الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا} (7)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال سبحانه: {إن أحسنتم} العمل لله بعد هذه المرة،

{أحسنتم لأنفسكم}، فلا تهلكوا، {وإن أسأتم فلها}، يعني: وإن عصيتم فعلى أنفسكم، فعادوا إلى المعاصي الثانية، فسلط الله عليهم أيضا... فذلك قوله عز وجل: {فإذا جاء وعد الآخرة}، يعني وقت آخر الهلاكين،

{ليسوؤوا وجوهكم}، يعنى ليقبح وجوهكم، فقتلهم وسبى ذراريهم، وخرب بيت المقدس... فذلك قوله عز وجل: {وليدخلوا المسجد}، يعني: بيت المقدس...

{كما دخلوه أول مرة}... قال سبحانه: {وليتبروا ما علوا تتبيرا}، يقول عز وجل: وليدمروا ما علوا، يقول: ما ظهروا عليه تدميرا...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة:"إنْ أحْسَنْتُمْ" يا بني إسرائيل، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم، ولزمتم أمره ونهيه "أحْسنْتُمْ "وفعلتم ما فعلتم من ذلك "لأَنْفُسِكُمْ" لأنّكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءا، وينمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلى قوّتكم قوّة. وأما في الآخرة فإن الله تعالى يثيبكم به جنانه، "وإنْ أسأْتُمْ" يقول: وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم، فيسلط عليكم في الدنيا عدوّكم، ويمكّن منكم من بغاكم سوءا، ويخلدكم في الآخرة في العذاب المهين. وقال جلّ ثناؤه:"وَإنْ أسأْتُمْ فلها" والمعنى: فإليها كما قال:"بأنّ رَبّكَ أوْحى لَها" والمعنى: أوحى إليها.

"فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ" يقول: فإذا جاء وعد المرّة الآخرة من مرّتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض.

"لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ" يقول: ليسوء مجيء ذلك الوعد للمرّة الآخرة وجوهكم فيقبّحها. وقد اختلف القرّاء في قراءة قوله "لِيْسُوءُوا وُجُوهَكُمْ" فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة "لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ" بمعنى: ليسوء العباد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله عليكم وجوهكم، واستشهد قارئو ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله "وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ" وقالوا: ذلك خبر عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله "لِيَسُوءُوا". وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: «لِيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» على التوحيد وبالياء. وقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل أحدهما ما قد ذكرت، والآخر منهما: ليسوء الله وجوهكم. فمن وجّه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهَكم، جعل جواب قوله «فإذا» محذوفا، وقد استغني بما ظهر عنه، وذلك المحذوف «جاء»، فيكون الكلام تأويله: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوء وجوهكم جاء. ومن وجّهَ تأويله إلى: ليسوء الله وجوهكم، كان أيضا في الكلام محذوف، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه، غير أن ذلك المحذوف سوى «جاء»، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم، فيكون المضمر بعثناهم، وذلك جواب «إذا» حينئذٍ. وقرأ ذلك بعض أهل العربية من الكوفيين: «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» على وجه الخبر من الله تبارك وتعالى اسمه عن نفسه...

"وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كمَا دَخَلُوهُ أوّلَ مَرّةٍ" يقول: وليدخل عدوّكم الذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرا منهم لكم وغلبة، كما دخلوه أوّل مرّة حين أفسدتم الفساد الأوّل في الأرض.

"وَلِيُتَبّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرا" فإنه يقول: وليدمّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا. يقال منه: دمّرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

"إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم" لا لله، إذ إليكم ترجع منفعة ذلك، وأنتم تجزون وعلى ذلك {وإن أسأتم فلها} أي فعليها كقوله: {من عمل صالحا فلنفسه} الآية (فصلت: 46) أي عليها ضرر ذلك وعلى ذلك جميعا (ما) أمر الله عباده من الأعمال، أو نهاهم عنها، إنما أمر ونهى لمنفعة أنفسهم ولحاجتهم لا لمنفعة له... وقال بعضهم: {وإن أسأتم فلها} أي إلى أنفسكم تسيؤون...

وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة} أي جاء وعد موعود الآخرة، وهو العقوبة بعصيانهم وتكذيبهم رسل الله.

{فإذا جاء وعد الآخرة} بالتغيير وتبديل الدين {ليسوءوا وجوهكم}... ولم يبين من يسوء وجوهكم كما ذكر في الوعد الأول {فإذا جاء وعد أولاهما بعثا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد} فهم يسوءون وجوهكم. ومن قرأ بالنون: لنسوء {وجوهكم} أضاف إلى نفسه لما يأمره ما كان يفعل وبتسليطه إياهم عليهم. وقال بعضهم: ذكر الوجه ههنا كناية عن الحزن والهم والإهانة لهم كما يقال في السرور: أكرم وجهه، أي أدخل فيه سرورا، وذكر الوجه يظهر ذلك التغيير والقبح، والله أعلم...

{وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} في ظاهر الآية أن يدخل الأولون المسجد في المرة الثانية كما دخل الأولون في المرة الأولى لأنه قال: {كما دخلوه أول مرة} لكن يحتمل ليدخل عباد آخرون المسجد في المرة الثانية كما دخل الأولون في المرة الأولى. وقال بعضهم: المسجد ههنا: الكنيسة والبيعة...

{وليتبروا ما علوا تتبيرا} أي ليهلكوا ما عملوا به، أي ما غلبوا به، وقهروا، أي الأسباب التي عصوا بها. وقال أبو عوسجة: {وما علوا} أي ليفسدوا ما ملكوا، والتبار: الفساد، يقال: علوت الشيء، أي ملكت...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} لأن الجزاء بالثواب يعود إليها، فصار ذلك إحساناً لها. {وإن أسأتُم فلها} أي فإليها ترجع الإساءة لما يتوجه إليها من العقاب، فرغَّب في الإحسان وحذر من الإساءة. ثم قال تعالى: {فإذا جاءَ وعْدُ الآخرة ليسوءُوا وجوهكم} يعني وعد المقابلة على فسادهم في المرة الثانية...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إنْ أحسنتُم فثوابِكم كسبتم، وإنْ أسأتم فعداءَكم جَلَبْتُم -والحقُّ أعزُّ مِنْ أَنْ يعودَ إليه من أفعال عبادِه زَيْنٌ أو يلحقه شَيْنٌ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أي الإحسان والإساءة: كلاهما مختص بأنفسكم، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن عليّ رضي الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه، وتلاها. {فَإِذَا جَآء وَعْدُ} المرّة {الآخرة} بعثناهم {ليسوءوا وُجُوهَكُمْ} حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. ومعنى {ليسوءوا وُجُوهَكُمْ} ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها، كقوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27]...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله {إن أحسنتم} والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم، و {وعد الآخرة} معناه من المرتين المذكورتين، وقوله {ليسوءوا} اللام لام أمر، وقيل المعنى بعثناهم {ليسوءوا} فهي لام كي كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤوا إلى أنفسهم، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب، وأن الإساءة إليها قبيحة، فلهذا المعنى قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}...

قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال: {وإن أسأتم فلها} ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك...

يقال: ساءه يسوءه أي أحزنه، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه. وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فلما ثبت بكون ما توعد به سبحانه في أوقاته كما أخبر به بطشه وحلمه، فثبتت قدرته وعلمه، أشار إلى أن من سبب إذلاله لمن يريد به الخير المعصية، وسبب إعزازه الطاعة، فقال تعالى: {إن أحسنتم} أي بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان {أحسنتم لأنفسكم} فإن ذلك يوجب كوني معكم فأكسبكم عزاً في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {وإن أسأتم} أي بارتكاب المحرمات والإفساد {فلها} الإساءة، وذكرها باللام تنبيها على أنها أهل لزيادة النفرة لأن كل أحد يتطير من نسبتها إليه عبارة كانت، فإذا تطير مع العبارة المحبوبة فكيف يكون حاله مع غيرها...

ولما انتهزت فرصة الترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية، عطف الوعيد الثاني بالفاء إشارة إلى أنه بعد نصر بني إسرائيل على أهل المرة الأولى، ولعلها أيضاً مؤذنة بقرب مدتها من مدة الإدالة فقال تعالى: {فإذا جاء} أي أتى إتياناً هو كالملجأ إليه قسراً على خلاف ما يريده الآتي إليه {وعد الآخرة} أي وقته، فاستأهلتم البلاء لما أفسدتم وأحدثتم من البلايا التي أعظمها قتل زكريا ويحيى عليهما السلام والعزم على قتل عيسى عليه السلام {ليسوءوا} أي بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوءوا {وجوهكم} أي يجعل آثار المساءة بادية فيها، وحذف متعلق اللام لدلالة الأول عليه {وليدخلوا المسجد} أي الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج، وجعلناه محل أمنكم وعزكم، ثم جعلناه محلاً لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء به إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم ثَّمَ، وهذا تعريض بالتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا أبدل أمنهم في الحرم خوفاً وعزهم ذلاً، فأدخل عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم دائماً أبداً {كما دخلوه} أي الأعداء {أول مرة} بالسيف، ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة {وليتبروا} أي يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق {ما علوا} أي عليه من ذلك، وقيل: ما مصدرية، أي مدة علوهم فيكون {يتبروا} قاصراً فيعظم مدلوله، وأكد الفعل وحقق الوعد فقال: {تتبيراً}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة؛ والتي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسؤولا عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء...

ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد، فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض، ودمر مملكتهم فيها تدميرا. ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا. والعبرة هي المطلوبة هنا. وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} وقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها. فاللام لتعدية فعل {أحسنتم}، يقال: أحسنت لفلان. وكذلك قوله: {وإن أسأتم فلها}. فقوله: {فلها} متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب، تقديره: أسأتم لها. وليس المجرور بظرف مستقر خبراً عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل {أسأتم} لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها، كقوله في سورة [فصلت: 46] {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد، إذ التقدير فيها: فعمله لنفسه وإساءته عليه، فلما كان المقدر اسماً كان المجرور بعده مستقراً غير حرف تعدية، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعاً فيخبر عنه بمجرور باللام، أو ضاراً يخبر عنه بمجرور ب (إلى)، وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر...

{فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} تفريع على قوله: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة. قد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} [الإسراء: 5]، ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع. و {الآخرة} صفة لمحذوف دل عليه قوله: {مرتين}، أي وعد المرة الآخرة. وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء. والآخرة ضد الأولى...

ولاماتُ « ليسوؤوا، وليدخلوا، وليتبروا» للتعليل، وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث، ولو كانا لامَيْ أمرٍ لكانَا ساكنين بعد واو العطف، فيتعين أن اللام الأول لام أمر لا لام جر. والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عباداً لنا ليسوؤا وجوهكم الخ...

وضميرا « ليسوءوا وليدخلوا» عائدان إلى {عباداً لنا} [الإسراء: 5] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد، على نحو قولهم: عندي درهم ونصفه، أي نصف صاحب اسم درهم، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بُعد الزمن بين المرتين: فكان هذا الإضمار من الإيجاز. وضمير كما دخلوه} عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى: {وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها} [الروم: 9]... وسَوْء الوجوه: جَعْل المساءة عليها، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد، كقول الأعشى: وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تَفْرق أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم...

ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله: {كما دخلوه أول مرة} المراد منه قوله: {فجاسوا خلال الديار} [الإسراء: 5]. والتتبِير: الإهلاك والإفساد. و {ما علوا} موصول هو مفعول « يتبروا»، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب، والتقدير: ما علوه، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب...

ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة، فكان إيماء إلى أنهم لا مُلك لهم بعد هذه المرة. وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ومازال الخطاب موجهاً إلى بني إسرائيل، هاكم سنة من سنن الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر، وهي أن من أحسن فله إحسانه، ومن أساء فعليه إساءته. فهاهم اليهود لهم الغلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله؛ لأن هذه سنة كونية، من استحق الغلبة فهي له؛ لأن الحق سبحانه وتعالى منزه عن الظلم، حتى مع أعداء دينه ومنهجه. والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله...

{إن أحسنتم}: فيه إشارة إلى أنهم في شك أن يحسنوا، وكأن أحدهم يقول للآخر: دعك من قضية الإحسان هذه. فإذا كانت الكرة الآن لليهود، فهل ستظل لهم على طول الطريق؟ لا.. لن تظل لهم الغلبة، ولن تدوم لهم الكرة على المسلمين، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة}: أي: إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم، وقد سبق أن قال الحق سبحانه عنهم: {لتفسدن في الأرض مرتين}: وبينا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصحوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغلبة والقوة، وستعود لنا الكرة على اليهود...

وقوله تعالى: {ليسوءوا وجوهكم}: أي: نلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم؛ لأن الوجه هو السمة المعبرة عن نوازع النفس الإنسانية، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر، وهو أشرف ما في المرء، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة...

{وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ}: أي: أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى وسينقذونه من أيدي اليهود. {دخلوه أول مرةٍ}: المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخول المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين. فدخوله الأول لم يكن إساءة لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونطهره من رجسهم. ونلحظ كذلك في قوله تعالى: {كما دخلوه أول مرةٍ}: أن القرآن لم يقل ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج. إذن: فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لنبوءة القرآن، وكأن الحق سبحانه يريد أن يلفتنا: إن أردتم أن تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه...

وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة}: كلمة الآخرة تدل على أنها المرة التي لن تتكرر، ولكن يكون لليهود غلبة بعدها. وقوله تعالى: {وليتبروا ما علوا تتبيراً}: يتبروا: أي: يهلكوا ويدمروا، ويخربوا ما أقامه اليهود وما بنوه وشيدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم...

لكن نلاحظ أن القرآن لم يقل: ما علوتم، إنما قال (ما علوا) ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم، فاليهود بذاتهم ضعفاء، لا تقوم لهم قائمة، وهذا واضح في قوله الحق سبحانه عنهم: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس "112 "} (سورة آل عمران): فهم أذلاء أينما وجدوا، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظله، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويعاونونهم. واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهوية لا تذوب في غيرهم من الأمم، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى "حارة اليهود"، ولم يكن لهم ميل للبناء والتشييد؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم: {وقطعناهم في الأرض أمماً.. "168 "} (سورة الأعراف): كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية، أما الآن، وبعد أن أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حد زعمهم، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تقول الآية في وصف المشهد الثّاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم: (فإِذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم). بل ويأخذون مِنكم حتى بيت المقدس: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوَّل مرَّة). وهم لا يكتفون بذلك، بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمرّونها عن آخرها: (وليتِّبروا ما علوا تتبيراً)...