت خصصت بدعائك المؤمنين فإني أمتع الكافر منهم بعاجل الدنيا، ولا أمنعه من ذلك ما أتفضل به على المؤمنين إلى أن يتم عمره فأقبضه ثم اضطره في الآخرة إلى عذاب النار، فجعل ما رزق الكافر في دار الدنيا قليلا، إذ كان واقعا في مدة عمره، وهي مدة واقعة فيما بين الأزل والأبد، وهو بالنسبة إليهما قليل جدا، والحاصل أن الله تعالى بين أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة، بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت وتتخلص منه إلى الآخرة...
أما قوله: {ثم أضطره إلى عذاب النار} فاعلم أن في الاضطرار قولين:
(أحدهما) أن يفعل به ما يتعذر عليه الخلاص منه وههنا كذلك، كما قال الله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} و {يوم يسبحون في النار على وجوههم} يقال: اضطررته إلى الأمر أي ألجأته وحملته عليه من حيث كان كارها له، وقالوا: إن أصله من الضر وهو إدناء الشيء من الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوها وقربها...
(والثاني): أن الاضطرار هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختيارا، كقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة، وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى: أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والاستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه، لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار، ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير، لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
فإن قيل: لم قال: في البقرة {بلدا آمنا} فعرف في إبراهيم، ونكر في البقرة؟ أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: قاله أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير وهو أنه تقدم في البقرة ذكر البيت في قوله: {القواعد من البيت} [البقرة:127]، وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد الذي هو فيه، فلم يحتج إلى تعريف، بخلاف آية إبراهيم، فإنها لم يتقدم قبلها ما يقتضي ذكر البلد ولا المعرفة به، فذكره بلام التعريف.
الجواب الثاني: قاله السهيلي: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم لأنها مكية فلذلك قال فيه البلد بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها فلم يعرفها بلام الحضور، وفي هذا نظر؛ لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم عليه السلام، فلا فرق بين نزوله بمكة أو المدينة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر}: لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة، دعا الله للبلد بالأمن، وبأن يجبى له الأرزاق. فإنه إذا كان البلد ذا أمن، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح. وذكر متعلق الإيمان، وهو الله تعالى واليوم الآخر، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود، وبما يليق به تعالى من الصفات، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به، وهم الأنبياء. فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء، وبما جاؤوا به. فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به، اقتصر على ذلك، لأن غيره في ضمنه.
ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم، ولا يختص ذلك بذريته، وإن كان ظاهر قوله: {وارزقهم من الثمرات} مختصاً بذريته لقوله: {إني أسكنت من ذريتي} لعود الضمير في وارزقهم عليه، فيحتمل أن يكونا سؤالين.
ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم، وهو البدل، إذ ذكر مرتين.
و...المتاع... كل ما انتفع به والمتعة: ما يتبلغ به من الزاد... والوصف بالقلة لسرعة انقضائه، إما لحلول الأجل، وإما بظهور محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله، أو يخرجه عن هذا البلد، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها، أو بالرزق، أو بالبقاء في الدنيا
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
و لما ذكر أمر البيت الشريف فيما تكفل به سبحانه وفيما أمر به الخليل و ولده عليهما السلام من تطهيره، ذكر باهتمامه بأهله ودعائه لهم مبكتاً لمن عقّه من ذريته بالتصريح بكفرهم بيوم الجزاء الأمر بكل خير الزاجر عن كل ضير فقال: {وإذ قال إبراهيم رب} فأسقط أداة البعد إنباء بقربه كما هو حال أهل الصفوة {اجعل هذا} أي الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنته من ذريتي...
ولما كان السياق للمنع من المسجد وللسعي في خرابه وكان ذلك شاملاً بعمومه للبادي ولذلك قرر أنه مثابة للناس عامة وأمنٌ كان الأنسب تنكير البلد فقال: {بلداً} يأنس من يحل به {آمناً} إفصاحاً بما أفهمه {وإذ جعلنا البيت} [البقرة: 125] الآية، والمعنى أنكم عققتم أعظم آبائكم في دعوتيه كلتيهما: في كونه بلداً فإنه إذا انقطع الناس عن أهله خرب، وفي كونه آمناً، وهذا بخلاف ما يأتي في سورة إبراهيم عليه السلام...
ولما ذكر القرار والأمن أتبعه الرزق وقال: {وارزق أهله}...
وقال: {من آمن منهم بالله} الجامع لصفات الكمال {واليوم الآخر} تقييداً لدعوة الرزق بما قيدت به دعوة الإمامة تأدباً معه حيث قال: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] {قال} الله تعالى معلماً أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض {ومن كفر} أي أنيله أيضاً ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق، وعبر عن ذلك بقوله: {فأمتعه} تخسيساً له بما أفهمه لفظ المتاع بكونه كما مضى من أسماء الجيفة التي إنما هي منال المضطر على شعور يرفضه على قرب من مترجي الغناء عنها، وأكد ذلك بقوله: {قليلاً} لكن فيه إيماء إلى أنه يكون أطيب حالاً في الدنيا وأوسع رزقاً من المؤمن، وكذا في قوله: {ثم أضطره} بما لي من العظمة الباهرة {إلى عذاب النار} أي بما أستدرجه به من النعم الحاملة له على المعاصي التي هي أسباب النقم.
