البلد : معروف ، والبلد الصدر ، وبه سمي البلد لأنه صدر القرى .
يقال : وضعت الناقة بلدتها إذا بركت .
وقيل : سمي البلد بمعنى الأثر ، ومنه قيل بليد لتأثير الجهل فيه ، ومنه قيل لبركة البعير بلدة لتأثيرها في الأرض إذ بركت ، قال :
أنيخت فألقت بلدة بعد بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها
الاضطرار : هو الإلجاء إلى الشيء والإكراه عليه ، وهو افتعل من الضر ، أصله : اضترار ، أبدلت التاء طاء بدلاً لازماً ، وفعله متعد ، وعلى ذلك استعماله في القرآن ، وفي كلام العرب ، قال :
اضطرك الحرز من سلمى إلى أجأ***
المصير : مفعل من صار يصير ، فيكون للزمان والمكان ، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين ، لأن ما كسرت عين مضارعة فقياسه ما ذكرناه ، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب : أحدها : أنه كالصحيح ، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان .
الثالث : أنه يقتصر على السماع ، فما فتحت فيه العرب فتحنا ، وما كسرت كسرنا .
{ وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً } : ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة ، ورب : منادى مضاف إلى الياء ، وحذف منه حرف النداء ، والمضاف إلى الياء فيه لغات ، أحسنها : أن تحذف منه ياء الإضافة ، ويدل عليها بالكسرة ، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف .
ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه ؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو ، وسيأتي منها في القرآن شيء ، ونتكلم عليه في مكانه ، إن شاء الله تعالى .
وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه ، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته .
واجعل هنا بمعنى : صير ، وصورته أمر ، وهو طلب ورغبة .
وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه ، وهو قوله : { بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم } أو إلى المكان الذي صار بلداً ، ولذلك نكره فقال : { بلداً آمناً } .
وحين صار بلداً قال : { رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني } وقَال { لا أقسم بهذا البلد } هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين .
وقيل : الآيتان سواء ، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة ، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً ، ويكون بلداً النكرة ، توطئة لما يجيء بعده ، كما تقول : كان هذا اليوم يوماً حاراً ، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً .
ويحتمل وجهاً آخر وهو : أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً ، بل دعى له بذلك ، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله : { هذا البلد } ، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً .
ووصف بلد بآمن ، إما على معنى النسب ، أي ذا أمن ، كقولهم : { عيشة راضية } أي ذات رضا ، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم : نهارك صائم وليلك قائم .
وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين ، أو من أن يعود حرمه حلالاً ، أو من أن يخلو من أهله ، أو آمناً من القتل ، أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجدب ، أو من دخول الدجال ، أو من أصحاب الفيل ؟ أقوال .
ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة ، فالواقع يرده ، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا ، كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج بن يوسف ، والقرامطة ، وغيرهم .
وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب ، فهي أكثر بلاد الله قحطاً وجدباً .
وقال القفال : معناه مأموناً فيه ، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن ، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية ، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم .
{ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة ، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة ، دعا الله للبلد بالأمن ، وبأن يجبى له الأرزاق .
فإنه إذا كان البلد ذا أمن ، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح .
ولما سمع في الإمامة قوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } .
قيد هنا من سأل له الرزق فقال : { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } ، والضمير في منهم عائد على أهله .
دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب ، لأن الكافر لا يدعى له بذلك .
ألا ترى أن قريشاً لما طغت ، دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين ، كسني يوسف » ، وكانت مكة إذ ذاك قفراً ، لا ماء بها ولا نبات ، كما قال : { بواد غير ذي زرع } فبارك الله فيما حولها ، كالطائف وغيره ، وأنبت الله فيه أنواعاً من الثمر .
وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم ، أمر جبريل فاقتلع فلسطين ، وقيل : بقعة من الأردن ، فطاف بها حول البيت سبعاً ، فأنزلها بِوَادّ ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف ، وقال بعضهم :
كل الأماكن إعظاماً لحرمتها *** تسعى لها ولها في سعيها شرف
وذكر متعلق الإيمان ، وهو الله تعالى واليوم الآخر ، لأن في الإيمان بالله إيماناً بالصانع الواجب الوجود ، وبما يليق به تعالى من الصفات ، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به ، وهم الأنبياء .
فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، وبما جاؤا به .
فلما كان الإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به ، اقتصر على ذلك ، لأن غيره في ضمنه .
ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم ، ولا يختص ذلك بذريته ، وإن كان ظاهر قوله : { وارزقهم من الثمرات } مختصاً بذريته لقوله : { إني أسكنت من ذريتي } لعود الضمير في وارزقهم عليه ، فيحتمل أن يكونا سؤالين .
ومن : في قوله : من الثمرات للتبعيض ، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات .
وقيل : هي لبيان الجنس ، ومن بدل من أهله ، بدل بعض من كل ، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه ، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين : إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه ، والثانية بالتنصيص عليه ، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً ، إذ أريد بالعام الخاص .
هذه فائدة هذين البدلين ، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم ، وهو البدل ، إذ ذكر مرتين .
{ قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } : قرأ الجمهور من السبعة : فأمتعه ، مشدّداً على الخبر .
وقرأ ابن عامر : فأمتعه ، مخففاً على الخبر .
وقرأ يحيى بن وثاب : فأمتعه مخففاً ، ثم أضطره بكسر الهمزة ، وهما خبران .
وقرأ ابن محيصن : ثم أضطره ، بإدغام الضاد في الطاء خبراً .
وقرأ يزيد بن أبي حبيب : ثم اضطره بضم الطاء ، خبراً .
وقرأ أبي بن كعب : فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما : { فأمتعه قليلاً ثم أضطره } على صيغة الأمر فيهما ، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على إبراهيم ، لما دعا للمؤمنين بالرزق ، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب .
ومن : على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون موصولة أو شرطية ، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً .
وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على الله تعالى ، ومن : يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره : قال الله وارزق من كفر فأمتعه ، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن .
ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء ، إما موصولاً ، وإما شرطاً ، والفاء جواب الشرط ، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط .
ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً ، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط ، لا الفعل الواقع جزاء ، ولا إذا كانت موصولة ، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً ، للموصول باسم الشرط .
فكما لا يفسر الجزاء ، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء .
وأما إذا كان أمراً ، أعني الخبر نحو : زيداً فاضربه ، فيجوز أن يفسر ، ولا يجوز أن تقول : زيداً فتضربه على الاشتغال ، ولجواز : زيداً فاضربه على الأمر ، علة مذكورة في كتب النحو .
قال أبو البقاء : لا يجوز أن تكون من مبتدأ ، وفأمتعه الخبر ، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها ، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم .
فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو الخبر محذوفاً ، وفأمتعه دليل على جاز ، تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه .
ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها .
وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن يكفر ارزق .
ومن على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل الشرط .
وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح ، لأن الخبر مستحق بالصلة ، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر .
ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها .
وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه ؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً .
فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة ، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة ، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء ، وقد جوّز هو ذلك .
وأما تقدير زيادة الفاء ، وإضمار الخبر ، وإضمار جواب الشرط ، إذا جعلنا من شرطية ، فلا حاجة إلى ذلك ، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار .
وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها ، ونحن ننزه القرآن عن ذلك .
وقال الزمخشري : ومن كفر : عطف على من آمن ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك .
وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك .
وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح ، لأنه يتنافى في تركيب الكلام ، لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم : وارزق من كفر ، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل ، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في ومن كفر .
وإذا قدرته أمراً ، تنافى مع قوله : فأمتعه ، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع وإلجائهم إليه تعالى ، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى ، وذلك لا يجوز إلا على بعد ، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أي قال إبراهيم : وارزق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار .
ثم ناقض الزمخشري قوله هذا ، أنه عطف على من ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال : فإن قلت : لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه ؟ قلت : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما ، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى .
وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق ، فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له .
والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه .
فظاهر قوله والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال ، ومن كفر عائد على الله ، وأن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى ، وهو يناقص ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن .
وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء ، لأنه لم يرد عليه ، لأنه لا يدعي ، ويرغب في أن يرزق الكافر ، بل قوله تعالى : { قال ومن كفر } ، إخبار من الله تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار ، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة ، ولا تعريف الفرق بينهما ، كما زعم .
وقد تقدم تفسير المتاع ، وأنه كل ما انتفع به ، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء ، أو بتيسير المنافع ، ومنه متاع الحياة الدنيا ، أي منفعتها التي لا تدوم ، أو بالتزويد ، ومنه : فمتعوهن ؛ أي زوّدوهنّ نفقة .
والمتعة : ما يتبلغ به من الزاد ، والجمع متع ، ومنه : متاعاً لكم .
وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه : أمتعت زيداً ، جعلته صاحب متاع ، كقولهم : أقبرته وأنعلته ، وكذلك التضعيف في متع هو : يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم : عدلته .
وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير ، فينافي ظاهر ذلك القلة ، فيحتاج إلى تأويل ، كما ظنه بعضهم وتأوّله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض ، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة .
فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافينا .
وانتصاب قليلاً على أنه صفة لظرف محذوف ، أي زماناً قليلاً ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي تمتيعاً قليلاً ، على تقدير الجمهور ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف ، الدال عليه الفعل ، وذلك على مذهب سيبويه .
والوصف بالقلة لسرعة انقضائه ، إما لحلول الأجل ، وإما بظهور محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله ، أو يخرجه عن هذا البلد ، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة ، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها ، أو بالرزق ، أو بالبقاء في الدنيا ، أقوال للمفسرين .
وقراءة يحيى بن وثاب : ثم إضطره بكسر الهمزة .
قال ابن عطية ، على لغة قريش ، في قولهم : لا إخال ، يعني بكسر الهمزة .
وظاهر هذا النقل في أن ذلك ، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر ، وهو ما أوله همزة وصل .
وفي نحو إخال ، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون .
فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل ، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها ، أو ذا ياء مزيدة في أوله ، وذلك نحو : علم يعلم ، وانطلق ينطلق ، وتعلم يتعلم ، إلا إن كان حرف المضارعة ياء ، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء ، بل يفتحها .
وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل ، مذاهب تذكر في علم النحو ، وإنما المقصود هنا : أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة ، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره ، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب ، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً .
وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله : { نستعين } أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة .
وقد أمعنا الكلام على ذلك في ( كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل ) من تأليفنا .
وقراءة ابن محيصن : ثم اطره ، بإدغام الضاد في الطاء .
قال الزمخشري : هي لغة مرذولة ، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ، ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف ضم شفر .
إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب ، فالأوجه البيان ، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل : مضرب ، كما قيل : مصبر في مصطبر .
قال سيبويه : وقد قال بعضهم : مطجع ، في مضطجع ومضجع أكثر ، وجاز مطجع ، وإن لم يجز في مصطبر مطبر ، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد ، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد .
فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة ، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع ، وإلى قوله : ومضجع أكثر ، فيدل على أن مطجعا كثير ؟ وألا ترى إلى تعليله ، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت ، ولم يفعل ذلك بالصاد ، وإبداء الفرق بينهما ؟ وهذا كله من كلام سيبويه ، يدل على الجواز .
وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى : { الأرض ذلولاً } رواه اليزيدي ، عن أبي عمرو ، وهو ضعيف .
وفي الشين في قوله تعالى : { لبعض شأنهم } { والأرض شيئاً } وهو ضعيف أيضاً .
روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى : { إلى ذي العرش سبيلاً } والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو ، وهو رأس من رؤوس البصريين .
وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي : { إن نشأ نخسف بهم } وهو إمام الكوفيين .
وأما الراء ، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها ، ولا في النون .
وأجاز ذلك في اللام : يعقوب ، وأبو عمرو ، والكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرؤاسي ، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين ، حكوه سماعاً عن العرب .
وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها ، وذكر الخلاف فيها ، لئلا يتوهم من قول الزمخشري : لا تدغم فيما يجاورها ، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين .
فأوردت هذا الخلاف فيها ، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع ، إذ طلاقه يدل على المنع ألبتة .
وقراءة ابن أبي حبيب : بضم الطاء ، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء ، وهو شاذ .
وأما قراءة أبي بالنون فيهما ، فهي مخالفة لرسم المصحف ، فهي شاذة .
وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد ، أو ليكون ذلك جملتين ، جملة بالدعاء لمن آمن ، وجملة بالدعاء على من كفر ، فلا يندرجان تحت معمول واحد ، بل أفرد كلاً بقول .
واضطره على هذه القراءة ، هو بفتح الراء المشدّدة ، كما تقول : عضه بالفتح ، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين ، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك .
ولو قرأ على لغة قومه ، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله : ثم أضطره .
ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب ، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد ، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره .
ومفهوم الشرط هنا ملغي ، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين .
{ وبئس المصير } المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى ، أي وبئس المصير النار ، إن كان المصير اسم مكان ، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير : وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب .