الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا} (7)

قوله تعالى : { فَلَهَا } : في اللامِ أوجهٌ : أحدُها : أنها بمعنى " على " ، أي فعليها كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَخَرَّ صريعاً لليدينِ وللفمِ

أي : على اليدين . والثاني : أنها بمعنى إلى . قال الطبري : " أي/ فإليها تَرْجِعُ الإِساءةُ " . الثالث : أنها على بابها ، وإنما أتى بها دونه " على " للمقابلة في قوله : " لأنفسِكم " فأتى بها ازْدِواجاً . وهذه اللامُ يجوز أن تتعلَّقَ بفعلٍ مقدرٍ كما تقدَّم في قولِ الطبريِّ ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه : فلها الإِساءةُ لا لغيرِها .

قوله : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } ، أي : المرة الآخرة فَحُذِفَت " المرَّة " للدَّلالة عليها ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه : بَعَثْناهم .

وقوله : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر " لِيَسُوْءَ " بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل . والفاعلُ : إمَّا اللهُ تعالى ، وإمَّا الوعدُ ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النفيرُ . والكسائيُّ " لِنَسُوءَ " بنونِ العظمة ، أي : لِنَسُوءَ نحن ، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه " بَعَثْنا عباداً لنا " و " رَدَدْنا " و " أَمْدَدْنا " ، وما بعده من قوله : " عُدْنا " و " جَعَلْنا " .

وقرأ الباقون : " لِيَسُوْءُوا " مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد ، أو على النفير ؛ لأنه اسمُ جمعٍ ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ } . وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين ، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم ؟ اللهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه ، من بابِ " عندي درهمٌ ونصفُه " .

وقرأ أُبَيٌّ " لِنَسُوْءَنْ " بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة ، وهذا جوابٌ ل " إذا " ، ولكن على حَذْفِ الفاء ، أي " فَلِنَسُوْءَنْ ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى : { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ] .

وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب " لَيَسُوْءَنَّ " و " وَلَنَسوْءَنَّ " بالياء أو النون التي للعظمةِ ، ونونِ التوكيدِ الشديدة ، واللامِ التي للقسَمِ . وفي مصحف اُبَيّ " لِيَسُوْءُ " بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة ، كقوله :

فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد : " كانوا " . وقولِ الآخر :

إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد " جاعُوا " ، فكذا هذه القراءةُ ، أي : لِيَسُوْءُوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فَحَذَفَ الوَاو .

وقرئ " لِيَسْيء " بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ اللهُ وجوهكم ، أو ليقبِّح الوعدُ ، أو البعثُ . وفي مصحفِ أنس " وَجْهَكم " بالإِفرادِ كقوله :

كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ وكقوله : ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا

[ وكقوله : ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ

قوله : " ولِيَدْخُلُوا " مَنْ جَعَلَ الأولى لامَ " كي " كانت هذه أيضاً لامَ " كي " معطوفةً عليها ، عَطْفَ علةٍ على أخرى ، ومَنْ جَعَلَها لامَ أمرٍ كأُبَيِّ ، أو لامَ قسمٍ كعليّ بن أبي طالب فاللامُ في " لِيَدْخُلوا " تحتمل وجهين : الأمرَ والتعليل ، و { كَمَا دَخَلُوهُ } نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميره ، كما يقول سيبويه ، أي : دخولاً كما دخلوه . و { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ظرفُ زمانٍ ، وتقدَّم/ الكلامُ عليها في براءة .

[ قوله : ] { مَا عَلَوْاْ } يجوز في " ما " أن تكونَ مفعولاً بها ، أي : ليُهْلِكُوا الذي عَلَوه ، وقيل : ليَهْدِمُوه كقوله :

وما الناسُ إلا عاملان فعامِلٌ *** يُُتَبِّرُ ما يَبْني وآخرُ رافِعُ

ويجوز فيها أَنْ تكونَ ظرفيةً ، أي : مدةَ استعلائِهم وهذا مُحْوجٌ إلى حذفِ مفعولٍ ، اللهم إلا أَنْ يكونَ القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعلِ نحو : هو يعطي ويمنع .