وفي التعبير بلفظ الاضطرار إلى ما لا يقدم عليه أحد باختيار إشعار بإجبار الله خلقه على ما يشاء منهم من إظهار حكمته وأن أحداً لا يقدر على حركة ولا سكون إلا بمشيئته؛ والاضطرار الإلجاء إلى ما فيه ضرر بشدة وقسر.
ولما كان التقدير: فبئس المتاع ما ذكر له في الدنيا، عطف عليه قوله: {وبئس المصير} أي العذاب له في الآخرة، وهو مفعل مما منه التصيير وهو التنقيل في أطوار وأحوال ينتهي إلى غاية تجب أن تكون غير حالة الشيء الأولى بخلاف المرجع...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان منة أو منن أخرى على أهل الحرم وهي ما تضمنه دعاء إبراهيم من جعل البلد آمنا في نفسه، وهو غير ما سبقت به المنة من جعل البيت آمنا...
{ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} أي وأرزق من كفر أيضا فأمتعه بهذا الرزق قليلا وهو مدة وجوده في الدنيا ثم أسوقه إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا يقصده هو ولا يعلم أن كفره ينتهي به إليه. وذلك أن لجميع أعمال البشر الاختيارية غايات وآثار اضطرارية تفضي وتنتهي إليها بطبيعتها بحسب نظام الأسباب والمسببات، كما يفضي الإسراف في الشهوات أو التعب أو الراحة إلى بعض الأمراض في الدنيا. فالكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسقهم، فعقابهم عليها إنما هو عقاب على أعمال اختيارية، وهو أن كفرهم بآيات الله سيسوقهم إلى عذاب الله بما أقام الله تعالى عليه الإنسان من السنن الحكيمة، وأساسها أن علم الإنسان وأعماله النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضي به إلى سعادته أو شقائه اضطرارا، ولما كانت هذه السنة بقضاء الله وتقديره صح أن يقال: إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه إذ جعل الأرواح المدنسة بالعقائد الفاسدة والأخلاق المذمومة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأجساد القذرة عرضة للأمراض في الدنيا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على {وإذ جعلنا البيت مثابة} [البقرة: 125] لإفادة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنيناً إلى أحوالهم، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا: {ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير} وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} [البقرة: 125]...
{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا}... ومادام الله قد جعله أمنا فما جدوى دعوة إبراهيم أن تكون مكة بلدا آمنا؟..
نقول إذا رأيت طلبا لموجود، فاعلم أن القصد منه هو دوام بقاء ذلك الموجود.. فكأن إبراهيم يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يديم نعمة الأمن في البيت.. ذلك لأنك عندما تقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا "136 "} (سورة النساء). هو خاطبهم بلفظ الإيمان ثم طلب منهم أن يؤمنوا.. كيف؟
نقول إن الله سبحانه يأمرهم أن يستمروا ويداوموا على الإيمان...
{وارزق أهله من الثمرات}.. هذه من مستلزمات الأمن لأنه مادام هناك رزق وثمرات تكون مقومات الحياة موجودة فيبقى الناس في هذا البلد..
ولكن إبراهيم قال: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم} فكأنه طلب الرزق للمؤمنين وحدهم.. لماذا؟ لأنه... خشي... وهو يطلب لمن سيقيمون في مكة أن تكون استجابة الله سبحانه كالاستجابة السابقة.. كأن يقال له لا ينال رزق الله الظالمون فاستدرك إبراهيم وقال: {وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم}..
ولكن الله سبحانه أراد أن يلفت إبراهيم إلى أن عطاء الألوهية ليس كعطاء الربوبية.. فإمامة الناس عطاء ألوهية لا يناله إلا المؤمن، أما الرزق فهو عطاء ربوبية يناله المؤمن والكافر لأن الله هو الذي استدعانا جميعا إلى الحياة وكفل لنا جميعا رزقنا.. وكأن الحق سبحانه حين قال: {لا ينال عهدي الظالمين}.. كان يتحدث عن قيم المنهج التي لا تعطي إلا للمؤمن ولكن الرزق يعطي للمؤمن والكافر... والخير في الدنيا على الشيوع...
إن الله لم يقل للشمس أشرقي على أرض المؤمن فقط، ولم يقل للهواء لا يتنفسك ظالم، وإنما أعطى نعمة استبقاء الحياة واستمرارها لكل من خلق آمن أو كفر.. ولكن من كفر قال عنه الله سبحانه وتعالى: {ومن كفر فأمتعة قليلا}.. التمتع هو شيء يحبه الإنسان ويتمنى دوامه وتكراره. وقوله تعالى: {فأمتعه} دليل على دوام متعته، أي له المتعة في الدنيا. ولكل نعمة متعة، فالطعام له متعة والشراب له متعة والجنس له متعة.. إذن التمتع في الدنيا بأشياء متعددة. ولكن الله تبارك وتعالى وصفه بأنه قليل.. لأن المتعة في الدنيا مهما بلغت وتعددت ألوانها فهي قليلة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهكذا يطلب إبراهيم الأمن أوّلا، ثم المواهب الاقتصادية، إشارة إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقق إلاّ بعد الأمن الكامل. وللمفسرين آراء عديدة في معنى «الثّمرات»، ويبدو أن معناها واسع يشمل النعم المادية والنعم المعنوية...