قوله تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } أي : لها ثوابها ، { وإن أسأتم فلها } ، أي : فعليها ، كقوله تعالى : { فسلام لك } [ الواقعة – 91 ] أي : عليك . وقيل : فلها الجزاء والعقاب . { فإذا جاء وعد الآخرة } أي : المرة الآخرة من إفسادكم ، وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط الله عليهم الفرس والروم ، خردوش وطيطوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم ، فذلك قوله تعالى : { ليسوءوا وجوهكم } ، أي : تحزن وجوهكم ، وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن قرأ الكسائي و يعقوب بسوء بالنون وفتح الهمزة على التعظيم ، كقوله : { وقضينا } و{ بعثنا } وقرأ ابن عامر و حمزة بالياء وفتح الهمزة على التوحيد أي : ليسوء الله وجوهكم ، وقيل : ليسوء الوعد وجوهكم . وقرأ الباقون بالياء وضم الهمزة على الجمع ، أي ليسوء العباد أولو البأس الشديد وجوهكم . { وليدخلوا المسجد } يعني : بيت المقدس ونواحيه ، { كما دخلوه أول مرة وليتبروا } ، وليهلكوا ، { ما علوا } أي : ما غلبوا عليه من بلادكم { تتبيراً } .
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } لأن النفع عائد إليكم حتى في الدنيا كما شاهدتم من انتصاركم على أعدائكم . { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي : فلأنفسكم يعود الضرر كما أراكم الله من تسليط الأعداء .
{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ } أي : المرة الآخرة{[468]} التي تفسدون فيها في الأرض سلطنا عليكم الأعداء .
{ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } بانتصارهم عليكم وسبيكم وليدخلوا المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة ، والمراد بالمسجد مسجد بيت المقدس .
{ وَلِيُتَبِّرُوا } أي : يخربوا ويدمروا { مَا عَلَوْا } عليه { تَتْبِيرًا } فيخربوا بيوتكم ومساجدكم وحروثكم .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك سنة من سننه التى لا تتخلف ، وهى أن الإِحسان عاقبته الفلاح ، والعصيان عاقبته الخسران ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، ونتائج هذا العمل - سواء أكانت خيرا أم شرا - لا تعود إلا عليه ، فقال - تعالى - : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } .
أى : إن أحسنتم - أيها الناس - أعمالكم ، بأن أديتموها بالطريقة التى ترضى الله - تعالى - أفلحتم وسعدتم ، وجنيتم الثمار الطيبة التى تترتب على هذا الإِحسان للعمل ، وإن أسأتم أعمالكم ، بأن آثرتم الأعمال السيئة على الأعمال الحسنة ، خسرتم وشقيتم وتحملتم وحدكم النتائج الوخيمة التى تترتب على إتيان الأعمال التى لا ترضى الله - تعالى - .
وقد رأيتم كيف أن الإِفساد كانت عاقبته أن { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار } .
وكيف أن الإِحسان كانت عاقبته أن { رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة } على أعدائكم { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } .
قال صاحب البحر ما ملخصه : وجواب { وإن أسأتم } قوله { فلها } وهو خبر لمبتدأ محذوف أى : فالإِساءة لها . قال الكرمانى : قال - سبحانه - : { فلها } باللام ازدواجا .
أى : أنه قابل { لأنفسكم } بقوله { فلها } . وقال الطبرى اللام بمعنى إلى أى : فإليها ترجع الإِساءة .
وقيل : اللام بمعنى على . أى : فعليها ، كما فى قول الشاعر : فخر صريعا لليدين وللفم .
ثم بين - سبحانه - ما يحل بهم من دمار ، بعد إفسادهم للمرة الثانية ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } .
والكلام أيضا هنا على حذف مضاف ، وجواب إذا محذوف دل عليه ما تقدم وهو قوله { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } فإذا جاء وقت عقوبتكم يا بنى إسرائيل على إفسادكم الثانى فى الأرض ، بعثنا عليكم أعداءكم ليسوءوا وجوهكم أى : ليجعلوا آثار المساءة والحزن بادية على وجوهكم ، من شدة ما تلقونه منهم من إيداء وقتل .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله { ليسوءوا } الواو للعباد أولى البأس الشديد .
وفى عود الواو على العباد نوع استخدام ، إذ المراد بهم أولا جالوت وجنوده ، والمراد بهم هنا بختنصر وجنوده .
وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء المفتوحة والهمزة المفتوحة آخر الفعل { ليسوء } والفاعل إما الله - تعالى - وإما الوعد ، وإما البعث .
وقرأ الكسائى لنسوء - بنون العظمة . أى : لنسوء نحن وهو موافق لما قبله ، من قوله : بعثنا ، ورددنا ، وأمددنا ، ولما بعده من قوله : عدنا ، وجعلنا ، وقرأ الباقون . ليسوءوا ، مسندا إلى ضمير الجمع العائد على العباد ، وهو موافق لما بعده من قوله : { وليدخلوا المسجد } { وليتبروا } .
وقال الإِمام الرازى : ويقال ساءه يسوءه إذا أحزنه ، وإنما عزا - سبحانه - الإِساءة إلى الوجوه ، لأن آثار الأعراض النفسية الحاصلة فى القلب إنما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح فى القلب ظهر الإِشراق فى الوجه ، وإن حصل الحزن والخوف فى القلب ، ظهر الكلوح فى الوجه .
وقوله - سبحانه - : { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } معطوف على ما قبله وهو قوله - سبحانه - { ليسوءوا وجوهكم } .
والمراد بالمسجد : المسجد الأقصى الذى ببيت المقدس ، وقوله { كما دخلوه } صفة لمصدر محذوف .
والمعنى : وليدخلوا المسجد دخولا كائنا كدخولهم إياه أول مرة .
قال أبو حيان : ومعنى { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أى بالسيف والقهر والغلبة والإِذلال .
أى : أن المراد من التشبيه ، بيان أن الأعداء فى كل مرة أذلوا بنى إسرائيل وقتلوهم وقهروهم .
وقوله - تعالى - : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } يشعر بشدة العقوبة التى أنزلها أولئك العباد ببنى إسرائيل ، إذ التتبير معناه الإِهلاك والتدمير والتخريب لكل ما تقع عليه . ومنه قول الشاعر :
وما الناس إلا عاملان فعامل . . . يتبر ما يبنى وآخر رافع
و " ما " فى قوله { ما علوا } اسم موصول مفعول يتبروا : وهو عبارة عن البلاد والأماكن التى هدموها ، والعائد محذوف ، وتتبيرا مفعول مطلق مؤكد لعامله .
أى : وليدمرا ويخربوا البلاد والأماكن التى علوا عليها ، وصارت فى حوزتهم ، تدميرا تاما لا مزيد عليه .
وبذلك نرى أن العباد الذين سلطهم الله - تعالى - على بنى إسرائيل ، عقب إفسادهم الثانى فى الأرض ، لم يكتفوا بجوس الديار ، بل أضافوا إلى ذلك إلقاء الحزن والرعب فى قلوبهم ، ودخول المسجد الأقصى فاتحين ومخربين ، وتدمير كل ما وقعت عليه أيديهم تدميرا فظيعا لا يوصف .
القول في تأويل قوله تعالى { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } .
يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة : إنْ أحْسَنْتُمْ يا بني إسرائيل ، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم ، ولزمتم أمره ونهيه أحْسنْتُمْ وفعلتم ما فعلتم من ذلك لأَنْفُسِكُمْ لأنّكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والاَخرة . أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءا ، وينمي لكم أموالكم ، ويزيدكم إلى قوّتكم قوّة . وأما في الاَخرة فإن الله تعالى يثيبكم به جنانه وإنْ أسأْتُمْ يقول : وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذٍ ، فإلى أنفسكم تسيئون ، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم ، فيسلط عليكم في الدنيا عدوّكم ، ويمكّن منكم من بغاكم سوءا ، ويخلدكم في الاَخرة في العذاب المهين . وقال جلّ ثناؤه وَإنْ أسأْتُمْ فلها والمعنى : فإليها كما قالبأنّ رَبّكَ أوْحى لَها والمعنى : أوحى إليها .
وقوله : فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ يقول : فإذا جاء وعد المرّة الاَخرة من مرّتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ يقول : ليسوء مجيء ذلك الوعد للمرّة الاَخرة وجوهكم فيقبّحها .
وقد اختلف القرّاء في قراءة قوله لِيْسُوءُوا وُجُوهَكُمْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ بمعنى : ليسوء العباد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله عليكم وجوهكم ، واستشهد قارئوا ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ وقالوا : ذلك خبر عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله لِيَسُوءُوا . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة : «لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ » على التوحيد وبالياء . وقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل أحدهما ما قد ذكرت ، والاَخر منهما : ليسوء الله وجوهكم . فمن وجّه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهَكم ، جعل جواب قوله «فإذا » محذوفا ، وقد استغني بما ظهر عنه ، وذلك المحذوف «جاء » ، فيكون الكلام تأويله : فإذا جاء وعد الاَخرة ليسوء وجوهكم جاء . ومن وجّهَ تأويله إلى : ليسوء الله وجوهكم ، كان أيضا في الكلام محذوف ، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه ، غير أن ذلك المحذوف سوى «جاء » ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ : فإذا جاء وعد الاَخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم ، فيكون المضمر بعثناهم ، وذلك جواب «إذا » حينئذٍ . وقرأ ذلك بعض أهل العربية من الكوفيين : «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ » على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمه عن نفسه .
وكان مجيء وعد المرّة الاَخرة عند قتلهم يحيى . ذكر الرواية بذلك ، والخبر عما جاءهم من عند الله حينئذٍ كما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلاً من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل ، يدعى بختنصر ، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم ، فأقبل فسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب ، فلما جاء وعلى رأسه حزمة من حطب ألقاها ، ثم قعد في جانب البيت فضمه ، ثم أعطاه ثلاثة دراهم ، فقال : اشتر لنا بها طعاما وشرابا ، فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا ، فأكلوا وشربوا حتى إذا كان اليوم الثاني فعل به ذلك ، حتى إذا كان اليوم الثالث فعل ذلك ، ثم قال له : إني أُحبّ أن تكتب لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر ، فقال : أتسخر بي ؟ فقال : إني لا أسخر بك ، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا ، فكلمته أمه ، فقالت : وما عليك إن كان ذلك وإلاّ لم ينقصك شيئا ، فكتب له أمانا ، فقال له : أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك ، فاجعل لي آية تعرفني بها قال : نرفع صحيفتك على قصبة أعرفك بها ، فكساه وأعطاه . ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ، ويدني مجلسه ، ويستشيره في أمره ، ولا يقطع أمرا دونه ، وأنه هوى أن يتزوّج ابنة امرأة له ، فسأل يحيى عن ذلك ، فنهاه عن نكاحها وقال : لست أرضاها لك ، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوّج ابنتها ، فعمدت أمّ الجارية حين جلس الملك على شرابه ، فألبستها ثيابا رقاقا حمرا ، وطيّبتها وألبستها من الحُليّ ، وقيل : إنها ألبستها فوق ذلك كساء أسود ، وأرسلتها إلى الملك ، وأمرتها أن تسقيه ، وأن تعرض له نفسها ، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته ، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا في طست ، ففعلت ، فجعلت تسقيه وتعرض له نفسها فلما أخذ فيه الشراب أرادها على نفسها ، فقالت : لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك ، فقال : ما الذي تسأليني ؟ قالت : أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكريا ، فأوتَى برأسه في هذا الطست ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت له : ما أريد أن أسألك إلاّ هذا . قال : فلما ألّحت عليه بعث إليه ، فأتى برأسه ، والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول : لا يحلّ لك ذلك فلما أصبح إذا دمه يغلي ، فأمر بتراب فألقى عليه ، فرقى الدم فوق التراب يغلي ، فألقى عليه التراب أيضا ، فارتفع الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو يغلى وبلغ صيحابين ، فثار في الناس ، وأراد أن يبعث عليهم جيشا ، ويؤمّر عليهم رجلاً ، فأتاه بختنصر وكلّمه وقال : إن الذي كنت أرسلته تلك المرّة ضعيف ، وإني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها ، فابعثني ، فبعثه ، فسار بختنصر حتى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم ، فلم يطقهم ، فلما اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه ، أرادوا الرجوع ، فخرجت إليهم عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت : أين أمير الجند ؟ فأتى بها إليه ، فقالت له : إنه بلغني أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة ، قال : نعم ، قد طال مقامي ، وجاع أصحابي ، فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني ، فقالت : أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما سألتك ، وتقتل من أمرتك بقتله ، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ ؟ قال : نعم ، قالت : إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع ، ثم أقم على كلّ زاوية ربعا ، ثم ارفعوا بأيديكم إلى السماء فنادوا : إنا نستفتحك يا ألله بدم يحيى بن زكريا ، فإنها سوف تسّاقط ففعلوا ، فتساقطت المدينة ، ودخلوا من جوانبها ، فقالت له : اقتل على هذا الدم حتى يسكن ، وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على تراب كثير ، فقتل عليه حتى سكن سبعين ألفا وامرأة فلما سكن الدم قالت له : كفّ يدك ، فإن الله تبارك وتعالى إذا قتل نبيّ لم يرض ، حتى يقتل من قتله ، ومن رضي قتله ، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته ، فكفّ عنه وعن أهل بيته ، وخرّب بيت المقدس ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وقال : من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة ، وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى ، فلما خرّبه بختنصر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم ، وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل ، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات ، فملك مكانه ، وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه ، فحسدهم المجوس على ذلك ، فوشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ، ولا يأكلون من ذبيحتك ، فدعاهم فسألهم ، فقالوا : أجل إن لنا ربا نعبده ، ولسنا نأكل من ذبيحتكم ، فأمر بخدّ فخدّ لهم ، فألقوا فيه وهم ستة ، وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم ، فقال : انطلقوا فلنأكل ولنشرب ، فذهبوا فأكلوا وشربوا ، ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم ، ولم يخدش منهم أحدا ، ولم ينكأه شيئا ، ووجدوا معهم رجلاً ، فعدّوهم فوجدوهم سبعة ، فقالوا : ما بال هذا السابع إنما كانوا ستة ؟ فخرج إليهم السابع ، وكان ملَكا من الملائكة ، فلطمه لطمة فصار في الوحش ، فكان فيهم سبع سنين ، لا يراه وحشيّ إلاّ أتاه حتى ينكحه ، يقتصّ منه ما كان يصنع بالرجال ثم إنه رجع ورد الله عليه مُلكه ، فكانوا أكرم خلق الله عليه . ثم إن المجوس وَشَوا به ثانية ، فألقوا أسدا في بئر قد ضَرِي ، فكانوا يلقون إليه الصخرة فيأخذها ، فألقوا إليه دانيال ، فقام الأسد في جانب ، وقام دانيال في جانب لا يمسه ، فأخرجوه ، وقد كان قبل ذلك خدّ لهم خدّا ، فأوقد فيه نارا ، حتى إذا أججها قذفهم فيها ، فأطفأها الله عليهم ولم ينلهم منها شيء . ثم إن بختنصر رأى بعد ذلك في منامه صنما رأسه من ذهب ، وعنقه من شَبَه ، وصدره من حديد ، وبطنه أخلاط ذهب وفضة وقوارير ، ورجلاه من فخار فبينا هو قائم ينظر ، إذ جاءت صخرة من السماء من قِبَل القبلة ، فكسرت الصنم فجعلته هشيما ، فاستيقظ فزعا وأُنسيها ، فدعا السحرة والكهنة ، فسألهم ، فقال : أخبروني عما رأيت فقالوا له : لا ، بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك . قال : لا أدري ، قالوا له : فهؤلاء الفتية الذين تكرمهم ، فادعهم فاسألهم ، فإن هم لم يخبروك بما رأيت فما تصنع بهم ؟ قال : أقتلهم فأرسل إلى دانيال وأصحابه ، فدعاهم ، فقال لهم : أخبروني ماذا رأيت ؟ فقال له دانيال : بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك قال : لا أدري قد نسيتها فقال له دانيال : كيف نعلم رؤيا لم تخبرنا بها ؟ فأمر البوّاب أن يقتلهم ، فقال دانيال للبوّاب : إن الملك إنما أمر بقتلنا من أجل رؤياه ، فأخّرنا ثلاثة أيام ، فإن نحن أخبرنا الملك برؤياه وإلا فاضرب أعناقنا فأجّلهم فدعوا الله فلما كان اليوم الثالث أبصر كل رجل منهم رؤيا بختنصر على حدة ، فأتوا البوّاب فأخبروه ، فدخل على الملك فأخبره ، فقال : أدخلهم عليّ وكان بختنصر لا يعرف من رؤياه شيئا ، إلا شيئا يذكرونه ، فقالوا له : أنت رأيت كذا وكذا ، فقصوها عليه ، فقال : صدقتم قالوا : نحن نعبرها لك . أما الصنم الذي رأيت رأسه من ذهب ، فإنه ملك حسن مثل الذهب ، وكان قد ملك الأرض كلها وأما العنق من الشّبَه ، فهو ملك ابنك بعد ، يملك فيكون ملكه حسنا ، ولا يكون مثل الذهب وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فارس ، يملكون بعدك ابنك ، فيكون ملكهم شديدا مثل الحديد وأما بطنه الأخلاط ، فإنه يذهب ملك أهل فارس ، ويتنازع الناس الملك في كلّ قرية ، حتى يكون الملك يملك اليوم واليومين ، والشهر والشهرين ، ثم يُقتل ، فلا يكون للناس قوام على ذلك ، كما لم يكن للصنم قوام على رجلين من فخار فبينما هم كذلك ، إذ بعث الله تعالى نبيا من أرض العرب ، فأظهره على بقية مُلك أهل فارس ، وبقية مُلك ابنك وملكك ، فدمره وأهلكه حتى لا يبقى منه شيء ، كما جاءت الصخرة فهدمت الصنم فعطف عليهم بختنصر فأحبهم . ثم إن المجوس وشوا بدانيال ، فقالوا : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول ، وكان ذلك فيهم عارا ، فجعل لهم بختنصر طعاما ، فأكلوا وشربوا ، وقال للبوّاب : انظر أوّل من يخرج عليك يبول ، فاضربه بالطبرزين ، وإن قال : أنا بختنصر ، فقل : كذبت ، بختنصر أمرني . فحبس الله عن دانيال البول ، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصر ، فقام مدلاً ، وكان ذلك ليلاً ، يسحب ثيابه فلما رآه البوّاب شدّ عليه ، فقال : أنا بختنصر ، فقال : كذبت ، بختنصر أمرني أن أقتل أوّل من يخرج ، فضربه فقتله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، قال : بعث الله عليهم في المرّة الأولى سنحاريب . قال : فردّ الله لهم الكرّة عليهم ، كما قال قال : ثم عصوا ربهم وعادوا لما نهوا عنه ، فبعث عليهم في المرّة الاَخرة بختنصر ، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرّية ، وأخذ ما وجد من الأموال ، ودخلوا بيت المقدس ، كما قال الله عزّ وجلّ : وَلِيَدْخُلُوا المَسْجدَ كمَا دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ وَليُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا دخلوه فتبّروه وخرّبوه وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيف والقذر ، فقال الله عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا فرحمهم فردّ إليهم ملكهم وخلص من كان في أيديهم من ذرّية بني إسرائيل ، وقال لهم : إن عدتم عدنا . فقال أبو المعلى ، ولا أعلم ذلك ، إلاّ من هذا الحديث ، ولم يَعِدهم الرجعة إلى ملكهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فإذَا جاء وَعْدُ الاَخرَةِ ليَسُوءُوا وُجوهَكمْ قال : بعث الله ملك فارس ببابل جيشا ، وأمر عليهم بختنصر ، فأتوا بني إسرائيل ، فدمروهم ، فكانت هذه الاَخرة ووعدها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما ضرب لبختنصر الملك بجرانه ، قال : ثلاثة فمن استأخر منكم بعدها فليمش إلى خشبته ، فغزا الشام ، فذلك حين قتل وأخرج بيت المقدس ، ونزع حليته ، فجعلها آنية ليشرب فيها الخمور ، وخوانا يأكل عليه الخنازير ، وحمل التوراة معه ، ثم ألقاها في النار ، وقدم فيما قدم به مئة وصيف منهم دانيال وعزريا وحنانيا ومشائيل ، فقال لإنسان : أصلح لي أجسام هؤلاء لعلي أختار منهم أربعة يخدمونني ، فقال دانيال لأصحابه : إنما نصروا عليكم بما غيرتم من دين آبائكم ، لا تأكلوا لحم الخنزير ، ولا تشربوا الخمر ، فقالوا للذي يصلح أجسامهم : هل لك أن تطعمنا طعاما ، هو أهون عليك في المؤونة مما تطعم أصحابنا ، فإن لم نسمن قبلهم رأيت رأيك ، قال : ماذا ؟ قال : خبز الشعير والكرّاث ، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم ، فأخذهم بختنصر يخدمونه فبينما هم كذلك ، إذ رأى بختنصر رؤيا ، فجلس فنسيها فعاد فرقد فرآها ، فقام فنسيها ، ثم عاد فرقد فرآها ، فخرج إلى الحجرة ، فنسيها فلما أصبح دعا العلماء والكهّان ، فقال : أخبروني بما رأيت البارحة ، وأوّلوا لي رؤياي ، وإلا فليمش كل رجل منكم إلى خشبته ، موعدكم ثالثة . فقالوا : هذا لو أخبرنا برؤياه وذكر كلاما لم أحفظه ، قال : وجعل دانيال كلما مرّ به أحد من قرابته يقول : لو دعاني الملك لأخبرته برؤياه ، ولأوّلتها له ، قال : فجعلوا يقولون : ما أحمق هذا الغلام الإسرائيلي إلى أن مرّ به كهل ، فقال له ذلك ، فرجع إليه فأخبره ، فدعاه فقال : ماذا رأيت ؟ قال : رأيت تمثالاً ، قال : إيه ، قال : ورأسه من ذهب ، قال : إيه ، قال : وعنقه من فضة ، قال : إيه ، قال : وصدره من حديد ، قال : إيه ، قال : وبطنه من صُفر ، قال : إيه ، قال : ورجلاه من آنُك ، قال : إيه ، قال : وقدماه من فخار ، قال : هذا الذي رأيت ؟ قال : إيه ، قال : فجاءت حصاة فوقعت في رأسه ، ثم في عنقه ، ثم في صدره ، ثم في بطنه ، ثم في رجليه ، ثم في قدميه ، قال : فأهلكته . قال : فما هذا ؟ قال : أما الذهب فإنه ملكك ، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك ، ثم ملك ابن ابنك ، قال : وأما الفخار فملك النساء ، فكساه جبة ترثون ، وسوّره وطاف به في القرية ، وأجاز خاتمه فلما رأت ذلك فارس ، قالوا : ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيلي ، فقالوا : ائتوه من نحو الفتية الثلاثة ، ولا تذكروا له دانيال ، فإنه لا يصدقكم عليه ، فأتوه ، فقالوا : إن هؤلاء الفتية الثلاثة ليسوا على دينك ، وآية ذلك أنك إن قرّبت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا فأمر بحطب كثير فوضع ، ثم أرقاهم عليه ، ثم أوقد فيه نارا ، ثم خرج من آخر الليل يبول ، فإذا هم يتحدّثون ، وإذا معهم رابع يروح عليهم يصلي ، قال : من هذا يا دانيال ؟ قال : هذا جبريل ، إنك ظلمتهم ، قال : ظلمتهم مُرْ بهم ينزلوا فأمر بهم فنزلوا ، قال : ومسخ الله تعالى بختنصر من الدوابّ كلها ، فجعل من كلّ صنف من الدوابّ رأسه رأس سبع من السباع الأسد ، ومن الطير النسر ، وملك ابنه فرأى كفا خرجت بين لوحين ، ثم كتبت سطرين ، فدعا الكهان والعلماء فلم يجدوا لهم في ذلك علما ، فقالت له أمه : إنك لو أعدت إلى دانيال منزلته التي كانت له من أبيك أخبرك ، وكان قد جفاه ، فدعاه ، فقال : إني معيد إليك منزلتك من أبي ، فأخبرني ما هذان السطران ؟ قال : أما أن تعيد إليّ منزلتي من أبيك ، فلا حاجة لي بها ، وأما هذان السطران فإنك تقتل الليلة ، فأخرج من في القصر أجمعين ، وأمر بقفله ، فأقفلت الأبواب عليه ، وأدخل معه آمنَ أهل القرية في نفسه معه سيف ، فقال : من جاءك من خلق الله فاقتله ، وإن قال أنا فلان وبعث الله عليه البطن ، فجعل يمشي حتى كان شطر الليل ، فرقد ورقد صاحبه ثم نبهه البطن ، فذهب يمشي والاَخر نائم ، فرجع فاستيقظ به ، فقال له : أنا فلان ، فضربه بالسيف فقتله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أسأْتُمْ فَلَها فإذا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ آخر العقوبتين لِيَسُوءُوا وُجوهَكمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجدَ كمَا دَخَلُوهُ أوّل مَرّةٍ كما دخله عدوّهم قبل ذلك وَليُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا فبعث الله عليهم في الاَخرة بختنصر المجوسي البابلي ، أبغض خلق الله إليه ، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس ، وسامهم سوء العذاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ من المرتين لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ قال : ليقبحوا وجوهكم وَليُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا قال : يدمّروا ما علوا تدميرا ، قال : هو بختنصر ، بعثه الله عليهم في المرّة الاَخرة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : فلما أفسدوا بعث الله عليهم في المرّة الاَخرة بختنصر ، فخرّب المساجد وتبّرما علوا تتبيرا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : فيما بلغني ، استخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك ، يعني بعد قتلهم شعياء رجلاً منهم يقال له : ناشة بن آموص ، فبعث الله الخضر نبيا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قد بلغني يقول : «إنّمَا سُمّيَ الخَضِرُ خَضِرا ، لأنَهُ جَلَسَ عَلى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ ، فَقامَ عَنْها وَهيَ تَهْتَزّ خَضْرَاءَ » قال : واسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل : أرميا بن حلفيا ، وكان من سبط هارون بن عمران .
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه ، قالا : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثنا عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه . وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق عمن لايتهم ، عن وهب بن منبه اليماني ، واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول : قال الله تبارك وتعالى لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل : يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوّرك في بطن أمك قدّستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهّرتك ، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك ، ولأمر عظيم اختبأتك فبعث الله إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدّده ويرشده ، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله قال : ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي ، واستحلّوا المحارم ، ونَسوا ما كان الله تعالى صنع بهم ، وما نجاهم من عدوّهم سنحاريب وجنوده . فأوحى الله تعالى إلى إرمياء : أن ائت قومك من بني إسرائيل ، واقصص عليهم ما آمرك به ، وذكّرهم نعمتي عليهم ، وعرّفهم أحداثهم ، فقال إرمياء : إني ضعيف إن لم تقوّني ، وعاجز إن لم تبلّغني ، ومخطىء إن لم تسدّدني ، ومخذول إن لم تنصرني ، وذليل إن لم تعزّني . قال : الله تبارك وتعالى : أوَ لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن القلوب كلها والألسنة بيدي ، أقلبها كيف شئت ، فتطيعني ، وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي ، قامت السموات والأرض وما فيهنّ بكلمتي ، وأنا كلّمت البحار ، ففهمت قولي ، وأمرتها فعقلت أمري ، وحدَدت عليها بالبطحاء فلا تَعدّي حدّي ، تأتي بأمواج كالجبال ، حتى إذا بلغت حدّي ألبستها مذلّة طاعتي خوفا واعترافا لأمري إني معك ، ولن يصل إليك شيء معي ، وإن بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي ، لتبلغهم رسالاتي ، ولتستحق بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، وإن تقصّر عنها فلك مثل وزر من تركب في عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا انطلق إلى قومك فقل : إن الله ذكر لكم صلاح آبائكم ، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء ، وسلهم كيف وجد آباؤهم مغبّة طاعتي ، وكيف وجدوا هم مغبّة معصيتي ، وهل علموا أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي ، أو عصاني فسعد بمعصيتي ، فإن الدّوابّ مما تذكر أوطانها الصالحة ، فتنتابها ، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهَلَكة . أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خوَلاً ليعبدوهم دوني وتحكّموا فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري ، وأنسوهم ذكري ، وغروهم مني . أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي ، وأمنوا مكري ، ونبذوا كتابي ، ونسوا عهدي ، وغيروا سنتي ، فادّان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي ، ويتابعونهم على البدع التي يبتعدعون في ديني جراءة عليّ وغرّة وفِرْية عليّ وعلى رسلي ، فسبحان جلالي وعلوّ مكاني ، وعظم شأني ، فهل ينبغي لبشر أن يُطاع في معصيتي ، وهل ينبغي لي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني . وأما قرّاؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد ، ويتزيّنون بعمارتها لغيري ، لطلب الدنيا بالدين ، ويتفقّهون فيها لغير العلم ، ويتعلّمون فيها لغير العمل . وأما أولاد الأنبياء ، فمكثرون مقهورون مغيّرون ، يخوضون مع الخائضين ، ويتمنّون عليّ مثل نُصرة آبائهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أن لا أحدَ أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبّر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي ، وكيف كان جِدّهم في أمري حين غير المغيّرهن ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم ، فصبروا وصَدَقوا حتى عزّ أمري ، وظهر ديني ، فتأنّيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون ، فأطْوَلت لهم ، وصفحت عنهم ، لعلهم يرجعون ، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتذكرون ، فأعذرت في كل ذلك ، أمطر عليهم السماء ، وأنبت لهم الأرض ، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدوّ فلا يزدادون إلا طغيانا وبُعدا مني ، فحتى متى هذا ؟ أبي يتمرّسون أم إياي يخادعون ؟ وإني أحلف بعزّتي لأقيضنّ لهم فتنة يتحيرُ فيها الحليم ، ويضلّ فيها رأي ذي الرأي ، وحكمة الحكيم ، ثم لأسلطنّ عليهم جبارا قاسيا عاتيا ، ألبسه الهيبة ، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبيان ، يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم ، له عساكر مثل قطع السحاب ، ومراكب أمثال العجاج ، كأن خفيق راياته طيران النسور ، وأن حملة فُرسانه كوبر العقبان . ثم أوحى الله إلى إرميا : إني مهلك بني إسرائيل بيافث ، ويافث أهل بابل ، وهم من ولد يافث بن نوح . ثم لما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشقّ ثيابه ، ونبذَ الرماد على رأسه وقال : ملعون يوم ولدت فيه ، ويوم لقيت التوراة ، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه ، فما أُبقيت آخر الأنبياء إلا لما هو أشرّ عليّ لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل ، فمن أجلي تصيبهم الشّقوة والهلاك فلما سمع الله تضرّع الخضر وبكاءه ، وكيف يقول ، ناداه : يا إرميا أشقّ ذلك عليك فيما أوحيت لك ؟ قال : نعم يا ربّ أهلكْني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به فقال الله : وعزّتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه ، وطابت نفسه ، وقال : لا ، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره ما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح وقال : إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدّمناها لأنفسنا ، وإن عفا عنا فبقدرته . ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشرّ ، وذلك حين اقترب هلاكهم فقلّ الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الاَخرة ، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأُنها ، فقال لهم ملكهم : يا بني إسرائيل ، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله ، وقبل أن يُبعث عليكم قوم لا رحمة لهم بكم ، وإن ربكم قريب التوبة ، مبسوط اليدين بالخير ، رحيم بمن تاب إليه . فأبَوا عليه أن ينزِعوا عن شيء مما هم عليه وإن الله قد ألقى في قلب بختنصر بن نجور زاذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالخ بن عابر بن نمرود صاحب إبراهيم الذي حاجّه في ربه ، أن يسير إلى بيت المقدس ، ثم يفعل فيه ما كان جدّه سنحاريب أراد أن يفعل ، فخرج في ستّ مئة ألف راية يريد أهل بيت المقدس فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم ، فأرسل الملك إلى إرميا ، فجاءه فقال : يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس ، حتى يكون منك الأمر في ذلك ؟ فقال إرميا للملك : إن ربي لايخلف الميعاد ، وأنا به وائق . فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله على هلاكهم ، بعث الله مَلَكا من عنده ، فقال له : اذهب إلى إرميا فاسَتْفتِه ، وأمَرَه بالذي يُستفتَى فيه فأقبل المَلك إلى إرمياء ، وكان قد تمثّل له رجلاً من بني إسرائيل ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري فأذن له ، فقال له المَلَك : يا نبيّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به ، لم آت إليهم إلا حسنا ، ولم آلُهم كرامة ، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي ، فأفتني فيهم يا نبيّ الله فقال له : أحسن فيما بينك وبين الله ، وصل ما أمرك الله أن تصل ، وأبشر بخير وانصرف عنه . فمكث أياما ، ثم أقبل إليه في صورة ذلك الذي جاءه ، فقعد بين يديه ، فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي ، فقال له نبيّ الله : أَوَ ما ظهرت لك أخلاقهم بعد ، ولم تر منهم الذي تحبّ ؟ فقال : يا نبيّ الله ، والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك ، فقال النبيّ : ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم ، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم ، وأن يجمعكم على مرضاته ، ويجنبكم سخطه فقال المَلك من عنده ، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس ، ومعه خلائق من قومه كأمثال الجراد ، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعا شديدا ، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل ، فدعا إرميا ، فقال : يا نبيّ الله أين ما وعدك الله ؟ فقال : إني بربي واثق . ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه فقال له إرميا : من أنت ؟ قال : أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرّتين ، فقال له النبيّ : أَوَ لَم يأنِ لهم أن يمتنعوا من الذي هم فيه مقيمون عليه ؟ فقال له الملك : يا نبيّ الله ، كلّ شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، وأعلم أن مأربهم في ذلك سخطي فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عزّ وجلّ . فقال له نبيّ الله : على أيّ عمل رأيتهم ؟ قال : يا نبيّ الله رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله ، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي ، وصبرت لهم ورجوتهم ، ولكن غضبت اليوم لله ولك ، فأتيتك لأخبرك خبرهم ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحقّ إلا ما دعوت عليهم ربك أن يهلكهم فقال إرميا : يا مالك السموات والأرض ، إن كانوا على حقّ وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم . فما خرجت الكلمة مِن في إرميا حتى أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان ، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ، ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا ملك السموات والأرض بيدك ملكوت كلّ شيء وأنت أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي إرميا : إنهم لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا فاستيقن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرّات ، وأنه رسول ربه . ثم إن إرميا طار حتى خالط الوحش ، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ، فوطىء الشام ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرّب بيت المقدس ، أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه ، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل ، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل ، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم ، فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبيّ فلما خرجت غنائم جنده ، وأراد أن يقسمها فيهم ، قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها ، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل ، ففعل ، وأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وسبعة آلاف من أهل بيت داود ، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب ، وأخيه بنيامين ، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالي بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب . ومن بقى من بني إسرائيل ، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق ، فثلثا أَقَرّ بالشام ، وثلثا قتل ، وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل ، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل باحداثهم وظلمهم . فلما ولّي بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل ، أقبل أرميا على حمار له معه عصير ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام ، ثم بعثه ، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانيال ، وهلاك بختنصر ، ورجوع من بقي من بني إسرائيل في أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلى الشام ، وعمارة بيت المقدس ، وأَمْرَ عُزيرَ وكيف ردّ الله عليه التوراة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، قال : ثم عمدت بنو إسرائيل بعد ذلك يحُدِثون الأحداث ، يعني بعد مهلك عُزيرَ ، ويعود الله عليهم ، ويبعث فيهم الرسل ، ففريقا يكذّبون ، وفريقا يقتلون ، حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ، وكانوا من بيت آل داود .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن عمر بن عبد الله بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير أنه قال ، وهو يحدّث عن قتل يحيى بن زكريا قال : ما قُتل يحيى بن زكريا إلا بسبب امرأة بغيّ من بغايا بني إسرائيل كان فيهم ملك ، وكان يحيى بن زكريا تحت يدي ذلك الملك ، فهمّت ابنة ذلك الملك بأبيها ، فقالت : لو أني تزوّجت بأبي فاجتمع لي سلطانه دون النساء ، فقالت له : يا أبتِ تزوّجني ودعته إلى نفسها ، فقال لها : يا بنية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا ، فقالت : من لي بيحيى بن زكريا ؟ ضيّق عليّ ، وحال بيني وبين أن أتزوّج بأبي ، فأغلِبَ على مُلكه ودنياه دون النساء قال : فأمرت اللعابين ومحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا ، فقالت : ادخلوا عليه فالعبوا ، حتى إذا فرغتم فإنه سيُحَكمكم ، فقولوا : دم يحيى بن زكريا ، ولا تقبلوا غيره . وكان اسم الملك رواد ، واسم ابنته البغيّ ، وكان الملك فيهم إذا حدّث فكذب ، أو وعد فأخلف ، خلع فاستُبدل به غيرهُ فلما ألعبوه وكثر عجبه منهم ، قال : سلوني أعطكم ، فقالوا له : نسألك دم يحيى بن زكريا أعطنا إياه قال : ويحكم سلوني غير هذا فقالوا : لا نسألك شيئا غيره . فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يُسْتحَلّ بذلك خَلْعه ، فبعث إلى يحيى بن زكريا وهو جالس في محرابه يصلي ، فذبحوه في طست ثم حزّوا رأسه ، فاحتمله رجل في يده والدم يحمل في الطّسْت معه . قال : فطلع برأسه يحمله حتى وقف به على الملك ، ورأسه يقول في يدي الذي يحمله لا يحلّ لك ذلك فقال رجل من بني إسرائيل : أيها الملك لو أنك وهبت لي هذا الدم ؟ فقال : وما تصنع به ؟ قال : أطهر منه الأرض ، فإنه كان قد ضيقها علينا ، فقال : أعطوه هذا الدم ، فأخذه فجعله في قلة ، ثم عمد به إلى بيت في المذبح ، فوضع القلة فيه ، ثم أغلق عليه ، ففار في القُلّة حتى خرج منها من تحت الباب من البيت الذي هو فيه فلما رأى الرجل ذلك ، فَظع به ، فأخرجه فجعله في فلاة من الأرض ، فجعل يفور وعظمت فيهم الأحداث . ومنهم من يقول : أقرّ مكانه في القربان ولم يحوّل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا ( وبعض الناس يقول : وقتلوا زكريا ) ، ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس ، فسار إليه بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤوس جنده يدعى نبور زاذان صاحب القتل ، فقال له : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أظهرنا على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، إلا أن لا أجد أحدا أقتله فأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان ، فدخل بيت المقدس ، فقال في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ، فوجد فيها دما يغلي ، فسألهم فقال : يا بني إسرائيل ، ما شأن هذا الدم الذي يغلي ، أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره ؟ فقالوا : هذا دم قربان كان لنا كنا قرّبناه فلم يُتَقبّل منا ، فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قرّبنا منذ ثمان مئة سنة القربان فتقبّل منا إلا هذا القربان قال : ما صَدَقْتموني الخبر قالوا له : لو كان كأوّل زماننا لقُبل منا ، ولكنه قد انقطع منا المُلك والنبوّة والوحي ، فلذلك لم يُتقبل منا فذبح منهم نبور زاذان على ذلك الدم سبع مئة وسبعين روحا من رؤوسهم ، فلم يهدأ فأمر بسبع مئة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم ، فذبحهم على الدم فلم يبرد ولم يهدأ فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم : ويْلكم يا بني إسرائيل ، أصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار ، لا أنثى ولا ذكرا إلا قتلته فلما رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر ، فقالوا له : إن هذا دم نبيّ منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله ، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا ، وكان يخبرنا بأمركم ، فلم نصدّقه ، فقتلناه ، فهذا دمه فقال لهم نبور زاذان : ما كان اسمه ؟ قالوا : يحيى بن زكريا ، فقال : الاَنَ صَدَقْتموني بمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما رأى نبور زاذان أنهم صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله : غلقوا الأبواب ، أبواب المدينة ، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس . وخلافي بني إسرائيل ثم قال : يا يحيى بن زكريا ، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك ، وما قُتل منهم من أجلك ، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقي من قومك أحدا فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله ، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل ، وصدّقت وأيقنت أنه لا ربّ غيره ، ولو كان معه آخر لم يصلح ، ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض ، ولو كان له ولد لم يصلح ، فتبارك وتقدّس ، وتسبح وتكبر وتعظم ، ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فيهنّ ، وما بينهما ، وهو على كل شيء قدير ، فله الحلم والعلم والعزّة والجبروت ، وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول ، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون مُلكه . فأوحى الله إلى رأس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حَبُور صدوق والحبور بالعبرانية : حديث الإيمان . وإن نبور زاذان قال لبني إسرائيل : يا بني إسرائيل ، إن عدوّ الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره ، وإني لست أستطيع أن أعصيه . قالوا له : افعل ما أُمرت به . فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل ، فذبحها حتى سال الدم في العسكر ، وأمر بالقتلى الذين كانوا قبل ذلك ، فطُرحوا على ما قُتل من مواشيهم حتى كانوا فوقهم ، فلم يظنّ خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل . فلما بلغ الدم عسكره ، أرسل إلى نبور زاذان أن ارفع عنهم ، فقد بلغتني دماؤهم ، وقد انتقمت منهم بما فعلوا . ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل ، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد ، وهي الوقعة الاَخرة التي أنزل الله ببني إسرائيل . يقول الله عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتابِ لتَفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِيرا إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أسأْتُمْ فَلَها فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ ليَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجدَ كمَا دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ ولِيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبيرا عَسَى رَبّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للكافرِينَ حَصِيرا وعسى من الله حقّ ، فكانت الوقعة الأولى : بختنصرَ وجنوده ، ثم ردّ الله لكم الكرّة عليهم ، وكانت الوقعة الاَخرة خردوس وجنوده ، وهي كانت أعظم الوقعتين ، فيها كان خراب بلادهم ، وقتل رجالهم ، وسبى ذراريهم ونسائهم . يقول الله تبارك وتعالى : وَليُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا ثم عاد الله عليهم ، فأكثر عددهم ، ونشرهم في بلادهم ، ثم بَدّلوا وأحدثوا الأحداث ، واستبدلوا بكتابهم غيره ، وركبوا المعاصي ، واستحلوا المحارم وضيّعوا الحدود .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن أبي عَتّاب رجل من تغلب كان نصرانيا عمرا من دهره ، ثم أسلم بعد ، فقرأ القرآن ، وفقه في الدين ، وكان فيما ذكر أنه كان نصرانيا أربعين سنة ، ثم عُمّر في الإسلام أربعين سنة . قال : كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيا بعثه الله إليهم ، فقال لهم : يا بني إسرائيل إن الله يقول لكم : إني قد سلبت أصواتكم ، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم فهَمّوا به ليقتلوه ، فقال الله تبارك وتعالى له : ائتهم واضرب لي ولهم مثلاً ، فقل لهم : إن الله تبارك وتعالى يقول لكم : اقضوا بيني وبين كرمي ألم أختر له البلاد ، وطيبت له المَدَرة ، وحظرته بالسياج ، وعرشته السويق والشوك والسياج والعَوْسَج ، وأحطته بردائي ، ومنعته من العالم وفضّلته ، فلقيني بالشوك والجذوع ، وكل شجرة لا تؤكل ؟ ما لهذا اخترت البلدة ، ولا طيّبت المَدَرة ، ولا حَظَرته بالسّياج ، ولا عَرَشتْه السويق ، ولا حُطْته بردائي ، ولا منعته من العالم فضلتكم وأتممت عليكم نعمتي ، ثم استقبلتموني بكلّ ما أكره من معصيتي وخلاف أمري لَمَهْ إن الحمار ليعرف مذوده لَمَهْ إن البقرة لتعرف سيدها وقد حلفت بعزتي العزيزة ، وبذراعي الشديد لاَخذنّ ردائي ، ولأمرجنّ الحائط ، ولأجعلنكم تحت أرجل العالم . قال : فوثبوا على نبيهم فقتلوه ، فضرب الله عليهم الذلّ ، ونزع منهم الملك ، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم ذلّ وصغار وجزية يؤدّونها ، والملك في غيرهم من الناس ، فلن يزالوا كذلك أبدا ، ما كانوا على ما هم عليه .
قال : قال : فهذا ما انتهى إلينا من جماع أحاديث بني إسرائيل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَة لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كمَا دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا قال : كانت الاَخرة أشدّ من الأولى بكثير ، قال : لأن الأولى كانت هزيمة فقط ، والاَخرة كان التدمير ، وأحرق بختنصر التوراة حتى لم يبق منها حرف واحد ، وخرب المسجد .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا ، في اثني عشر من الحواريين يعلّمون الناس . قال : فكان فيما نهاهم عنه ، نكاح ابنة الأخ . قال : وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها ، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها فلما بلغ ذلك أمها قالت لها : إذا دخلت على الملك فسألك حاجتك ، فقولي : حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا فلما دخلت عليه سألها حاجتها ، فقالت : حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا ، فقال : سلي غير هذا فقالت : ما أسألك إلا هذا قال : فلما أبت عليه دعا يحيى ودعا بطست فذبحه ، فبدرت قطرة من دمه على الأرض ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم ، فجاءته عجوز من بني إسرائيل ، فدلّته على ذلك الدم . قال : فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل سبعين ألفا منهم من سنّ واحد فسكن .
وقوله : وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كمَا دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ يقول : وليدخل عدوّكم الذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرا منهم لكم وغلبة ، كما دخلوه أوّل مرّة حين أفسدتم الفساد الأوّل في الأرض .
وأما قوله : وَلِيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا فإنه يقول : وليدمّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا . يقال منه : دمّرت البلد : إذا خرّبته وأهلكت أهله . وَتَبَر تَبْرا وَتَبارا ، وتَبّرْتُه أتبّرُه تتبيرا . ومنه قول الله تعالى ذكره وَلا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلاّ تَبَارا يعني : هلاكا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَلِيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا قال : تدميرا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلِيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا قال : يدمروا ما علوا تدميرا .
{ إن أحسنتم لأنفسكم } لأن ثوابه لها . { وإن أسأتم فلها } فإن وباله عليها ، وإنما ذكرها باللازم ازدواجا . { فإذا جاء وعد الآخرة } وعد عقوبة المرة الآخرة . { ليسُوءوا وجوهكم } أي بعثناهم { وليسوءوا وجوهكم } أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها ، فحذف لدلالة ذكره أولا عليه . وقرأ ابن عامر وحمزة أبو بكر " ليسوء " على التوحيد ، والضمير فيه للوعد أو للعبث أو لله ، ويعضده قراءة الكسائي بالنون . وقرئ " لنسوأن " بالنون والياء والنون المخففة والمثقلة ، و " لنسوأن " بفتح اللام على الأوجه الأربعة على أنه جواب إذا واللام في قوله : { وليدخلوا المسجد } متعلق بمحذوف هو بعثناهم . { كما دخلوه أول مرة وليُتبّروا } ما ليهلكوا . { ما علوا } ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم . { تتبيرا } ذلك بأن سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطائف اسمه جودرز ، وقيل حردوس قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا ، فقالوا : إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ .
فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله { إن أحسنتم } والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم ، و { وعد الآخرة } معناه من المرتين المذكورتين ، وقوله { ليسوءوا } اللام لام أمر ، وقيل المعنى بعثناهم { ليسوءوا } فهي لام كي كلها ، والضمير للعباد «أولي البأس الشديد » ، وقرأ الجمهور : «ليسوءوا » بالياء جمع همزة وبين واوين ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «ليسوءَ » بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد ، وقرأ الكسائي ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب «لنسوء » بنون العظمة{[7478]} ، وقرأ أبي بن كعب «لنسوءن » بنون خفيفة ، وهي لام الأمر{[7479]} ، وقرأ علي بن أبي طالب «ليسوءن » ، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل ، وفي مصحف أبي بن كعب «ليُسيء » بياء مضمومة بغير واو ، وفي مصحف أنس «ليسوء وجهكم » على الإفراد ، وخص ذكر «الوجوه » لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر ، و { المسجد } مسجد بيت المقدس ، و «تبر » معناه أفسد بقسم وركوب رأس ، وقوله { ما علوا } أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد{[7480]} ، وقيل { ما } ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، و «تبر » معناه رد الشيء فتاتاً كتبر الذهب والحديد ، ونحوه وهو مفتتة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {إن أحسنتم} العمل لله بعد هذه المرة،
{أحسنتم لأنفسكم}، فلا تهلكوا، {وإن أسأتم فلها}، يعني: وإن عصيتم فعلى أنفسكم، فعادوا إلى المعاصي الثانية، فسلط الله عليهم أيضا... فذلك قوله عز وجل: {فإذا جاء وعد الآخرة}، يعني وقت آخر الهلاكين،
{ليسوؤوا وجوهكم}، يعنى ليقبح وجوهكم، فقتلهم وسبى ذراريهم، وخرب بيت المقدس... فذلك قوله عز وجل: {وليدخلوا المسجد}، يعني: بيت المقدس...
{كما دخلوه أول مرة}... قال سبحانه: {وليتبروا ما علوا تتبيرا}، يقول عز وجل: وليدمروا ما علوا، يقول: ما ظهروا عليه تدميرا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة:"إنْ أحْسَنْتُمْ" يا بني إسرائيل، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم، ولزمتم أمره ونهيه "أحْسنْتُمْ "وفعلتم ما فعلتم من ذلك "لأَنْفُسِكُمْ" لأنّكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءا، وينمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلى قوّتكم قوّة. وأما في الآخرة فإن الله تعالى يثيبكم به جنانه، "وإنْ أسأْتُمْ" يقول: وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم، فيسلط عليكم في الدنيا عدوّكم، ويمكّن منكم من بغاكم سوءا، ويخلدكم في الآخرة في العذاب المهين. وقال جلّ ثناؤه:"وَإنْ أسأْتُمْ فلها" والمعنى: فإليها كما قال:"بأنّ رَبّكَ أوْحى لَها" والمعنى: أوحى إليها.
"فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ" يقول: فإذا جاء وعد المرّة الآخرة من مرّتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض.
"لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ" يقول: ليسوء مجيء ذلك الوعد للمرّة الآخرة وجوهكم فيقبّحها. وقد اختلف القرّاء في قراءة قوله "لِيْسُوءُوا وُجُوهَكُمْ" فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة "لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ" بمعنى: ليسوء العباد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله عليكم وجوهكم، واستشهد قارئو ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله "وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ" وقالوا: ذلك خبر عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله "لِيَسُوءُوا". وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: «لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» على التوحيد وبالياء. وقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل أحدهما ما قد ذكرت، والآخر منهما: ليسوء الله وجوهكم. فمن وجّه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهَكم، جعل جواب قوله «فإذا» محذوفا، وقد استغني بما ظهر عنه، وذلك المحذوف «جاء»، فيكون الكلام تأويله: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوء وجوهكم جاء. ومن وجّهَ تأويله إلى: ليسوء الله وجوهكم، كان أيضا في الكلام محذوف، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه، غير أن ذلك المحذوف سوى «جاء»، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم، فيكون المضمر بعثناهم، وذلك جواب «إذا» حينئذٍ. وقرأ ذلك بعض أهل العربية من الكوفيين: «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمه عن نفسه...
"وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كمَا دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ" يقول: وليدخل عدوّكم الذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرا منهم لكم وغلبة، كما دخلوه أوّل مرّة حين أفسدتم الفساد الأوّل في الأرض.
"وَلِيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا" فإنه يقول: وليدمّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا. يقال منه: دمّرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم" لا لله، إذ إليكم ترجع منفعة ذلك، وأنتم تجزون وعلى ذلك {وإن أسأتم فلها} أي فعليها كقوله: {من عمل صالحا فلنفسه} الآية (فصلت: 46) أي عليها ضرر ذلك وعلى ذلك جميعا (ما) أمر الله عباده من الأعمال، أو نهاهم عنها، إنما أمر ونهى لمنفعة أنفسهم ولحاجتهم لا لمنفعة له... وقال بعضهم: {وإن أسأتم فلها} أي إلى أنفسكم تسيؤون...
وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة} أي جاء وعد موعود الآخرة، وهو العقوبة بعصيانهم وتكذيبهم رسل الله.
{فإذا جاء وعد الآخرة} بالتغيير وتبديل الدين {ليسوءوا وجوهكم}... ولم يبين من يسوء وجوهكم كما ذكر في الوعد الأول {فإذا جاء وعد أولاهما بعثا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد} فهم يسوءون وجوهكم. ومن قرأ بالنون: لنسوء {وجوهكم} أضاف إلى نفسه لما يأمره ما كان يفعل وبتسليطه إياهم عليهم. وقال بعضهم: ذكر الوجه ههنا كناية عن الحزن والهم والإهانة لهم كما يقال في السرور: أكرم وجهه، أي أدخل فيه سرورا، وذكر الوجه يظهر ذلك التغيير والقبح، والله أعلم...
{وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} في ظاهر الآية أن يدخل الأولون المسجد في المرة الثانية كما دخل الأولون في المرة الأولى لأنه قال: {كما دخلوه أول مرة} لكن يحتمل ليدخل عباد آخرون المسجد في المرة الثانية كما دخل الأولون في المرة الأولى. وقال بعضهم: المسجد ههنا: الكنيسة والبيعة...
{وليتبروا ما علوا تتبيرا} أي ليهلكوا ما عملوا به، أي ما غلبوا به، وقهروا، أي الأسباب التي عصوا بها. وقال أبو عوسجة: {وما علوا} أي ليفسدوا ما ملكوا، والتبار: الفساد، يقال: علوت الشيء، أي ملكت...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} لأن الجزاء بالثواب يعود إليها، فصار ذلك إحساناً لها. {وإن أسأتُم فلها} أي فإليها ترجع الإساءة لما يتوجه إليها من العقاب، فرغَّب في الإحسان وحذر من الإساءة. ثم قال تعالى: {فإذا جاءَ وعْدُ الآخرة ليسوءُوا وجوهكم} يعني وعد المقابلة على فسادهم في المرة الثانية...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنْ أحسنتُم فثوابِكم كسبتم، وإنْ أسأتم فعداءَكم جَلَبْتُم -والحقُّ أعزُّ مِنْ أَنْ يعودَ إليه من أفعال عبادِه زَيْنٌ أو يلحقه شَيْنٌ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي الإحسان والإساءة: كلاهما مختص بأنفسكم، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن عليّ رضي الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه، وتلاها. {فَإِذَا جَآء وَعْدُ} المرّة {الآخرة} بعثناهم {ليسوءوا وُجُوهَكُمْ} حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. ومعنى {ليسوءوا وُجُوهَكُمْ} ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها، كقوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله {إن أحسنتم} والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم، و {وعد الآخرة} معناه من المرتين المذكورتين، وقوله {ليسوءوا} اللام لام أمر، وقيل المعنى بعثناهم {ليسوءوا} فهي لام كي كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد...
اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤوا إلى أنفسهم، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب، وأن الإساءة إليها قبيحة، فلهذا المعنى قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}...
قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال: {وإن أسأتم فلها} ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك...
يقال: ساءه يسوءه أي أحزنه، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه. وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما ثبت بكون ما توعد به سبحانه في أوقاته كما أخبر به بطشه وحلمه، فثبتت قدرته وعلمه، أشار إلى أن من سبب إذلاله لمن يريد به الخير المعصية، وسبب إعزازه الطاعة، فقال تعالى: {إن أحسنتم} أي بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان {أحسنتم لأنفسكم} فإن ذلك يوجب كوني معكم فأكسبكم عزاً في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {وإن أسأتم} أي بارتكاب المحرمات والإفساد {فلها} الإساءة، وذكرها باللام تنبيها على أنها أهل لزيادة النفرة لأن كل أحد يتطير من نسبتها إليه عبارة كانت، فإذا تطير مع العبارة المحبوبة فكيف يكون حاله مع غيرها...
ولما انتهزت فرصة الترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية، عطف الوعيد الثاني بالفاء إشارة إلى أنه بعد نصر بني إسرائيل على أهل المرة الأولى، ولعلها أيضاً مؤذنة بقرب مدتها من مدة الإدالة فقال تعالى: {فإذا جاء} أي أتى إتياناً هو كالملجأ إليه قسراً على خلاف ما يريده الآتي إليه {وعد الآخرة} أي وقته، فاستأهلتم البلاء لما أفسدتم وأحدثتم من البلايا التي أعظمها قتل زكريا ويحيى عليهما السلام والعزم على قتل عيسى عليه السلام {ليسوءوا} أي بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوءوا {وجوهكم} أي يجعل آثار المساءة بادية فيها، وحذف متعلق اللام لدلالة الأول عليه {وليدخلوا المسجد} أي الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج، وجعلناه محل أمنكم وعزكم، ثم جعلناه محلاً لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء به إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم ثَّمَ، وهذا تعريض بالتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا أبدل أمنهم في الحرم خوفاً وعزهم ذلاً، فأدخل عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم دائماً أبداً {كما دخلوه} أي الأعداء {أول مرة} بالسيف، ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة {وليتبروا} أي يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق {ما علوا} أي عليه من ذلك، وقيل: ما مصدرية، أي مدة علوهم فيكون {يتبروا} قاصراً فيعظم مدلوله، وأكد الفعل وحقق الوعد فقال: {تتبيراً}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة؛ والتي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسؤولا عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء...
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد، فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض، ودمر مملكتهم فيها تدميرا. ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا. والعبرة هي المطلوبة هنا. وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} وقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها. فاللام لتعدية فعل {أحسنتم}، يقال: أحسنت لفلان. وكذلك قوله: {وإن أسأتم فلها}. فقوله: {فلها} متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب، تقديره: أسأتم لها. وليس المجرور بظرف مستقر خبراً عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل {أسأتم} لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها، كقوله في سورة [فصلت: 46] {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد، إذ التقدير فيها: فعمله لنفسه وإساءته عليه، فلما كان المقدر اسماً كان المجرور بعده مستقراً غير حرف تعدية، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعاً فيخبر عنه بمجرور باللام، أو ضاراً يخبر عنه بمجرور ب (إلى)، وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر...
{فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} تفريع على قوله: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة. قد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} [الإسراء: 5]، ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع. و {الآخرة} صفة لمحذوف دل عليه قوله: {مرتين}، أي وعد المرة الآخرة. وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء. والآخرة ضد الأولى...
ولاماتُ « ليسوؤوا، وليدخلوا، وليتبروا» للتعليل، وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث، ولو كانا لامَيْ أمرٍ لكانَا ساكنين بعد واو العطف، فيتعين أن اللام الأول لام أمر لا لام جر. والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عباداً لنا ليسوؤا وجوهكم الخ...
وضميرا « ليسوءوا وليدخلوا» عائدان إلى {عباداً لنا} [الإسراء: 5] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد، على نحو قولهم: عندي درهم ونصفه، أي نصف صاحب اسم درهم، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بُعد الزمن بين المرتين: فكان هذا الإضمار من الإيجاز. وضمير كما دخلوه} عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى: {وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها} [الروم: 9]... وسَوْء الوجوه: جَعْل المساءة عليها، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد، كقول الأعشى: وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تَفْرق أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم...
ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله: {كما دخلوه أول مرة} المراد منه قوله: {فجاسوا خلال الديار} [الإسراء: 5]. والتتبِير: الإهلاك والإفساد. و {ما علوا} موصول هو مفعول « يتبروا»، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب، والتقدير: ما علوه، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب...
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة، فكان إيماء إلى أنهم لا مُلك لهم بعد هذه المرة. وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه...
ومازال الخطاب موجهاً إلى بني إسرائيل، هاكم سنة من سنن الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر، وهي أن من أحسن فله إحسانه، ومن أساء فعليه إساءته. فهاهم اليهود لهم الغلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله؛ لأن هذه سنة كونية، من استحق الغلبة فهي له؛ لأن الحق سبحانه وتعالى منزه عن الظلم، حتى مع أعداء دينه ومنهجه. والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله...
{إن أحسنتم}: فيه إشارة إلى أنهم في شك أن يحسنوا، وكأن أحدهم يقول للآخر: دعك من قضية الإحسان هذه. فإذا كانت الكرة الآن لليهود، فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ لا.. لن تظل لهم الغلبة، ولن تدوم لهم الكرة على المسلمين، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة}: أي: إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم، وقد سبق أن قال الحق سبحانه عنهم: {لتفسدن في الأرض مرتين}: وبينا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصحوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغلبة والقوة، وستعود لنا الكرة على اليهود...
وقوله تعالى: {ليسوءوا وجوهكم}: أي: نلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لأن الوجه هو السمة المعبرة عن نوازع النفس الإنسانية، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر، وهو أشرف ما في المرء، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة...
{وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ}: أي: أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى وسينقذونه من أيدي اليهود. {دخلوه أول مرةٍ}: المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخول المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين. فدخوله الأول لم يكن إساءة لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونطهره من رجسهم. ونلحظ كذلك في قوله تعالى: {كما دخلوه أول مرةٍ}: أن القرآن لم يقل ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج. إذن: فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لنبوءة القرآن، وكأن الحق سبحانه يريد أن يلفتنا: إن أردتم أن تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه...
وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة}: كلمة الآخرة تدل على أنها المرة التي لن تتكرر، ولكن يكون لليهود غلبة بعدها. وقوله تعالى: {وليتبروا ما علوا تتبيراً}: يتبروا: أي: يهلكوا ويدمروا، ويخربوا ما أقامه اليهود وما بنوه وشيدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم...
لكن نلاحظ أن القرآن لم يقل: ما علوتم، إنما قال (ما علوا) ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم، فاليهود بذاتهم ضعفاء، لا تقوم لهم قائمة، وهذا واضح في قوله الحق سبحانه عنهم: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "112 "} (سورة آل عمران): فهم أذلاء أينما وجدوا، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظله، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويعاونونهم. واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهوية لا تذوب في غيرهم من الأمم، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى "حارة اليهود"، ولم يكن لهم ميل للبناء والتشييد؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم: {وقطعناهم في الأرض أمماً.. "168 "} (سورة الأعراف): كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية، أما الآن، وبعد أن أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حد زعمهم، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تقول الآية في وصف المشهد الثّاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم: (فإِذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم). بل ويأخذون مِنكم حتى بيت المقدس: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوَّل مرَّة). وهم لا يكتفون بذلك، بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمرّونها عن آخرها: (وليتِّبروا ما علوا تتبيراً)...